أيها الأخوة؛ تأسيس القاعدة الاقتصادية. بالمناسبة، الإسلام هو الحياة، وأي مجتمع إسلامي لا يهتم بالعلم ولا يهتم بالاقتصاد مجتمع ضعيف مغلوب على أمره، وما تفوق النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته إلا لأنه رأى الإنسان كائناً فيه عقل يدرك، جعل العلم غذاء للعقل، وفيه قلب يحب، جعل محبة الله والعمل للجنة غذاء للقلب، ثم رأى في الإنسان جسماً يحتاج إلى طعام وشراب، فأرسى مبادئ الاقتصاد، فالإسلام هو الحياة. المشكلة أن الاقتصاد لم يكن نتاجاً ناقصاً ضعيفاً بقدر ما كان علاقات سيئة، هذا كلام دقيق، المشكلة الاقتصادية ليست في حجم الثروات، المشكلة في طريقة توزيع هذه الثروات، الآن عشرة في المئة من سكان الأرض يملكون تسعين في المئة من ثرواتها، وتسعون في المئة لا يملكون عشرة في المئة، فالمشكلة هنا في المواد؟ أم في طريقة التوزيع؟ ماذا أراد الله من هذا المال أن يكون؟ أراده متداولاً بين كل الناس، قال تعالى : ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ البطولة أن يوزَّع هذا المال، وأن توزَّع هذه المنافع والثروات بين أكبر شريحة في المجتمع، ومقياس تقدم المجتمع أن الهوة ليست واسعة بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الأقوياء والضعفاء، وكلما اتسعت هذه الهوة كان التخلف أشد، وكلما ضاقت هذه الهوة كانت التحضر أشد. إذاً: هناك مشكلة يعاني منها المجتمع الجاهلي ألا وهي: أن المواد الاقتصادية، الثروات، السلع، المواد الغذائية، بصرف النظر عن كميتها، وعن حجمها، المشكلة فيها أن تداولها ليس صحيحاً بل مرضياً، لذلك اهتم النبي عليه الصلاة والسلام اهتماماً لا حدود له بتشكيل قاعدة اقتصادية، وتنظيم نظام اقتصادي متوازن سوي.
لمحات عن حالة أهل المدينة قبل مجيء رسول الله عليه الصلاة والسلام: كان اليهود يسيطرون على موارد التجارة، ويتعاملون بالربا، ويتحكمون بالأسعار، وكان عامة الناس ما بين مزارع، وراعٍ للشياه والإبل، وصيّاد، وصانع، وجامع للحطب، هكذا كان وضع الاقتصاد قبل مجيء رسول الله، هؤلاء الذين يتعاملون في الاقتصاد لا تحكمهم قيم أخلاقية، ولا شريعة دينية، إنما يسود بينهم الاستغلال، والسيطرة، والغش، والفساد، والظلم، ومع توارث الأساليب القديمة التي وجدوها في مجتمعهم. النبي الكريم أمام مشكلتين، أمام مشروع تنمية الموارد الاقتصادية، وأمام مشروع آخر حسن توزيع الناتج على الإنسان، حسن توزيع ورفع الناتج. الآن ما هي الضوابط التي أقرها النبي عليه الصلاة والسلام لمعالجة الاقتصاد؟
الاقتصاد من الدين:
من القواعد الاقتصادية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام أن الاقتصاد دين، وألصق شيء بك العبادة التعاملية، ألا تكذب، ألا تغش، ألا تدلس، ألا ترفع السعر، ألا تستغل، ألا ترابي، ألا تحتكر، ألا تزين السلعة بما ليس فيها، أكثر من مئة معصية في البيع والشراء. فا لنبي عليه الصلاة والسلام قرر أن الاقتصاد دين، أي أن العمل الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الدين. إذاً: العمل الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الدين. ((من غش فليس منا)) وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) كل طعاماً اشتريته بمال حلال، أي كسبته بتجارة ليس فيها غش، ولا كذب، ولا احتيال، ولا احتكار، ولا تدليس، ولا إيهام، إذاً: العمل المشروع دخله مشروع، إن اشتريت به طعاماً فالطعام طيب.
المنافع متبادلة في التجارة:
ببساطة يقول لك أخ: أنا مضطر لشراء بيت، معي نصف ثمنه، فهل تساعدني بالنصف الآخر ثم أؤجر البيت وأعطيك نصف أجرته؟ بيت مثلاً أجرته عشرة آلاف في الشهر، نصفه لك، أنا أعطيك خمسة آلاف، لكن صاحب هذا المبلغ عندما أراد أن يسترد مبلغه يأخذه بالتمام والكمال، مادام لم يقيّم البيت تقييماً جديداً، وأخذ الذي دفع المبلغ بالتمام والكمال، فهذه الأجرة ليست أجرة، ولكنها فائدة.
من دخل السوق من دون فقه أكل الحرام شاء أم أبى، أما إذا قيم البيت تقييماً جديداً، وسعره ارتفع أو انخفض، ونال نصف ثمنه على التقييم بالأجرة فهذا حلال. لذلك الذي يضبط الحلال أن المنافع فيه متبادلة، والذي يضبط الحرام أن منفعة بنيت على مضرة، أوضح شيء السرقة، السارق انتفع بالمال، أما الذي أُخذ المال منه أصابه ضرر كبير، انتفع شخص وتضرر الثاني، إذاً: الدخل حرام.
الاستثمار:
والاستثمار فريضة ألزم الله فيها عباده، لماذا فرض الله الزكاة على المسلم؟ قد تجيبني بألف جواب، لكن هناك جواب قد لا يخطر في بالك، هو أرقى جواب، أن هذا المال إن لم تستثمره تأكله الزكاة، فإن الشرع أراد أن تستثمره لئلا تأكله الزكاة. لذلك ورد في بعض الأحاديث: ((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)) و من ملامح الاقتصاد تحقيق العدالة، وتوزيع الثروة، وتحقيق التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد.
حق المنافسة بين الناس في الكسب وفي الملكية:
من مبادئ الاقتصاد التي أرساها النبي عليه الصلاة والسلام حق المنافسة بين الناس في الكسب والملكية، ولكن ضمن شروط الحلال والحرام، وضمن قواعد الأهداف العامة للمجتمع.
الصدق وعدم الغشِّ والاحتيالِ والابتزازِ :
ليس في النظام الاقتصادي الإسلامي كذب وغش واحتيال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا)) لما تكسب مالك الحلال من طريق مشروع يمكن أن يكون النفع لكل الناس، لا احتكار، ولا غش، ولا تدليس، ولا إيهام، ولا غبن، إذا ألغيت معاصي البيع والشراء تهبط الأسعار، الأسعار يحددها قانون العرض والطلب، لمجرد أن تلغى المعاصي يكون السعر الطبيعي المقبول، البضاعة موجودة بحسب الطلب عليها، ما دامت موجودة فسعرها معتدل، أما حينما تُحتكر تُسحب من الأسواق يشتد الطلب عليها فيتضاعف السعر، هذا مال حرام، واحتكار، والمحتكر خاطئ.
وأعوذ بالله من فقر الكسل، هناك فقر القدر صاحبه معذور، وفقر الإنفاق صاحبه مشكور، سيدنا الصديق افتقر فقر إنفاق، قال له: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله ، هذا فقر إنفاق، هناك فقر قدر، لعاهة تمنعه أن يكسب المال، لكن وصمة العار هي فقر الكسل، وعدم الإتقان، وعدم الدوام، والإرجاء، والتأجيل، وعدم الاهتمام.
الجوانب الاقتصادية التي نماها النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة :
الزراعة :
الحضُّ وتشجيع الزراعة فلذلك في شأن الزراعة يقول عليه الصلاة والسلام ـ دققوا ـ يوم القيامة، حيث انتهى كل شيء، ((إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)) وتشجيع إحياء الأرض الميتة فقد سعى النبي عليه الصلاة والسلام لتوسيع الأراضي المزروعة، وإصلاح الري، وتوفير الماء اللازم للزراعة، وتشريع العلاقات الزراعية، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها)) الإحياء هو الغرس، والزرع، وحفر البئر، وموطن رعي الدواب زراعة النخيل . النخيل الذي أكل منه النبي عليه الصلاة والسلام لا زلنا حتى الآن تقطف ثماره وتسوّق، لأن عمر النخلة ستة آلاف عام . من ألهم النبي الكريم هذه الإجراءات؟ هذه إجراءات حضارية .
التجارة :
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة سوقاً واحدة أراد أن يتخذها أولاً في موضع في بقيع الزبير، واعترض كعب بن الأشرف أحد زعماء اليهود المناوئين للإسلام، وقطع حبال الخيام التي وضعها النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الموضع، فنقلها النبي إلى موضع سوق المدينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( (هذه سوقكم فلا يضيق، ولا يؤخذ فيه خراج)) ليس عليها ضرائب، وكانت سوق المدينة فضاءً واسعاً لا بناء فيه، يضع التجار فيه سلعهم، والمكان لمن سبق، يبيع فيها أصحابها ما يعرضون من حاجاتهم المختلفة، وكان الراكب ينزل بسوق المدينة، فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق، ورحله أمام عينيه لا يحجبه عنه شيء .
الصناعة :
كانت الحياة المهنية والصناعية في المدينة تتوافق مع الظروف العامة في بلاد العرب، تبدو فيها البساطة بشكل عام، فاللباس وما يتعلق بصناعة الملبوسات كان غاية في البساطة والقلة . كانت هناك حِرف كثيرة قائمة في المدينة لأداء الحاجات اليومية للناس، وهي محدودة، كالدباغة، ونسج الصوف، وحوائج الركوب، وأدوات المنزل، وحرف البناء، والخيام، والسلاح . لقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهمية السلاح والأدوات البحرية كالمنجنيق، والسيوف، والأقواس والسهام، وغيرها، وكان أعظم توجيه صناعي قدمه النبي عليه الصلاة والسلام : ((إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)) وكان من صناعات الإتقان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الصناعات التي تقدمت في المدينة الصباغة، والدباغة، وقد شاركت فيها النساء أمثال زينب بنت جحش، وأسماء بنت عميس، وكان أهل المدينة يصنعون الخوصة فتعلم منهم سلمان الفارسي، وقد صنع منبرا من الخشب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش إلى سنة 654 هجري .
الثروة الحيوانية :
هناك ثروة حيوانية في المدينة بعد الهجرة، وكان أهم شيء فيها العناية بالخيول والإبل، والحيوانات المستخدمة في الجري والركوب، لذلك أعطي الحصان أو الفرس من أسهم الغنائم ما يعدل ضعف نصيب صاحبه، لأهميته في ميدان القتال، فصار هناك تنشيط لتربية الخيول . هناك ملكيات عامة، هي مواد أساسية ممنوع أن يتملكها إنسان . يقول عليه الصلاة والسلام : ((الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ)).
نظام الزكاة :
أما التعاون فكان أساسه نظام الزكاة، فإذا كانت أرض الإنسان المزروعة قد سقاها بماء البئر فإن زكاة أرضه العشر، وإذا كان سقيها بماء السماء فزكاة إنتاجه الزراعي نصف العشر، لذلك صار توزيع الخيرات على الفقراء بشكل كبير .
الحقيقة أيها الإخوة، النبي عليه الصلاة والسلام أرسى نظاماً اقتصادياً عني بالزراعة، والصناعة، والتجارة، والحرف، ونظم العلاقات التشريعية بين كل هؤلاء.