بحث

نزول الوحي والبعثة

نزول الوحي والبعثة

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الأخوة، بدأ نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون عاماً  

(( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ))     فكان عليه الصلاة والسلام قبل نزول الوحي يرى الرؤيا الصالحة فتأتي مثل فلق الصبح، ولعل الرؤيا الصالحة من تكريم الله للإنسان،  (( وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ( أي يتعبد) اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي- معنى غطني أي عصرني، لئلا يتوهم متوهم أن الوحي منام، تأمل، حلم، لا، الوحي شيء مادي ـ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي ـ أي عصرني ـ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ـ أي التعب والإعياء ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ - جاء الوحي على شكل مادي ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال َ)) 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾

(( فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي ـ أي دثروني، ضعوا علي الدثارـ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ))

     عظيم عظماء الأرض، سيد ولد آدم، حبيب خالق الأكوان، أصابه خوف، من الذي هدأ روعه؟ زوجته، أريت إلى هذا الدور الخطير، لذلك السيدة خديجة كانت سنده من الداخل، وحينما توفيت سُمي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن. وأبلغ شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما فتح مكة، ركز لواء النصر أمام قبرها ليعلم أهل الأرض أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر. 

((فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا))

     أيها الأخوة، ثم لم يلبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي فترة، حزن النبي له حزناً شديداً لكن كان جبريل يتبدى للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، كان يرى جبريل من حين إلى آخر، لأنه لما فتر الوحي تألم النبي عليه الصلاة والسلام والدليل:  ﴿وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾  فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في أعلى درجات سعادته حينما جاءه الوحي، فلما غاب عنه طويلاً، ما الحكمة أنه غاب عنه؟ الحكمة أن هذا الوحي ليس في مقدور النبي أن يجلبه، ولا أن يدفعه، هو منفصل عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم. 

     أيها الأخوة، لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول صدر سورة  ﴿اِقْرَأْ﴾ نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، إلى طريق الله المستقيم، المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة. 

     أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام: 

((بينَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السّمَاءِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي فإذَا المَلَكُ الّذِي جَاءَنِي بِحراءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَثِثْتُ مِنْهُ رُعْباً، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمّلُونِي، زَمّلُونِي، فَدَثّرُوني))

     فأنْزَلَ الله تعالى قوله: 

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾   

     أيها الأخوة، قال لها: انقضى عهد النوم يا خديجة، وقد ثبت أن الوحي نزل عليه أول ما نزل يوم الاثنين، كما أن المشهود أن ذلك حصل في شهر رمضان، قال تعالى: 

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾   

     والوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظير الوحي الإلهي إلى الأنبياء السابقين، قال تعالى: 

﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾

     أيها الأخوة، الآن إليكم بعض أوصاف الوحي، كان عليه الصلاة والسلام يعاني من التنزيل بشدة، فكان جبينه يتفصد عرقاً، في يوم الشديد البرد، وكان وجهه يتغير، ويبدو عليه علامات التعب الشديد، وكان جسمه يسخن، يقول زيد بن ثابت: فأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، وكان يركز ذهنه بشدة لحفظ القرآن، فيحرك به لسانه وشفتيه من شدة اهتمامه، فنزل قوله تعالى:  

﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾

     وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ القرآن الكريم يدفعه إلى التعجل في تلقيه، والشوق إليه، وقد بينت ذلك الآية الكريمة: 

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾   

     وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يأتيه الوحي حين قال:  ((أَحْيَانا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ الصلصلة صوت الحديد إذا اصطدم بعضه ببعض،  وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَي، فَيَفْصِمُ عَنّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانا يَتَمَثّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول)) 

     وكان الوحي يأتيه في اليقظة، استغرق نزول الوحي 23 سنة، منها 13 عاماً بمكة المكرمة، وعشر سنين في المدينة. 

     أيها الأخوة، إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله بوساطة جبريل عليه السلام، وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام، ولا بالتأمل الباطني، ولا بالاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، ودون أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم أي أثر في الصياغة والمعنى القرآن الكريم وحي متلو، وتنحصر مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بتلقي الوحي، وحفظ الموحى به وتبليغه، أما بيانه وتفسيره فيتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوبه، وبلفظه، كما تدل على ذلك الأحاديث المحفوظة، وهو أسلوب مغاير تماماً لأسلوب القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ ديننا ليس تراثاً، وليس ثقافة، ولكنه وحي السماء، وقد قال الله عز وجل: 

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 10 - نزول الوحي والبعثة النبوية .