حدثٌ وقع حقيقةً، وقد أكدّت بوقوعها، لذلك هناك تجاذبات بين من يقول: هذه مثالية لا جدوى منها، وهذه واقعية حقيقية، جاء الإسلام بمثالية واقعية، أو بواقعية مثالية، المثالية تُتهم بأنها حالمة، والواقعية تُتهم بأنها مقيتة، أما أن يأتي دين عظيم فيجعل من الواقع مثالياً، ويجعل من المثالية واقعاً فهذا الذي حصل. فلو قرأتم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ـ ونحن نقرأها ـ لوجدتم أن هذا الإنسان بشر، لولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، حينما تقرأ أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق دخل إلى غار ثور، ومعه الصديق، وقد أخذ بكل الأسباب من دون استثناء، لم يدع ثغرةً إلا سدّها، لم يدع احتمالا إلا وغطاه، لم يدع سبباً إلا أخذ به، وقد علّمنا درساً لا يُنسى في أخذ الأسباب، والحقيقة أنه ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، ومن السهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد عليها، ومن السهل جداً أن تتواكل على الله زاعماً أنك متوكل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب،1. فقد اختار خبيرًا للطريق، 2. وذهب مساحلاً على عكس توقع الخصوم، 3. وقبع في الغار أياماً ثلاثة، 4. وهيأ من يأتيه بالأخبار، 5. ومن يأتيه بالطعام والشراب، 6. ومن يمحو الآثار، ومع ذلك وصلوا إليه. المعنى الدقيق من وصول المطاردين إليه يكمن في أن النبي عليه الصلاة والسلام لو أنه أخذ بالأسباب، واعتمد عليها لانهارت قواه حينما عثر عليه المطاردون، ولكنه أخذ بالأسباب تعبداً لله عز وجل، فلما وصلوا إليه قال: ((يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا)).
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاث ليال تمكن المشركون خلالها من اقتفاء آثارهم إلى الغار، وقد بكى الصديق، خوفاً على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم. النبي الكريم قال عن الصديق: ((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك )) وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر)). وقد بكى الصديق خوفاً على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يرى أقدامهم عند فم الغار، وقال: يا نبي الله، لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((يَا أَبا بَكْرٍ، مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا؟)) وفي رواية أنه قال له: لقد رأونا، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ يصف الله جل جلاله هذا الحدث في الغار بقوله: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. وقد أن أخفقت قريش في العثور عليهما، فأعلنت حينها عن مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما.
وقد تحدث أبو بكر عن بداية رحلة الهجرة فقال: أُخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلاً، يعني شرعوا بالتعبير الحديث بالحاسة السادسة، مراقبة شديدة، فانطلقا ليلاً، وأسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر أحد، حتى رُفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لن تأتي عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، وجد صخرة كبيرة لها ظل، فمهّد مكانًا لينام النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نمّ يا رسول الله، وأنا أنفض ما حولك، فنام، هذا هو الحب، وهذا أول ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، وذكر أبو بكر خبر قدوم راعٍ مقبل إلى الصخرة يريد منها شيئاً مثل الذي أرادوا، أن ينام في ظلها، وعرف أبو بكر منه أنه رجل من أهل مكة ، ورضي أن يحلب لهم من شاة له، وطلب منه أبو يكر أن ينظف لهم الضرع قبل الحلب من أجل النبي الكريم، وكره أن يوقظ النبي صلى الله عليه وسلم ليشرب، فانتظره حتى استيقظ، فشرب، ثم أمر بالرحيل.
وكان عليه الصلاة والسلام يردف أبا بكر معه على راحلته، وكان إذا سأل أحد أبا بكر عن رسول الله: مَن هذا؟ يقول: هذا رجل يهديني السبيل، فيحسبه السائل دليلاً لطريقه، وهو يكني عن السبيل بسبيل الخير والهدى والصلاح.
سراقة طمع بمئتي ناقة، وأراد قتل النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه شعر أن هذا الإنسان ممنوع منه، قال له: يا سراقة، كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ثم لبس سواري كسرى حقيقة.
إخواننا الكرام، كان من الممكن أن يكون الكفار في كوكب، والمؤمنون في كوكب، لا حروب، ولا نفاق، ولا كفر، ولا بدر، ولا أحد، ولا الخندق، وكان من الممكن أن يكون المؤمنون في حقبة من ألف إلى ألف وخمسمئة، فقط، الخمسمئة إلى الألفين فيها مؤمنون، ولكن الله شاءت حكمته أن يكون المؤمنون مع غير المؤمنين في أماكن واحدة، إذاً هناك معركة بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية، أقول هذه العبارة الحديثة: المؤمن الصادق يحترم قرار الله عز وجل، لقد أراد الله أن يجمعنا، وأراد الله أن تكون معركة بيننا، هي معركة الحق والباطل، لأن الإيمان لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن المؤمنين لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية، وقد سمح الله لنا أن نضحي من أجل جنة عرضها السماوات والأرض، ولأن الكفار عباد الله، لعلهم يهتدون مع المؤمنين، فيجب أن تحترم قرار الله عز وجل، ومعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية.