بحث

الصحبة

الصحبة

بسم الله الرحمن الرحيم

     بادئ ذي بدء الأحداث التي وقعت في حياة النبي كانت مقصودة لذاتها، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً مشرعاً لنا، لذلك إذا قال الله عز وجل:  ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.  

     عقد زعماء قريش اجتماعاً خطيراً في دار الندوة، حيث تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم لخص مؤامرتهم، قال تعالى:  ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ  أي ليسجنوك. أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ وقد  بيّن عبد الله بن عباس حصار المشركين لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، الآن هؤلاء الصناديد، كفار قريش، أبو لهب، أبو جهل، هؤلاء الذين قاوموا الدعوة، وحاربوا النبي، ونكلوا بأصحابه، أين هم اليوم؟ في مزبلة التاريخ، والذين وقفوا معه، أبو بكر عمر، عثمان، علي، طلحة، الزبير، ابن مسعود، هؤلاء الصحابة الكبار أين هم؟ في أعلى عليين. سيدنا علي، وهذه تضحية كبيرة، لأن المشركين ائتمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وضع مكانه علي بن أبي طالب، واحتمال أن يدخلوا عليه فجأة، ويقتلوه دون أن يتحققوا قائم، فلذلك أبو سفيان قال مرة: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً. امضِ يا رسول الله بما أردت، نحن معك، والله لو خضت هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ودع ما شئت، فو الذي بعثك بالحق للذي تأخذه أحب إلينا من الذي تدعه لنا، هكذا الصحابة، الصحابة الكرام أكرم الله نبيه بهم، فقال عليه الصلاة والسلام:  ((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي)).  

     لماذا أبقى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه وعرضه للخطر، خطر القتل، من أجل ماذا؟ من أجل أن يرد الودائع لأصحابها، من أصحاب الودائع؟ كفار، لذلك قال تعالى:  ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وقال عليه الصلاة  والسلام ((من غش فليس منا))  مطلقاً، لو كان عابد وثن ينبغي ألا تغشه، إسلامنا إنساني، الإسلام أممي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ((اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا، فإنها ليس دونها حجاب)) ضحى بابن عمه علي، واحتمال قتله قائم، من أجل أن يرد الودائع إلى أصحابها المشركين، وكما تعلمون انتقل النبي إلى غار ثور، وقام المشركون بتقفي أثره. 

     الحقيقة عودًا على بدء، ذكرت لكم في أول الدرس أن كل الأحداث التي وقعت في أحداث النبي مقصودة لذاتها، النبي علمنا أن نأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، علمنا ذلك والله عز وجل شاءت حكمته أن يصل المطاردون إليه، لماذا؟ ما الحكمة؟ الحكمة أنه أخذ بالأسباب تعبداً لله، ولم يعتمد عليها، لكنه اعتمد على الله، فلما وصلوا إليه كان واثقاً من الله قال:  ((يَا أَبا بَكْرٍ، مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا؟)).  

     وحين أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب جاء صلى الله عليه وسلم متقنعاً إلى منزل أبي بكر رضي الله عنه في وقت لم يعتد أن يزوره فيه في نحر الظهر، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، وقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه وقائع ما جرى قالت:  بينما كنا نحن يوماً جلوسًا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، يعني لأمر جللٍ، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم،   يعني هل أكون صاحباً لك ؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: نعم، فقال أبو بكر: فخذْ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قطعت نطاقها قطعتين على شكل سريدة، وربطت بها فم الجوربين، الذين فيهما غذاء الصاحبين. 

     فلذلك أيها الإخوة، نحن يجب أن نستفيد من هذه السيرة، الحياة مواقف، الحياة مواقف بطولية، الحياة التزام، الحياة صبر، الحياة تضحية، من لم يكن له مثل هذه الأعمال هو ميت كحي، وحي كميت. ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء. والله عز وجل وصف أهل الدنيا بأنهم.  ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ .



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 29 - الهجرة -4- الصحبة