إخوتنا الكرام، يجب أن نعلم علم اليقين أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منهج بكل ما في الكلمة من معنى، ذلك لأنه في مكة المكرمة لـ 13 عاماً قوى النبي الكريم الإيمان في قلوب أصحابه، فصار الواحد كالجبل في الإيمان، لكنهم ضعفاء، لكن بعض الأصحاب كان يعذب أمام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يملك شيئاً إلا أن يقول لهم: ((صبراً آل يل سر فإن موعدكم الجنة)). ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة؟ بنى الإيمان، الإيمان قوي وتمكن وتعزز في مكة المكرمة، لكنهم ضعاف، وقد جاء توجيه الله لهم ألا يقاتلوا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾ . لكن هذا الحق القوي يحتاج إلى قوة، قوة الحق تحتاج إلى حق القوة، لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، دخل في مرحلة أخرى، في مرحلة ثانية، دخل في مرحلة تأسيس كيان إسلامي، تأسيس دولة إسلامية، وحارب قريشاً حروباً ثلاثة، وبعض الغزوات إلى أن انتزع منهم اعترافاً بالكيان الإسلامي في صلح الحديبية. كنا في مرحلة تقوية الإيمان في مكة المكرمة أما في المدينة فصار لهم كيان، وتشريع، وقوة.
قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة. غداة بمعنى؛ ذهب، راح؛ ينتظرونه حتى يدركهم حر الظهيرة، لأن هناك حبا. فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم فلما آووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم؛ على مرتفع من آطامهم لأمر ما، فبصر برسول الله وأصحابه من بعيد، فلم يملك اليهودي إلا أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فسار المسلمون إلى السلاح. لاثنتي عشرة ليلة كان أصحاب النبي يغدون باكراً لاستقبال النبي، في النهاية وصل النبي، النبي عليه الصلاة والسلام على ناقة اثني عشر يوماً، مع الخوف، والقلق، دمه مهدور، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً. كبّر المسلمون فرحاً بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا للقائه، فتلقوه، وحيّوه بتحية النبوة، فأحدقوا به، مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه : ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
وقال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمر بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أبا بكر ظناً أنه رسول الله، سيدنا الصديق واقف يستقبل الناس، والنبي جالس، وهو صامت، فتوهم الأنصار أن النبي هو أبو بكر، أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، ما تكلم، لما ظلله تبين أن الرسول هو رسول الله، وكانت المدينة كلها قد زحفت لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. وقد رأى اليهود صدق بشارة ما في كتبهم لظهور النبي عليه الصلاة والسلام، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام بقباء عند كلثوم بن الهدم، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثاً حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر مشياً على قدميه 480 كم مشياً على قدميه، حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم بقباء، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس على التقوى في المدينة بعد الهجرة. فلما كان اليوم الخامس يوم الجمعة ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله، فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مئة رجل، وبعد الجمعة دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة،ومن ذلك اليوم سمت بلدة يثرب بمدينة رسول الله لذلك ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر قال : ((اللهم! إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك)) لذلك يقال إن: المدينة أحب البلاد إلى الله، لأن فيها حبيبه. قال الله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ لماذا ؟ ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾. وكان يوماً تاريخياً أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحاً وسروراً:
طلع الـبدر علينا***مــن ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا***مـــا دعا لله داع
أيها المبعوث فينا***جئت بالأمر المطاع
والأنصار أيها الإخوة، لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة، إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل النبي عنده في البيت، هناك مشكلة، كلهم أصحابه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته، ودعوه أن ينزل عندهم، يقولون: يا رسول الله، هلم إلى العدد والعدة، والسلام والمنعة، نحن نحميك بأرواحنا، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: خلوا سبيلها ـ للناقة ـ فإنها مأمورة، لم يعد هناك عتب أبداً، ما قبل دعوة واحد، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم، فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت، وسارت قليلاً ثم التفتت ورجعت، وبركت في موضعها الأول، هذا المكان الذي أراده الله، وهو المسجد النبوي الشريف، وذلك في بني النجار أخواله صلى الله عليه وسلم، وكان من توفيق الله لها فإنه أحب أن ينزل على أخواله، لكن لا يتمكن لئلا يميز، قال: دعوها فإنها مأمورة، والله عز وجل جعل هذه الناقة تقف في نبي النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء أسعد بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي بيوت أهلنا أقرب؟ يعني أي بيت أقرب إلى هذا المكان التي بركت فيه الناقة؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري، وهذا بابي، فقال: فانطلق فهيئ لنا مقيلاً نقيل فيه نستريح فيه ، فقال: قوما على بركة الله، وبعد أيام وصلت زوجته سودة وبنتاه فاطمة، وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص لم يمكنها من الخروج، حتى هاجرت بعد بدر.
قالت عائشة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليها فقلت: يا أبي كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله***والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري أبيتن ليلة***بواد وحـولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة***وهل يبدون لي شامة وطفيل
فقالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:
((اللهم! حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد. وصححها. وبارك لنا في صاعها ومدها. وحول حماها إلى الجحفة))
وإلى هنا ينتهي قسم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبدأ مرحلة أخرى في سيرته، وهو إقامته في المدينة.