هنالك موضوع عن أعظم مطالب الإنسان في الحياة، لو سألت أيَّ رجل على وجه الأرض كائناً من كان، مِن أي عرق، ومن أي جنس، ومن أي قوم، ومن أية ملّة، ومن أية نحلة، ومن أي دين، عن هدفه في هذه الحياة لقال لك: أنْ أسعد فيها، هذا الجواب الجامع المانع المشترك بين جميع البشر على اختلاف أنواعهم، وألوانهم، وأجناسهم، ومِلَلهم، ونِحَلهم، فمِن أين يأتي الخطأ؟ إذاً ما دام الهدف واحداً، لماذا في الحياة أناس يَشْقَوْن؟ ولماذا في الحياة أناس معذَّبون؟ ولماذا في الحياة أناس هالكون؟ ما دام هدفهم جميعاً هو السعادة، الجواب عن هذا السؤال: إنهم أخطؤوا في تصور الوسيلة التي تُفضي إلى هذه السعادة.
بعض الناس رأى السعادة كلها في جمع المال، وكسب المال غير جمع المال، لأنَّ المال كما قال الله عز وجل: قوام الحياة، جعله الله لنا قياماً، فكسبُ المال من أجل أن ينفق على نفسه وعلى عياله، وأن يتقرب به إلى ربه، وأن يصون به أهله من التطلع إلى غيره، هذا هو كسب المال، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا)) يتوهم أو يتصور الإنسان أن سعادته في جمع المال فيسعى إلى جمعه ليلاً و نهاراً، سراً وعلانية في كل أوقاته، و خواطره، وهواجسه، ومشاعره، و طاقاته، وجهده، و إمكاناته، وتفكيره, وساحة نفسه ليس فيها إلا المال, وتأتيه المتاعب، والهموم، والأزمات إلى أن يكتشف في وقت متأخر وبعد فوات الأوان أن المال شيء لكنه ليس كل شيء، بل ربما كان جمع المال سبباً للشقاء في الدنيا والآخرة، وعلى هذه الحقيقة ألف قصة وقصة تعرفونها جميعاً, هذا يصاب بمرض عضال، وهذا بأزمة قلبية، وهذا يقول لك: إن الدنيا أطبقت عليّ، وكاد قلبي ينفطر من شدة الألم، كل ذلك بسبب تصوره الخاطئ. أنا أخشى أن يكتشف أحدكم هذه الحقيقة في وقت متأخر، لو ملكت مال قارون لم يسعدك إلا أن يشاء الله أن يسعدك، وقد تخيم على بيت سعادة لو يعلمها الأغنياء لَتَخَلَّوا عن ثرواتهم كلها، ليكونوا في مصاف هذا الذي أسعده الله.
قد يتوهم الإنسان أن السعادة في أن يكون له مركز مرموق، وهذا إما أن يحصِّله بالقوة أو بالعلم، فيسعى لنيل أعلى الشهادات لا لشيء إلا لتدغدغ نفسه كلمة دكتور مثلاً، وقد يسعى لمرتبة عالية كي يشعر أنه فوق الناس، ويتوهم أنه إذا نال هذه الشهادة العليا، وكتبها على مدخل بيته, ورحب الناس بها, ونظروا إليه نظرة إكبار، وتبجيل، وتعظيم روّى عن نفسه في حب العظمة، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان وفي خريف العمر أن الوجاهة زائلة وليست كل شيء، بل ربما كان سعيه لهذه الوجاهة سبباً لشقاوته، وكلمة " آه " يتلفظ بها الإنسان في خريف العمر وكأن نفسه تذوب فيها لقد عرف ولكن بعد فوات الأوان.
وقد يتوهم الإنسان السعادة في اقتناص الملذات من نادٍ ليلي إلى نادٍ ليلي آخر، ومن سهرة حمراء إلى سهرة خضراء، ومن مكان إلى آخر، ومن فندق إلى فندق، ومن بلد إلى بلد، أموال طائلة وشباب وفير، فها هو ذا ينفق أمواله على ملذاته، ما قولكم؟ إن هذا الذي يسعى للذاته قد ينتحر في ربيع العمر، الآن يكشف الإنسان إذا تبع لذته صار حقيراً، وبذيئاً، وتافهاً، و هامشيّاً بل نوعاً من الحيوان، إنهم أناس ليس بينهم وبين البهائم فرق أبداً، لا يعرفون إلا العمل المضني، واقتناص اللذائذ كالبهائم، والاستمتاع بالطعام والشراب لا قيم، ولا فكر، ولا مبدأ، ولا هدف، أموات غير أحياء: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾.
أقول لكم كلاماً واضحاً كالشمس: ما من مخلوق على وجه الأرض إلا ويسعى لسعادته ولكن الخطأ الفاحش الكبير الفادح يتأتّى من سوء تصور الوسيلة المفضية إلى هذه السعادة، إذا توهمتها في المال فأنت مخطئ، إذا توهمتها في القوة والعز والسلطان فأنت مخطئ، وإذا توهمتها في اقتناص الملذات في الفن وفي السياحة فأنت مخطئ، وهذا الخطأ خطأ مصيري لا يصحح بعد فوات الأوان ولا يعدَّل ولا يتلافى، إنه خطأ مدمر يسبب شقاوةً إلى الأبد.
أما المؤمن فليس كغيره من بني البشر، يسعى لهذه السعادة، و عرف الطريق الصحيح الموصل إليها، عرفها في معرفة الله، وفي طاعته، وفي القرب منه، ولذلك خط المؤمن البياني في صعود دائم أبداً بعد أن عرف الله فهو ينتقل مِن خير إلى خير، ومن سعادة إلى سعادة أكبر، ومن عقل إلى عقل، و من رفعة إلى رفعة، ومن طمأنينة إلى أمن، ولو جاء الموت يتابع خطه البياني في الصعود، لأنه تعرّف إلى الأبدي السرمدي، الحي الذي لا يموت، الذي سيكون معه إلى أبد الآبدين، تعرّف إلى الذات الكاملة، إلى من بيده ملكوت كل شيء كان الله ولم يكن معه شيء: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. هذا المؤمن الذي سعد بربه قد يفتقر إلى المال، وقد يكون دخله لا يكفيه إلى آخر الشهر، ومع ذلك فهو أسعد السعداء، وقد تكون في جسده علة مَرَضية مزمنة، أو يكون ذا شأن يسير فلا أحد يعرفه، أو تكون حياته خشنة، ومع ذلك فهو مِن أسعد السعداء، ما هذه المفارقة؟ تملك المال، والقوة، وعز الدنيا، وتُمضي العمر كله في اللذائذ وتشقى، هذا هو سر الإيمان، إنه السر العظيم. " ابن أدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتَّك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
لن يتحقق مطلبكم جميعاً في الدنيا والآخرة إلا عن طريق الدين، لن يتحقق مطلبكم الأسمى وهو أن تسعدوا في الدنيا والآخرة إلا عن طريق معرفة الله عز وجل والتقرب إليه، وخدمة خلقه ومحبته، والتضحية بكل نفس ونفيس، وغال ورخيص، من أجل هذا القرب وهذا ملخص الدين، أي أن الله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الكبرى في الكون ولا حقيقة سواها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وأي شيء يقربك من الله فهو الحق، وأي شيء يبعدك عن الله فهو باطل، والباطل له معنى آخر فأي شيء استهلك وقتك، ومنعك أن تكون مع الله في هذا الوقت فهو باطل، فهذا الذي يجلس ويلعب النرد مع أصدقائه من أجل التسلية فهذا باطل، لأن الإنسان مخلوق لهدف ثمين، وها أنت ذا تستهلك الوقت في هدف تافهٍ لا جدوى منه. ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾.