بادئ ذي بدء، النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدين الفطرة، وهو قدوة لنا، وإسلامنا العظيم جمع بين الحاجات والقيم، وجعل المصالح مع المبادئ في وقت واحد. قال عليه الصلاة والسلام: ((أشدكم لله خشية أنا، أنام وأقوم، أصوم وأفطر، أتزوج النساء، هذه سنتي، فمن رغب عنها فليس من أمتي )). قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ وقال أيضا: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ من آياته الدالة على عظمته: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .
أيها الأخوة، كان عليه الصلاة والسلام شاباً من الشباب الذين يشار إليهم بالبنان، كان في أفقٍ أعلى، قال تعالى: ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾ كان يحمل هموم البشرية، كان يبحث عن خلاص البشرية، كان يرى ما حوله من تصادم، وضعف، وقهر، وظلم، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام شاباً متميزاً، هذا قبل البعثة، والذي يؤكده علماء السيرة أن الأنبياء معصومون بعد الوحي، وقبل الوحي.
أيها الأخوة الكرام، كان زواج الرسول من السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة لا كالنساء، كانت في أعلى درجات الوفاء لزوجها، لذلك حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بعد عشرين عاماً من الصراع مع الكفر والشرك، ركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم العالم كله، أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر، والحقيقة أن السيدة خديجة كانت سند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الداخل، إذا اجتمع في المرأة جمال الشكل، وجمال الخلق، وجمال العقل، فهي امرأة لا كالنساء، والمرأة كما تعلمون أيها الأخوة في الإسلام مساوية مساواة تاماً للرجل من حيث التكليف، ومن حيث التشريف، ومن حيث المسؤولية.
أيها الأخوة، خديجة بنت خويلد فهي امرأة ذات شرف ومال، كانت تكلف الرجال وتضاربهم في مالها، والمضاربة الطريق النظيف الآمن للاستثمار المال، فكان عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام، المال مال خديجة، والجهد جهد النبي صلى الله عليه وسلم طبعاً قبل البعثة. فعندما بلغ خديجة رضي الله عنها عن رسول الله أمانته، وعفافه، وأخلاقه العالية، طمحت أن تعمل معه في التجارة، وكانت تعطيه أفضل ما تعطي بقية التجار، قال عليه الصلاة والسلام: ((الأمانة غنى)). لذلك ضاربت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسفار، كان أهم هذه الأسفار إلى الشام، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج في مالها، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وكان التوفيق حليف رسول الله، وعاد بالتجارة، وقد ربح الضعفين، فسرت السيدة خديجة أيما سرور.
هذه السيدة الوقور التي هي أرقى بيوتات مكة طمحت بالزواج من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسلت له امرأة اسمها نفيسة، فخاطبت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: ما يمنعك من أن تتزوج؟ فقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم كان شاباً: ما بيدي لأتزوج به، قالت: فإني كفيت لك ذلك، قال: فمن هي؟ قالت: خديجة، قال: ومن لي بذلك؟ فقالت: علي ذلك، هذه البداية. فهذه المرأة ساهمت في تقريب وجهات النظر بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين خديجة، وأشارت إلى السيدة خديجة أن الطريق سالك للزواج من رسول الله، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا ابن العم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه الزواج فقبل ذلك، وكانت خديجة كما يقولون: أوسط النساء نسباً، وكانت أعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، وكل قومها كان حريصًا على ذلك لو يقدرون عليه.
أيها الأخوة، لما جاء هذا العرض لرسول الله من نفيسة أولاً، ومن خديجة ثانياً، عرض هذا على أعمامه، وفاتحهم برغبته، فما كان منهم إلا أن سارعوا لتلبيته، والمضي لما يريد فذهب أبو طالب، وحمزة، وغيرهم إلى عم السيدة خديجة عمر بن الأسد، كان أبوها قد مات في حرب الفجار، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليها الصداق عشرين بكرة، أي ناقة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. يروى أن أبا طالب وقف يخطب في حفل الزواج قائلاً: إن محمداً لا يوزن به فتاً من قريش، إلا رجح به شرفاً ونبلاً، وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قِلٌ، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، هذه خطبة النكاح، خطبها عمه أبو طالب. فقال عند ذلك ولي خديجة عمها عمر: هو الفحل الذي لا يجدع أنفه، وأنكحها منه، وله 25 سنة، ولها يومئذ 40 سنة، وقد حضر العقد بنو هاشم، ورؤساء مضر، وكان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الشام بشهرين.
أيها الأخوة، بقي النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة إلى أن توفيت في الـ 65، وبقي النبي معها تقريباً ربع قرن. ولدت السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، فهو أبو القاسم، ثم ولدت له زينب، ثم أم كلثوم كوكبة الإسلام، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد الله الملقب بالطيب أو الطاهر، فأما القاسم وعبد الله فماتا قبل الإسلام، مات القاسم بعد سن تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبد الله وهو طفل، وأدركت البنات الإسلام فأسلمن جميعاً، وهاجرن إلى المدينة، وماتوا جميعاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر.
قد يسأل سائل: مات أبوه قبل أن يعرفه، وماتت أمه وهو في السادسة، ومات جده وهو في الثامنة، وماتت بناته جميعاً عدا فاطمة، وماتا ولداه القاسم وعبد الله قبل الإسلام، ولم يبقَ من ذريته إلا فاطمة، بل مات ابنه إبراهيم من مارية القبطية، لا شك أن هناك حكمة ما بعدها حكمة، ولا شك أن هناك حكمة بالغة أنه ليس من نسله ولد ذكر، فكروا، وابحثوا، ودققوا، لو أن لهذا النبي الكريم أباً عظيماً تعزى فضائله، وتعزى شمائله إلى تربية أبيه، وكأن النبوة ألغيت، لو أن له أماً قديرةً، حكيمة، حصيفة، أيضاً تعزى فضائله لأمه، أراد الله جل جلاله أن تكون هذه الفضائل كلها بسبب قربه من الله عز وجل، فهذا من الحكمة أنه لم يعرف أباه كما أن أمه لم تسهم في تربيته، وكان يتيماً، لو أنه له ولداً عاش من بعده، وله ذرية فهو ابن رسول الله، ولم يكن معصوماً ربما انتقلت البغضاء إلى أبيه، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا سلمان الفارسي، فقال: ((يَا سَلْمَانُ! لاَ تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! كَيْفَ أُبْغِضُكَ، وَبِكَ هَدَانَا اللّهُ؟ قَالَ: تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي)) هناك حكمة بالغة جداً أن النبي الكريم ليس له ذرية ذكور من بعده.
أيها الأخوة، السيدة خديجة كانت المثل الأعلى لكل نساء العالمين، واست زوجها، وقدمت له كل ما يحتاجه من حنان، وعطف، وتأييد، ومال، وقفت مع النبي الكريم في أحلك أيامه، وفي أصعب أيامه، وكانت سنده من الداخل، و حينما جاءه الوحي: ((دثروني دثروني، فقالت له: والله مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)) كيف عرفت ذلك؟ استنبطت هذا من فطرتها. يقول عليه الصلاة والسلام: ((خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)) وكان عليه الصلاة والسلام من أعلى الأزواج وفاء لزوجته خديجة، فلما ماتت كان يبعث باللحم حين يذبح فيطعم صديقاتها، ويكثر في مدحها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان وفياً بعد موتها، " كان يصل صديقاتها بقطع اللحم تقرباً إليهم، ووفاء بعهد خديجة.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب)) هذه بشارة من الله مباشرة لهذه المرأة. مرة قال: ((قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء)). ومن أروع ما سمعت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الحمد لله الذي رزقني حب خديجة)) عد حبها رزقاً، الحمد لله الذي رزقني حب خديجة.