بحث

مضامين الدعوة الإسلامية

مضامين الدعوة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الأخوة الكرام، أول كلمة نزلت من القرآن الكريم، وأول كلمة جاء بها الوحي، هي قوله تعالى:   

﴿اقْرَأْ﴾

     أي تعلم، لأن الإنسان خُلق ليعرف الله، علة وجودك في الأرض أن تعرف ربك من خلال خلقه، الدليل:   

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

     إن أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإن أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإن أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.  

     أيها الأخوة، أزمة أهل النار وهم في النار، هي الجهل، قال تعالى:   

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾

     لأن كل إنسان مجبول على حب وجوده، وعلى حب سلامة وجوده، وعلى حب كمال وجوده، وعلى حب استمرار وجوده، ولا يتحقق هذا إلا إذا طبق تعليمات الصانع، الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة. الآن بالعالم يطبع في اليوم الواحد من الكتب بلغة واحدة لا نستطيع أن نقرأها في 200 عام، ماذا نقرأ؟   

     القراءة الأولى: قراءة الإيمان قال تعالى:   

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ :  

     ما لم تكن القراءة تتجه نحو الإيمان بالله فلا قيمة لهذه القراءة، يجب أن يكون الهدف أن تؤمن بالله، ليس هناك علم من أجل العلم فقط، العلم من أجل أن تعرف الله، وأن تعبده، وأن تسلم، وتسعد في الدنيا والآخرة، قال تعالى:  ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ من هنا قال عليه الصلاة والسلام:  ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن أذن لا تسمع، وأعوذ بك من هؤلاء الأربع)) إذاً: ما لم يكن الهدف من طلب العلم الإيمان بالله، الإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، الإيمان بالله موجوداً، وواحداً، وكاملاً، الإيمان بأن أسماء الله تعالى حسنى، وأن صفاته فضلى، فهذا العلم لا يُعتد به، بل هو حرفة من الحرف. وهناك علم بخلقه، علم بأمره، العلم به  

  1. علم بخلقه: فالعلم بخلقه اختصاص جامعات العالم، الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والمنطق، وعلم النفس، وجامعات العالم متخصصة في هذه العلوم  
  2. علم بأمره: العلم بأمره هو معرفة الحلال والحرام، وأحكام الفقه، والأحوال الشخصية، وفقه البيوع، وفقه المواريث، من اختصاص كليات الشريعة   
  3. العلم به: وهناك علم به فهو شيء آخر، العلم به يقتضي المجاهدة، ولا يقتضي المدارسة، العلم بخلقه، والعلم بأمره، يقتضيا المدارسة، وقد قال بعض العلماء الكبار: "جاهد تُشاهد". أنت حينما تطبق منهج الله عز وجل، وحينما تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وحينما تضبط إنفاقك وإيرادك، وحينما تضبط جوارحك، وحينما تضبط بيتك، وحينما تضبط عملك، عندئذٍ يسمح الله لك أن تعرفه معرفة تسعد بها في الدنيا والآخرة.   

     العلم لا مبرر له إلا أن يكون وسيلة لمعرفة الله، ثم لطاعته، ثم للسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة، هذه القراءة الأولى القراءة الإيمانية، قال تعالى:  ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ الغرب كله مع النعمة، لكن المؤمن مع المنعم. مثل واضح جداً أن الإنسان إذا كان فقيراً، ولم يتح له في كل حياته أن يلعق لعقة عسل واحدة، لكنه قرأ كتباً عن النحل ففاضت عيناه بالدموع من عظمة الله عز وجل في خلق النحل والعسل، هذا الإنسان الفقير الذي لم يذق طعم العسل حقق الهدف الأول من خلق النحل والعسل، لأنه تعرف من خلالهما إلى الله، والذي كان غنياً مترفاً، وأكل من العسل كميات كبيرة، ولم يعرف ربه من خلال خلقه فهذا عطل الهدف الأكبر من خلق النحل والعسل.  

     ينبغي أن تتعرف إلى الله من خلال خلقه، ولكن عندك آية بين جنبيك، هي قوله تعالى:  ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ألست متزوجاً؟ تقول: نعم، عندك أولاد؟ تقول: نعم، هذا الابن، كيف أصبح طفلاً سوياً؟ في اللقاء الزوجي، الإنسان يفرز أكثر من 300 مليون نطفة إلى 500 مليون، والنطفة الواحدة لا ترى بالعين، تحتاج إلى مجهر، نطفة واحدة تدخل إلى بويضة، والبويضة حجمها كحجم حبة الملح، والنطفة أصغر بكثير، فهذا المخلوق آية من آيات الله التي تدلك على معرفته. لو أمضينا سنوات في الحديث عن حكمة خلق الإنسان لا ننتهي.  

     القراءة الثانية: قراءة شكر وعرفان، قال تعالى:   

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾

     الله عز وجل منحك نعمة الإيجاد، ثم منحك نعمة الإمداد، أمداك بالطعام والشراب والدفء، وما شاكل ذلك، فهناك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، قال تعالى:  ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾. القراءة الأولى قراءة بحث وإيمان، القراءة الثانية قراءة شكر وعرفان، إذاً: من أجل أن تتعلم من أجل أن تؤمن، وأن تتعلم من أجل أن تشكر. أنت حينما تؤمن، وحينما تشكر، حققت الهدف من وجودك، لذلك قال تعالى:  ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ إذا آمنتم، وشكرتم، يتوقف العلاج الإلهي. لكن الله من أجل أن تعرفه منّ عليك بنعمة البيان، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ البيان أن تُعبر عن حاجاتك، وعن أفكارك، وعن مشاعرك شفهياً، هذا البيان الشفهي، لكن أنت حين تكتب مقالاً، أو تؤلف كتاباً، يأتي إنسان لم يلتقي بك، لكنه قرأ كتابك فانتفع به، قال تعالى: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ بالقلم تتنقل المعارف من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر ، وبالترجمة تنتقل المعارف من أمة إلى أمة، قال تعالى:   

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ

     هذه قراءة شكر وعرفان.   

     القراءة الثالثة: قراءة وحي وإذعان، قال تعالى:   

﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

     من أين نأتي بها؟ أنت إذا نظرت إلى الشمس تعلم أن لها خالقاً، لكن أحكام الزكاة، من أين أتتنا؟ من الوحي، أحكام الزواج، من أين أتتنا؟ من الوحي.   

     فأنت ينبغي أن تقرأ قراءة بحث وإيمان، ثم ينبغي أن تقرأ قراءة شكر وعرفان، ثم ينبغي أن تقرأ قراءة وحي وإذعان، فمضمون الدعوة، هي قوله تعالى:   

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

     القراءة الرابعة: قراءة عدوان وطغيان:  

     لكن الإنسان حينما يغفل عن الله عز وجل، يقول الله عز وجل:  

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

     قنبلة خارقة حارقة، هناك قنبلة انشطارية، هناك قنبلة ذكية هناك سلاح جرثومي، هناك سلاح كيميائي، هناك صواريخ مدمرة، هذا العلم علم إفناء البشرية، علم السيطرة على الكون، علم نهب الثروات، هذا علم أيضاً، لكن وراءه شياطين، الله عز وجل أعطانا أنموذجاً لقوم طغاة، نموذج متكرر، إنهم قوم عاد، قال تعالى:  ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ تفوقوا في شتى المجالات، جيش قوي، ماذا فعلت عاد؟ قال ﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ البلاد كلها، ليس في بلادهم، هناك إشارة دقيقة جداً، قال تعالى:  ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى ﴾ معنى ذلك هناك عاد ثانية، فلذلك قوم عاد في القرآن يمثلون الأمم الطاغية متفوقون في العلم كثيراً، ما نوع علمهم هذا؟ من النوع الرابع، هذا العلم الذي يعد جريمة في حق الإنسان. إذا استغنى عن طاعة الله يطغى.  

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

     أيها الأخوة، قال تعالى:  

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

     هذه أول سورة نزلت من وحي السماء، وفيها إشارات إلى مضامين الدعوة الإسلامية.   



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 11 - إلقاء الضوء على مضامين هذه الدعوة الإسلامية.