سيدنا أبو أيوب الأنصاري أحد الصحابة الذين وصلوا إلى أقاصي الشمال:
أول شيءٍ أحب أن أضعه بين أيديكم في هذا الدرس هو أنك إذا ذهبت إلى الحج، ورأيت مئتي ألف من الحجاج الأتراك، وكلهم يبتهلون إلى الله، ويدعون الله، فإنهم في صحيفة هؤلاء الصحابة الكرام الذين خرجوا من مكة المكرمة، ومن المدينة المنورة، لينشروا هذا الدين في الآفاق.
سيدنا أبو أيوب الأنصاري أحد هؤلاء الصحابة الذين وصلوا إلى أقاصي الشمال، ودفن عند أسوار القسطنطينية، فهو الآن مدفون في أحد أحياء اسطنبول، حينما اتسعت اسطنبول شملت قبره رضي الله عنه وأرضاه، على كلٍ الإنسان يعمل في الحياة الدنيا أعمالاً كثيرة، لكن أرقى عمل له حينما ينشر الحق.
ما العبرة التي يمكن أن نأخذها من دراسة سيرة أبي أيوب الأنصاري ؟
هذا الصحابي الجليل له قصة مثيرة جداً مع رسول الله صلى الله عليه، على كلٍ هو آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى المدينة مهاجراً، فهو من الرعيل الأول الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية، ولكن من خلال هذه القصة تجدون العلاقة بين أصحاب رسول الله وبين رسول الله علاقة فريدة من نوعها، وإن شاء الله سأقف وقفة عندها، و عند كل نقطة من سيرة هذا الصحابي الجليل.
الوقائع التي سأسردها لكم ربما سردت من قبل، أو ربما قرأتموها في كتاب، والتركيز هنا لا على الوقائع بل على التحليل، ولا على التحليل فحسب، بل على ربط هذه الوقائع وذاك التحليل بحياتنا اليومية.
أنت أيها الإنسان، ما شأنك بهذه القصة؟ ماذا تستفيد منها؟ ماذا تستنبط منها؟ ما الدروس البليغة التي يمكن أن تأخذها؟ بل وأرقى من ذلك، اسأل نفسك بعد حين، ما المواقف التي وقفتها اقتداء بهذا الصحابي الجليل؟ ماذا أفادني هذا الصحابي الجليل؟ ماذا علمني هذا الصحابي الجليل؟ هل قلدته؟ هل اتبعت خطاه؟.
لقد رضي الله عن أصحاب رسول الله، فإذا قلت في حديثك عن أصحاب رسول الله: رضي الله عنهم، فهذا ليس دعاء، لكنه تقرير، وفرق كبير بين الدعاء والتقرير، أنت إذا ذكرت الإمام أبا حنيفة تقول: رضي الله عنه، هذا دعاء، وإن ذكرت رجلاً عالماً، جليلاً، مستقيماً، عاملاً، تقول: رضي الله عنه، لكن هذه رضي الله عنه غير تلك، فهذه دعائية، أما إذا ذكرت أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم تقول: رضي الله عنه تقريراً، وأنت في هذا لا تتألى على الله، ولكن تقول: ما قال الله، ألم يقل الله عز وجل: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
يا أخي الكريم، هل من مرتبة على وجه الأرض أعلى من أن يرضى عنك خالق الكون؟ أن تشعر أنك في رضاه، أن تشعر أنه يحبك، أنه يحفظك، أنه يوفقك، قال تعالى: ( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا )
كما قال الله عز وجل مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال بعض علماء التفسير: إن لكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه واستقامته.
الأقوياء ملكوا رقاب الناس لكن الأنبياء ملكوا قلوب الناس :
النبي عليه الصلاة والسلام، حينما بلغ المدينة تلقته أفئدة أهلها بأكرم ما يتلقى بها وافد، تطلعت إليه عيونهم، تبثهم شوق الحبيب إلى حبيبه، وهنا وقفة.
أيها الأخوة الأكارم، الإنسان له قالب وله قلب، بالقوة تملك القالب، إذا كنت قوياً بإمكانك أن تخضع الناس جمعياً لمشيئتك، بإمكانك أن تجعلهم يقولون أية كلمة تريدها، بإمكانك أن تحملهم على أي موقف، أي إنك ملكت قوالبهم، ملكت أجسامهم، ملكت رقابهم، ملكت عضلاتهم، ملكت ألسنتهم، ملكت حركاتهم، ملكت سكناتهم، إنك بالقوة تملك القالب فالبطولة ليس أن تملك رقاب الناس بالقوة، لكن بطولة الأنبياء أنهم كانون من أضعف خلق الله، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي
شاءت حكمة الله أن يكون معظم أنبيائه ضعفاء، كأي شخصٍ عادي، بل إن قومه اتهموه بالجنون وبغيره، وقالوا: ( وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
يتهمه الكافر الضال بالسحر، يتهمه بأنه كاهن، يتهمه بأنه شاعر، هذا الذي يتهمه ينام في بيته ناعم البال، مطمئناً، كيف تتهم النبي بأنه مجنون، وتنام في البيت ناعم البال؟ لأنه ضعيف، لو كان قوياً لما أمكنك أن تتهمه هذا الاتهام، ولما نجوت من عقابه، إذاً: فقد شاءت حكمة الله أن يكون النبي ضعيفاً لكن بكماله ملك القلوب.
الإنسان قلب وقالب، الأقوياء يملكون القالب، لكن الأنبياء ملكوا القلوب، هذه البطولة،
البطولة أن يحبك الناس حباً حقيقياً، البطولة أن تهفو قلوب الناس إليك، البطولة أن تشعر أنهم يؤثرونك على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، البطولة أن يميل القلب ميلاً حقيقياً، إليك النبي عليه الصلاة والسلام أحبه أصحابه حباً يفوق حدّ الخيال.
ألم تسمعوا حينما سأل أبو سفيان خبيب بن عدي، قال له قبل أن يصلب، قبل أن يقتل، قال يا خبيب:أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك؟ يقولون: أن سيدنا خبيباً انتفض، كما ينتفض العصفور المذبوح، قال: لا والله، لا أحب أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة
والله ما كان كاذباً، والله كان صادقاً، هذا الحب الذي يفتقده المسلمون اليوم، الثقافة موجودة، معلومات، أشرطة، كتب، مجلات، أما هذا الحب الذي هز قلوب أصحاب رسول الله، فجعلهم يؤثرون طاعة الله عز وجل على كل شيء، هذا الذي نرجو أن نصل إليه، أو هذا الذي نرجو أن نسعى إليه.
الخير الذي لحق ببيت أبي أيوب الأنصاري:
هؤلاء الأنصار الذين آمنوا بالنبي قبل أن يروه، وحينما جاء النبي إليهم، عبروا عن حبهم تعبيراً غريباً، عبروا عن شوقهم، عبروا عن وفائهم، عبروا عن إخلاصهم، فتحوا له قلوبهم ليحل منها في السويداء، اشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل.
فكل صحابي، بل كل أنصاري، كان حلمه الأعظم أن ينزل النبي ضيفاً عنده، فهذا شرف ما بعده شرف، هذا مقام ما بعده مقام، لأنّ النبي سيد الأنبياء، سيد الرسل، الإنسان الكامل، قمة البشر، يأتيه ضيفاً، ويقيم عنده ضيفاً في بيته مكرماً معززاً، فهذا شرف لا يُدانى.
النبي عليه الصلاة والسلام لحكمة بالغة يعرفها كتاب السيرة بقي في قباء أربعة أيام، وبنى فيها مسجداً هو أول مسجد بني في الإسلام، هذا المسجد أسس على التقوى، فأحياناً تجد مسجداً أسس على التقوى، الذي أسسه لا يبتغي سمعة، ولا شهرة، ولا مجداً، ولا كسباً، ولا شيئاً من هذا القبيل، والذي يدرس فيه، والذي يخطب فيه، مخلصون لله سبحانه، يجب أن تكون الدعوة إلى الله خالصة لوجهه الكريم، وألا تختلط بالدنيا، ألا تشوبها شائبة، ألا يوضع الدين في الوحل، أن يبقى الدين في السماء، أن يبقى الدين بعيداً عن المصالح، عن الأهواء، عن المنازعات، عن المكاسب الدنيوية، هذا هو الدين.
أنت أيها المؤمن تمثل هذا الدين، إياك أن تكذب، إياك أن تخون، إياك أن تغش الناس، إياك أن تخلف وعدك معهم، من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته،
أنت سفير، كل واحد منكم سفير الإسلام، لأقربائهِ، وجيرانه، وزملائه في العمل، الأضواء كلها مسلطة عليك، أصغر ذنبٍ تفعله يكبره الناس، أنت حينما أعلنت أنك مسلم، أو حينما اتبعت منهج الإسلام، أو حينما عرف الناس أن لك خلفية دينية، أو حينما اتجهت اتجاهاً إسلامياً، فأنت الآن تحت المراقبة، فإياك أن تسيء لدينك، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام، فلا يؤتين من قبلك.
وبعد أن قضى النبي الكريم في قباء أربعة أيام ركب ناقته، وتوجه تلقاء يثرب، بين يثرب وبين قباء، يعني مسير ربع ساعة أو ثلث ساعة تقريباً.
أنا في أول عمرة أكرمني الله بها ذهبت إلى هذا المسجد، أمامه ساحة، وفي وسط هذه الساحة نصب عمود، وفوق العمود كرة من البلور مكتوب عليها طلع البدر علينا، سمعت هذا النشيد في بلادي عشرات، بل مئات، بل ما يقترب من ألوف المرات، لكن ما شعرت بنشوة، ولا هزة انفعالية إلا حينما رأيت المكان الذي وقف فيه أصحاب النبي يستقبلونه عليه الصلاة والسلام، في هذا المكان وقفوا واستقبلوه، وقالوا: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، فكانوا الأنصار يعترضون الناقة، ناقة رسول الله في مسيرها، ويقولون: أقم عندنا يا رسول الله، أقم عندنا في العَدد والمنعة، نحن أقوياء، نحن رجال كثر، وعندنا أسلحة كافية، ونمنعك من عدوك، هذا عرض مغرٍ.
في الحقيقة، القيادة عمل فذ، فليس كل إنسان يكون قائداً، القائد عندما ينحاز لبعض الأطراف، ويهمل بعضها الآخر، فعندئذ يقع في مشكلة كبيرة، من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، أنه ما من واحد من أصحابه إلا وهو يظن أنه أقرب الناس إليه، فلو أنه أختار اللهم صل عليه بيتاً من البيوت تنشأ حساسيات، وتنشأ غيرة، بل أن النبي وقف موقف حكيم جداً فالحكمة هي أحد مستلزمات القيادة، فقال:
كلما اعترض هذه الناقة أسياد الأنصار، وقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا في العَدد، والعُدد، والمنعة،
يقول لهم: دعوها فإنها مأمورة، اتركوها فإنها مأمورة
فالنبي الكريم علمنا القرعة، القرعة ما لها مشكلة، إذا جرى تنازع بين أفراد وهم بدرجة واحدة بالنسبة لك، تحبهم جميعاً وتنازعوا على شيء، كأن يكون لك أولاد، وأنت مدعو إلى سهرة، أو مدعو إلى عقد قران، الأنسب أن تأخذ واحداً فقط، واخترت واحداً، وغيره أهملته، تنشأ مشكلة، فأقرع بينهم، فالقرعة تطيب بها النفوس.
والناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون وتحف بها القلوب،
ويقول القائلون: هنيئاً لمن تقف عنده هذه الناقة،
فإذا اقتربت من منزل فرح أهله، وما زالت هذه الناقة على حالها، والناس يمضون في إثرها، وهم يتلهفون شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ، حتى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيوب الأنصاري.
وقبل أن تقف الناقة، توضح كتب التاريخ والسيرة أنه حينما شعر عليه الصلاة والسلام أن هناك تنافساً شديداً، وهناك حساسية بالغة، وكل الأنصار يتمنون أن يقبع عندهم، أطلق زمام الناقة، لأنه لو كان ماسكاً الزمام فقد يكون تحركها بتوجيه من رسول الله، ولو أمسك الزمام، وشد الزمام، وشده يمنة أو يسرة، أو منعها لثارت شكوك، حينما رأى الأمر بهذه الدرجة من الحساسية، أطلق زمام الناقة، ولم يثنها لا يمنة ولا يسرة، ولم يستوقف خطاها، وقال: اللهم خر لي واختر لي
لذلك الآية الكريمة التي يقرؤها المؤمنون وتذوب نفوسهم بها، قال تعالى: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
يعني شاب اختار الله له زوجة، أو اختار له عملاً، أو أختار له بيتاً، فلم يدخل بكلمة لو، لو فعلت كذا لكان كذا، لو اخترت هذا لكان كذا، فكلمة (لو) ممنوعة في قاموس المؤمن لأنها تفتح عمل الشيطان، لا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، وقل: قدر الله، وما شاء فعل،
أما المؤمن، يقول: للهم خر لي واختر لي
في عملك، في زواجك، في شراء البيت، في تربية أولادك، هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام، فالله هو العليم، هو الحكيم، هو الرحيم، هو الخبير، اترك الأمر إليه.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها، حكم ما بعدها حِكم، ليست القضية أنه هو أوقفها ونزل، أو لمجرد أن وقفت نزل، بل حتى يثبت موقف الناقة، فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي، والنبي عليه الصلاة والسلام مُرخٍ لها زمامها، ثم ما لبثت أن عادت ادراجها وبركت في مبركها الأول.
القضية مركزه، والموقع اختاره الله عز وجل، وهذا الموقع ماذا أصبح الآن أصبح مقام رسول الله؟ والمسجد النبوي بني فيه القضية لها أثر كبير جداً، عندئذ غمرت الفرحة فؤاد أبي أيوب الأنصاري، وبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرحب به، وحمل متاعه بين يديه وكأنما يحمل كنوز الدنيا كلها، ومضى إلى بيته، هذا الإنسان العظيم حلّ ضيفاً عنده.
وصف بيت أبو أيوب الأنصاري وماذا حدث معه؟
أيها الأخوة، أما منزل أبو أيوب الأنصاري، منزل متواضع، يتألف من طبقة فوقها علية، يعني غرفة صغيرة لكنها في الطبقة الثانية، فأخلى العلية من متاعه ومتاع أهله، لينزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام رحمة بأصحابه آثر عليها الطبقة السفلى، لأن الطابق الأرضي أسهل للصحابة عند لقائه والقدوم إليه، فالباب خارجي والمنزل أرضي، وهذا فيه سهولة واضحة، فامتثل أبو أيوب لأمره، وأنزله حيث أمر والامتثال خير من الأدب، فإذا وقع خلاف فالأدب هو الامتثال، والامتثال أولى، ولما أقبل الليل، وأوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، صعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته إلى العلية، وما إن أغلقا عليهما بابهما حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته، وقال:
ويحك ماذا صنعنا بأنفسنا؟ أيكون النبي عليه الصلاة والسلام أسفل منا، ونحن أعلى منه؟ أنمشي فوق رسول الله؟ أنصير بين النبي وبين الوحي، إنا إذاً لهالكون؟
فما هذا التعظيم؟ ماذا قال الله عز وجل: ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
هذا الذي يعظم رسول الله، يعظم المصحف، يوقر الكعبة، فهذا يعرف الحق لأصحابه، هناك أشخاص يستهينون بهذه المقدسات، بينما تعظيم هذه المقدسات دليل إيمان الإنسان، والأصل في ذلك قوله تعالى: ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
وهنا نقف إزاء ملاحظة لا بد من بيانها: أن الكفر أنواع ثلاثة: هناك كفر قولي، وكفر اعتقادي، وكفر سلوكي.
لو أن إنساناً أمسك بالمصحف، وألقاه وأراد أن يهينه فقد كفر، هذا سيدنا أبو أيوب يقول: ماذا فعلت اليوم؟ أنمشي فوق رسول الله؟ أيكون النبي أسفل منا؟ أنكون بينه وبين الوحي؟
إن ذنب المنافق كالذبابة، وذنب المؤمن كالجبل الجاثم فوق صدره، كلما استصغرت الذنب كبر الذنب، وكلما استعظمت الذنب صَغُر.
لم تسكن نفسهما بعض السكون إلا حينما انحاز إلى جانب العلية، الذي لا يقع فوق رسول الله، والتزاماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط، نام هو على طرف الحائط، وزوجته على الطرف الآخر، يعني ابتعدا عن مكان نوم النبي عليه الصلاة والسلام.
لما أصبح أبو أيوب، قال للنبي عليه الصلاة والسلام:يا رسول الله، والله ما أُغمض لنا جفن هذه الليلة، لا أنا ولا أم أيوب
يعني من سعادة المرء أن تكون زوجته على نمط الزوج، فأحياناً تجد الزوجة تعترض على زوجها، أم أيوب مثلها مثله تماماً،
فقال عليه الصلاة والسلام:ومما ذلك يا أبا أيوب،
فقال: ذكرت أني على ظهر بيت أنت تحته، وإني إذا تحركت تناثر عليك الغبار، فآذاك، ثم إني غدوت بينك وبين الوحي،
فقال عليه الصلاة والسلام: هون عليك يا أبا أيوب، إنه أرفق بنا أن نكون في السفلي، لكثرة من يغشانا من الناس
فالله عز وجل وضعه في آية، فقال: ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)
قال أبو أيوب: فامتثلت لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرة في العلية، ووقعت مشكلة، وأريق ماؤها في العلية، وكانت مشكلة كبيرة جداً، فقمت إلى الماء أنا وأم أيوب، وليس لدينا إلا قطيفة كُنّا نتخذها لحاف، وجعلنا ينشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
هذا كله مسجل، الأدب مسجل، الحب مسجل، والتضحية مسجلة، والبذل مسجل، والإنفاق مسجل.
فلما كان الصباح، غدوت على النبي صلوات الله عليه، وقلت له: بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل مني، ثم قصصت عليه خبر الجرة، وهكذا صار معنا البارحة، فاستجاب لي
ما أحب أن يحرج أبا أيوب، ما أحب أن يحمله فوق طاقته فوقف موقفاً ليناً .
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر، حتى تم بناء مسجده في الأرض الخلاء، التي بركت فيها الناقة، فانتقل إلى الحجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه، فغدا جاراً لأبي أيوب، معناها بيت أبي أيوب الأنصاري إلى جوار المسجد النبوي الشريف.
المحبة والشوق اللتان غمرتا أبا أيوب الأنصاري اتجاه رسول الله مما رأى من كماله الإنساني :
أيها الأخوة، إقامة النبي عند سيدنا أبي أيوب الأنصاري، أورثت لهذا الصحابي حباً للنبي منقطع النظير، والحقيقة أن الإنسان أحياناً يُحبُّ عن بعد، فإذا سافرت معه تنكمش منه،
قالوا: الإنسان إذا رأيته أول مرة تعرفه من شكله، من هندامه، من ألوان ثيابه، فإذا تكلم نسيت شكله .
الأحنف بن قيس كما تعلمون، كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الذقن، ضيق المنكبين، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، أحنف الرجل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضب غضب لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
فإذا عاملك تنسى كلامه، فالبطولة أن على الإنسان ألا يحب عن بعد، بل أن يحب عن قرب، أن يحب وأنت شريكه، وأنت مسافر معه، هو جارك، هو ضيفك، أما من بعد، كل إنسان ببيته، بعلاقاته العامة، أناقة واحترام، وكلام لطيف، واعتذارات، ودبلوماسيات، وعبارات رقيقة، أما المجاورة، أو السفر، أو المحاككة بالدرهم والدينار، فهذه هي المحكة، بعض الأشخاص لهم هالة كبيرة جداً، لو دخلت إلى حياتهم الخاصة، لرأيت فرقاً شاسعاً بين أقوالهم وبين أفعالهم، لذلك تنكمش منهم.
فسيدنا أبو أيوب عاش مع النبي في بيت واحد، وعلى قرب شديد، فماذا فعل به هذا القرب الشديد؟ زاده حباً، زاده تعلقاً، زاده تعظيماً، زاده إكباراً لكماله، المؤمن تحبه عن قربٍ وعن بعدٍ، تحبه من دون أن تخالطه، وتحبه إذا خالطته، تحبه من دون أن تسافر معه، وتحبه إذا سافرت معه، تحبه من دون أن تشاركه، وتحبه إن شاركته.
أنا أتألم جداً عندما أرى أخوين بعد أن تشاركا تخاصما، رغم كل هذا الحب، وكل هذه المودة، لما دخلتما في شركة واحدة، بدأت الخصومات، والحسد، والانتقادات، لماذا؟ لضعف إيمان أحدهما، أو لضعف إيمان كليهما، بالعلاقات الحميمة يزداد تألق المؤمن، وكذلك في السفر، ومع الجوار، إن سكن معه في بيت واحد، ازداد الحب، والتعلق، والشوق، حتى رفعت الكلفة.
والنبي عليه الصلاة والسلام يعني قائد فذ، صديق حميم، وأب رؤوف، وزوج ناجح، كان إذا دخل صحابي يداعبه هذا خالي أروني خالاً مثل خالي
فالنبي الكريم أقام في هذا البيت سبعة أشهر، وكأن هذا البيت بيته، ورفعت الكلفة بينهما إلى ما لا نهاية.
لذلك يا أخوان، أجمل شيء في الحياة، أخ لك مؤمن، تخلص له، ويخلص لك، تحبه ويحبك، تؤثره ويؤثرك، تضحي من أجله، ويضحي من أجلك، تقرضه ويقرضك، تعينه ويعينك، تشعر بمشاعره، تتألم لآلامه، تفرح لأفراحه، هذا حال المؤمنين، هكذا قال النبي: المؤمنون بعضهم لبعض نصحه متوادون، ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون، ولو اقتربت منازلهم.
فعلامة أهل الإيمان أنهم يحبون بعضهم حباً حقيقياً، ومع الحب رفع الكلفة، ومع الحب الوفاء، ومع الحب التضحية، ومع الحب التعاون، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)
سيدنا أبو أيوب، بعد أن انتقل النبي إلى بيته المجاور للمسجد النبوي، وهو يرى أن كل سعادته بإكرام النبي، كل سعادته كانت أساسها، أن الله أكرمه بأن جعل النبي ضيفه، فهذا الخير كأنه انقطع، فأحبّ أن يستمر الخير فكان يعد له كل يوم طعاماً على الطريقة القديمة، و النبي الكريم، قال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل
فإذا أنت صليت قيام الليل فاستمر، وإن خصصت مبلغاً كل شهر صدقة فاستمر، الأعمال المستمرة، تتراكم، ومع التراكم تتعاظم، ومع التعاظم تحملك إلى الله عز وجل، لكن بعضهم يهب هبة ثم ينطفئ، يفور ويهمد، هذا ليس من صالح المؤمن، أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
إن كان لك عمل صالح فاستمر عليه، تقصد هذا المسجد استمر عليه لك هذه الصدقة، لك هذا الجزء من القرآن تقرؤه كل يوم استمر عليه، لك هذا الذكر استمر عليه.
البشاشة التي كانت على وجه أبي أيوب حينما استقبل ضيافة رسول الله ومن معه :
فمرة طرق النبي الكريم مع سيدنا الصديق وسيدنا عمر باب داره، يعني النبي جاع، وكان فقيراً، ولأن النبي قدوة للمؤمنين جميعاً إلى يوم القيامة، لابد من أن يذوق كل شيء، ولو أن النبي ما ذاق الجوع إطلاقاً، وما ذاق الفقر إطلاقاً، فلا يمكن أن يكون قدوة لنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوذيت وما أوذي أحد مثلي، وخفت وما خاف أحد مثلي، ومضى علي ثلاثون يوماً، لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال
فيبدو أن النبي لم يكن عنده طعام، فانطلق إلى بيت أبي أيوب، ماذا فعل أبو أيوب؟ كان يعمل في نخلٍ قريب، فأقبل يسرع، ويقول:
مرحباً برسول الله، وبمن معه
أحياناً تهتم بالضيف الأول، وتهمل الباقين، فيستحون بحالهم، لأن المضيف لم يلتفت إليهم، انتبه يا أخي، فمع ضيفك اثنان آخران، رحب بهم جميعاً.
بالمدينة المنورة أخٌ دعانا إلى غذاء، لفت نظري أنه ما أكل معنا أبداً، بقي واقفاً يقدم لنا الطعام، هذه من سنة النبي، فالترحيب والإكرام، يقف ويوزع الطعام بيده، على كل واحد من المدعوين، هذه من سنة النبي.
انطلق أبو أيوب إلى نخلة، فقطع منها عرقاً، فيه تمرٌ ورطبٌ وبسرٌ، البسر يعني تمر لم ينضج بعد،
فقال عليه الصلاة والسلام: ما أردت أن تقطع يا أبا أيوب، هلا جنيت لنا من ثمره،
قال: يا رسول الله، أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره، فكل ما تشتهي نفسك بسراً أو رطباً أو تمراً يا رسول الله، ولأذبحن لك أيضاً،
قال: إن ذبحت، فلا تذبحن ذات لبن
وفي أيامنا هذه قد يكون أحد جائعاً ولا يقبل ضيافة مضيفه، ويقول: قبل قليل أكلت، هذا لا معنى له، أنت جائع، وهو أحب أن يكرمك، قل له: ضع لنا أكلاً، ما في مانع، يعني الكريم ما من كلمة أحب إلى قلبه من أن يقول له الضيف: ضع لي طعاماً، لكن بلا تكلف.
فأخذ أبو أيوب جدياً، فذبحه، ثم قال لامرأته: اعجني واخبزي لنا، ثم أخذ نصف الجدي فطبخه، وعمد إلى النصف الآخر فشواه، فلما نضج الطعام، ووضع بين يدي النبي وصاحبيه،
أخذ النبي قطعة من الجدي، ووضعها في رغيفٍ، فقال: يا أبا أيوب، بادر بهذه القطعة إلى فاطمة، فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام
فالمؤمن وفيّ لأهله، واليوم أخوان مؤمنون كثيرون إذا دعي لطعام نفيس، ففي اليوم التالي يجلب للبيت طعاماً مثله لأهله، يعني هذه زوجتك، وشريكة حياتك، فان أكلت أنت ما لذّ وطاب، وهي محرومة، فهذا شيء لا يليق بالزوج أبداً.
فلما أكلوا وشبعوا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: خبزٌ، ولحمٌ، وتمرٌ، وبسرٌ، ورطبٌ، ودمعت عيناه
يعني أحدنا إذا أكل صباحاً، وكان على المائدة لبن مصفى، وزيتون، وجبن وبيض مقلي، وكأس حليب، فلا يبكي، أو لا تدمع له عين شكراً على ما أنعم الله عليه، لكن النبي بكى، فالنبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت.
ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة
إذا الإنسان أكل قطعة جبن مع كأس شاي، وصحة طيبة، فهذه أكبر نعمة
فإذا أصبتم مثل هذا، فضربتم أيديكم فيه، فقولوا: بسم الله،
قال: فإذا شبعتم، فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا، وأنعم علينا فأفضل، ثم نهض النبي إلى أبي أيوب، وقال: ائتنا غداً لنكافئك والنبي الكريم، قال: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه
ما تخلف أبو أيوب عن غزوة غزاها مع رسول الله:
سيدنا أبو أيوب عاش طوال حياته غازياً، حتى قيل: إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها النبي أبداً، وكانت الآية الكريمة شعاراً له: ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً)
سيدنا أبو أيوب في عهد معاوية بن أبي سفيان، انخرط في جَيَّش جيشه معاوية بقيادة ابنه يزيد لفتح بلاد الروم، كم كان عمره في ذاك الوقت؟ ثمانون عاماً، بينما في أيامنا الرجل بالأربعينات معه حزمة أدوية قبل الطعام وبعده.
عاش هذا الصحابي الجليل مجاهداً، يبدو أنه أصابه مرض في هذه الغزوة، كان قائد الجيش يزيد بن معاوية، فخف إليه القائد، قال له: يا أبا أيوب، ما حاجتك؟ فطلب أبو أيوب الأنصاري من يزيد إذا هو مات أن يُحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض العدو، ويدفن هناك، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع أبو أيوب وهو في قبره وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، عندئذ يدرك أنهم قد أدركوا ما يبتغون، من نصر وفوز، وهذه أمنيته.
سيدنا عمر بن الخطاب، حينما قتل، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، سأل سؤالاً، قال: أصلّى المسلمون الفجر؟
هذه أمنية أبو أيوب الأنصاري، وقد تحققت، وقبره معروف ضمن اسطنبول، حتى الحي المدفون فيه له اسم شهير، طبعاً يزيد بن معاوية أنجز وصية أبي أيوب وقبره في قلب القسطنطينية، وهي اليوم اسطنبول، وتضم جثمان هذا الرجل العظيم، أما الشيء الغريب، أنه قبل أن تفتح القسطنطينية، وتغدو اسطنبول كان الروم يتعاهدون قبره، ويزورنه، ويستسقون بقبره إذا قحطوا.
فأعداء المسلمين كانوا يتبركون به، أنا أعرف يقيناً أنه ما من رجل أوروبي زار دمشق إلا وطلب زيارة قبر سيدنا صلاح الدين، ويقف هؤلاء باحترام كبير أمامه، لأنه عاملهم أشرف معاملة، لما انتصر عليهم في بيت المقدس.
من أقواله الشهيرة :
من أقوال سيدنا أبي أيوب: إذا صليت فصلّ صلاة مودع، هذا الحديث عن رسول الله، أما سيدنا أبو أيوب كان يتمثله دائماً، ولا تكلمن بكلام تعتذر منه، وتمام النصيحة هي: إلزم اليأس مما في أيدي الناس، يحبك الناس، إياك وما يعتذر منه، ولا تطمع بما عند الناس، هذه كلها من نصائح هذا الصحابي الجليل، التي كان يأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل واحد رأى ملايين الأتراك المسلمين، والأعداد الكبيرة منهم في الحج، وهذا كله من بركات هذا الفتح الإسلامي لهذه البلاد، ولنا أخوان من الصين، أين الصين؟ سألت أخاً زارني منذ يومين، قال لي: أنا من الشمال، الشمال الشرقي، من الصين، أولئك الفاتحين إذ آلاف الكيلومترات بين الشام وبين الصين، ورغم بعد المسافة وصلوا عليها وفتحوها.