بحث

غار حراء

غار حراء

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الإخوة الكرام،  وأحب من حين لآخر أن أذكركم أن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا تعني سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن تعني منهجاً لكل مسلم، وأن كل مشكلات المسلمين المعاصرة لو طبقنا منهج النبي، ومواقفه، وتوجيهاته، إن من خلال أقواله، أو من خلال أفعاله لحلت مشكلاتنا، لأن الله سبحانه وتعالى بعثه رحمة للعالمين. والنقطة الدقيقة جداً أنه بقدر ما ترى أن هذا الإنسان قدوتك فأنت مؤمن، وبقدر ما تتوهم أن حياته خاصة به، وأن منهجه لأمة في بدايات الحياة، لأمة الصحراء، أمة البساطة، ونحن نحتاج إلى قوانين وإلى أنظمة معقدة جداً بحكم حيتنا المعقدة، فأنت بعيد عن الإيمان، منهج النبي صلى الله عليه وسلم صالح لكل زمان ومكان، منهج النبي صلى الله عليه وسلم صالح لكل ظرف وبيئة، الدليل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ﴾.  دققوا: الإنسان الذي يرجو المال مَن يكون قدوته؟ كبار التجار، حينما يستمع إليهم، وكيف يربحون الملايين المملينة تذوب نفسه شوقاً ليكون مثلهم، ومن كان ﴿يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر﴾ إذا استمع إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تذوب نفسه شوقاً ليكون على منهجه وعلى طريقه، فقل لي من الذي تراه عظيماً أقل لك من أنت.

     أيها الإخوة، ننتقل إلى موضوع تحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وما علاقتنا نحن بهذا التصرف؟ إنسان يترك زوجته وأولاده، وبيته وأمنه، وفراشه، ويذهب ميلين ـ يعني 3 كم ـ في أوعر طريق، وفي أصعب مسلك، ليصل إلى غار طبيعي مترين بمتر، يجلس وحده، لا فيه تكييف، ولا هو بيت آمن، ولا فيه مطبخ، ولا فيه برّاد، ولا عصير، ولا قهوة، ولا شاي، ولا فضائية، ولا متعة بهذه الفضائيات، ولا فيه زوجة مزينة أمامه، ولا أولاد يملؤون البيت جمالاً، هو بين صخور، ماذا فعل النبي في غار حراء؟ 

      كان عليه الصلاة والسلام يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، وكان يعتكف في كل سنة شهراً بأكمله، والسيدة خديجة كانت تأتيه بالزاد والطعام والشراب، تعبد النبي في غار حراء، كان يفكر في ملكوت السماوات والأرض، تفكر في كليات الحياة، في حقائق الحياة الكبرى.

      ما علاقتنا نحن بهذا، والله الذي لا إله إلا هو ما لم يكن لك غار حراء فلن تكون مؤمناً، لكن لا أطالبك أن تصعد إلى جبل وأنت تبحث عن مغارة، أطالبك أن تخلو بنفسك كل يوم في زاوية من بيتك، وأن تفكر من أنت؟ لماذا أنت في الدنيا؟ أين كنت قبل أن تولد؟ وماذا بعد الموت؟ ولماذا خلقنا؟ ولماذا جعل العمر قصيراً؟ ولماذا يموت الإنسان فجأة؟ وما حقيقة النفس؟ فكر ليكون لك غار حراء في بيتك، من أجل أن تخطط لمستقبلك ولآخرتك إن لم تخطط يخطط لك، إن لم تخطط تكن رقماً لا معنى له، لذلك غار حراء يعني التفكر، لأن الدنيا تأخذنا جميعاً أحياناً، من موعد لموعد، للقاء، لمشروع، لاجتماع، لسهرة، لندوة، وإلى متى أنت باللذات مشغول؟ غار حراء يجب أن تتأمل، أن تفكر، أن تناجي نفسك، أن تقيم حوارًا داخليًا، هذا غار حراء، فالنبي قدوتنا في غار حراء، ويجب أن يكون لكل واحد منا غار حراء يناجي فيه ربه، يسأله حاجاته كلها، يستغفره، يذكره، يتلو كتابه، يستسمح منه، يناجيه، يدعوه، هذا غار حراء من أجل أن تصح حركتك في الحياة مخططًا لها.

      وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً لتدبير الله له وليكون انقطاعه عن شواغر الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تتحول فيها طاقاته لاستقباله ما ينتظره من هذه البعثة العظيمة، فغار حراء نحن بحاجة إليه، ولكن مجزأ، وفي البيت، لا بد من خلوة مع الله.

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  

(( أوحى الله تعالى إلى موسى، أتحب أن أسكن معك بيتك فخر لله ساجدا ثم قال: فكيف يا رب تسكن معي في بيتي، فقال: يا موسى أما علمت أني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني )).  



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 39 - غار حراء وتعبد النبي فيه وتفكره