أيها الإخوة الأكارم، النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من مكة إلى المدينة، انتقل من قوة الحق، قوة الوحي، قوة الاستقامة، قوة الإخلاص، قوة التضحية والفداء، لكن أصحابه كانوا يُعذبون أمامه، انتقل إلى المدينة ليضيف إلى قوة الحق حق القوة، لذلك بنى مجتمعاً قوياً، أساس هذا البناء المساواة، أساس هذا البناء إزالة فساد ذات البين، أساس هذا البناء التكافل، ولا زلنا في ملامح المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة. وقد حصل نكسة طارئة عابرة في العلاقات بين الأوس والخزرج، وكيف أن الله وصف الخلافات بين المؤمنين بأنها كفر.
ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، أن جاهلياً في المدينة المنورة وهو من اليهود غاظه ما رأى من ألفة المسلمين، غاظه ما رأى من صلاح بينهم، بعد الذي كان بينهم من عداوة وبغضاء في الجاهلية. أمر شاباً على شاكلته أن يجلس مع الأوس والخزرج، وأن يذكرهم بيوم بُعاث. يوم اقتتالهم، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوه فيه من أشعار، فتفاخر القوم نزوة جاهلية، ثم تنازعوا، الأوس والخزرج، ثم تواثب رجلان من الحيين، وتقاولا، فقال أحدهما: إن شئتم رددناها الآن جذعة، أي حامية، وغضب الفريقان، وكادت تقع الفتنة، بلغ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم غاضباً فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال: ((يا معشر المسلمين، اللهَ الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم؟ أبعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم دعوى الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدو لهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين)) لقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخصومة بالكفر، ثم إن الله جل جلاله أنزل بهذه الحادثة قرآناً فقال ـ دققوا بكلام الله ـ: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ﴾ بماذا وصف القرآن الكريم الخلاف بين المسلمين؟ بالكفر، هذا سماه علماء العقيدة: كفر دون كفر، هناك كفر يخرجك من الملة، من ملة الإسلام، وهناك كفر دونه فالخصومات بين المسلمين نوع من الكفر، لأن هذه الخصومات تضعفهم، تشتتهم، تمزقهم تجعل بأسهم بينهم. النبي صلى الله عليه وسلم حرص على وحدة أمته من بعده، قال فقال: ((لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض)) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ))
أيها الإخوة، نتابع البنية السليمة الاجتماعية التي بناها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أؤكد لكم أن المجتمع المتماسك لا يخرق، وأول شيء بالبناء الاجتماعي المؤاخاة، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والأنصار، يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
فالمؤاخاة من منهج النبي عليه الصلاة والسلام، آخى النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي بين المسلمين الأوائل، آخى بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وآخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام، وآخى بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر، وكان المسلمون الأوائل في مكة يعيشون الأخوة الكاملة. ورد في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ، والمتحابون في جلالي على منابر من نور يغبطهم عليها النبييون يوم القيامة)) وكان المسلمون الأوائل يعيشون الأخوة كاملة بكل أبعداها ومعانيها من خلال دار الأرقم، والهجرتين الأولى والثانية، ومواجهة إيذاء وعدوان قريش.
صور من واقع مؤاخاة الصحابة في مكة:
أيها الإخوة، سيدنا الصديق بلغه أن بلالاً يُعذب بلال عبد، وفي السلم الاجتماعي في الدرجة السفلى، وسيدنا الصديق من أرومة قريش، من علية القوم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ذهب إلى صفوان ابن أمية سيد بلال، وكان يعذبه يضع على بطنه صخرة في لهيب الظهيرة، ويأمره أن يكفر بمحمد، وكان بلال يقول: أحدٌ أحد. فكان صفوان بن أمية يعذب بلالاً، ذهب إليه الصديق، قال: بكم تبيعني إياه؟ اتفقا على مبلغ، ونقده إياه، أراد صفوان أن يبالغ بإهانة بلال، قال له: والله لو دفعت لي درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لأعطيتكها، هذا أخي حقاً، وضع يده تحت إبطه. سيد قريش مع إنسان في الطبقة الدنيا، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم إذا ذكروا الصديق يقولون: << هو سيدنا وأعتق سيدنا >>.
صور من المؤاخاة في المدينة:
في المدينة فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، أن بعض الذين آخى بينهم النبي عليه الصلاة والسلام هو عبد الرحمن بن عوف، آخى بينه وبين سعد بن الربيع، وقد عرض عليه سعد بن الربيع أحد بيتين، وأحد دكانين، وأحد بستانين، لم يُثبت التاريخ الإسلامي أن مهاجراً أخذ من أنصاري نصف ماله، قال له: بارك الله لك بمالك يا أخي، ولكن دلني على السوق، ما هذه العفة؟ الأنصار بذلوا نصف ما يملكون، والمهاجرون تعففوا عن أموال إخوانهم، قال له: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق، أنا أعمل.
فحينما يكون المؤمن سخياً كريماً إلى درجة أن يهب أخاه نصف أملاكه تجد الطرف الآخر عفيفاً جداً جداً، ويقول: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق.
قال العلماء: المؤاخاة هي حاجة الأنصار إلى التفكر في الدين، وحاجة المهاجرين إلى مأوى، وإلى مساعدة، وإلى بيت.