أيها الإخوة الكرام، لا يغيب عنكم أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوة إدراكية هذه القوة الإدراكية تقتضي أن تبحث عن الحقيقة، فمجرد أنك تبحث عن الحقيقة فأنت تنتمي إلى صنف البشر، الذين كرمهم الله عز وجل قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾. لأن الله كرمك بالقوة الإدراكية؛ إذاً هي الحاجة العليا عندك، فما لم تُلَبَّ هذه الحاجة يسقط الإنسان من هذا المستوى الرفيع الذي كرمه الله به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قمة البشر، وجعله الله قدوة لنا وأسوة، من هنا كان من الواجبات الحتمية على كل منا أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن الله عز وجل يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. فكيف يكون النبي أسوة حسنة لنا، ونحن لا تعرف سيرته؟ وما لا يتم الفرض به فهو فرض، وما لا يتم الواجب به فهو واجب، فإذا كان كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب وقد قال الله عز وجل: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. وصدقوا أيها الإخوة، لو لم يكن كتاب ولا سنة لكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بأبعادها ودلالتها كتاباً وسنة، إلا أن السيرة العملية تتميز بأنها حدية في الاستنباط، فالإنسان قد يقول كلمة وقد تؤوّل يمنة ويسرة، أما إذا سلك سلوكاً فالسلوك حدي، الموقف العملي حدي، والموقف الكلامي يحتمل التأويل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ، ثُمّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾ يعني؟ تقول: سأنشئ مستشفى هدفه معالجة الفقراء والمساكين، بعد أن تشعر بقيمة المال الذين دخلوا هذه المستشفى تأتيهم الجلطة من الفاتورة، دخلت مدخل صدق، لكن لم تخرج مخرج صدق. لذاك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة دخلها مطأطأ الرأس تواضعاً لله عز وجل، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، ﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك، يا ذا القوة المتين، هذا معنى قوله تعالى ﴿رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ حينما أُمر بالهجرة .
وقد انطلق النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغار من بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثوبه، ونام في مكانه، واخترق النبي صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه بعد أن أوصى علياً بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به، فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب بأن نبي الله في بيته، فقال: يا نبي الله، فقال علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه في الغار، قال: وجعل علي يرمي بالحجارة كما كان يرمي نبي الله، وهو يتضور، فقد لف رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك للئيم ـ توقعوا أن النبي في البيت ـ كان صاحبك نرميه فلا يتضور، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك، إذاً النبي خرج من بيته إلى غار ثور.
مرة ثانية للتذكير: الذي انتقل من مكة إلى بيت المقدس بلمح البصر لمَ لم ينتقل من مكة إلى المدينة بلمح البصر؟ لأنه قدوة لنا، هذا يذكرنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هاجر نهاراً جهاراً متحدياً، قال: من أراد أن تثكله أمه، أو أن يتيم ولده، فليلحق بي إلى ذلك الوادي، وقد يسأل سائل: أيعقل أن يكون عمر بن الخطاب أشجع من رسول الله؟ الجواب: لا، وألف لا، ولكن عمر ليس مشرّعاً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرّع، النبي مشرع، ويجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامر بن فُهَيرة أن يصحبهما في هجرتهما ليخدمهما، ويعينهما على الطريق، وحمل أبو بكر رضي الله عنه ثروته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرت أسماء بنت أبي بكر أنها كانت خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في الغار ثلاث ليال تمكن المشركون خلالها من اقتفاء آثارهم إلى الغار، وقد ذكرت كثيراً أن حكمة وصول المطاردين إلى الغار ليعرف العالم كله أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخذ بالأسباب لم يعتمد عليها، ولكنه اعتمد على الله، وهذا الموقف دقيق جداً، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء فيما يبدو، ويجب أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
طبعاً سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وتعتمد عليها، وسهل جداً ألا تأخذ بها، وأن تتواكل على الله، لكن البطولة أن تأخذ بالأسباب بشكل دقيق، ثم تتوكل على الله، وكأنك لم تأخذ بالأسباب. الحالة الثالثة صعبة تحتاج إلى علم عميق، وإيمان دقيق.