الحكمة الربانية في توزيع القدرات بين البشر:
أيها الأخوة الأكارم، مع سير أصحاب رسول الله رضي الله عنهم تعالى أجمعين، وصحابيّ اليوم تعرفونه جميعاً، فما من مسلم إلا ويطرق سمعَه اسمُ هذا الصحابي الجليل في كل خطبة تُلقَى، وفي كل درس يُعطَى، وفي كل كتاب يُقْرأ، إنه الصحابي الجليل أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه.
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل نذكر سببَ اختيار هذا الصحابي، في فكرة أساسية مؤَدَّاها أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان حرية الاختيار، وجعل للجنة أبوابًا عدة، فكل إنسان بإمكانه أن يصل إلى الجنة من أيِّ باب من هذه الأبواب، هناك من يطلب العلم فقط ليتعلَّم ويعلِّم، وهناك من يتعلّم ويقدِّم خدمات للناس، وهناك من يبني المساجد، وهناك من يرعى الأيتام، وهناك من يعين الضعفاء، وهناك من ينصر المظلومين، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق
فمِنَ السذاجة وضيق الأفق والجهل أن تظّن أن الجنة للدعاة إلى الله فقط، لا، فهي أيضًا لأصحاب الحرف، ولمن أتقنوا حرفهم، ولمن خدموا الناس، ولأصحاب الأموال الذين أنفقوا أموالهم رخيصة في سبيل الله، ولأصحاب الجاه الذين وضعوا جاههم في خدمة الضعفاء، ولمن أنشؤوا دور العلم، ولمن أسّسوا دور الأيتام، أبواب الجنة مفتحة لكل هؤلاء، فأنتم ترون كيف أنّ صحابياً جليلاً باعُه طويل في الجهاد، كسيدنا خالد؟ وأن صحابياً جليلاً آخر باعه طويل في الإنفاق، وأن صحابياً جليلاً آخر باعه طويل في تعلُّم العلم وتعليمه.
فهذا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه نمطٌ فريد، فما من صحابي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن خمسة آلاف وستمئة حديث كأبي هريرة،
والشيء العجيب أنّ الإنسان مخيَّر، ومع أن الحياة تحتاج إلى آلاف آلاف الأعمال فقد نسق الله عز وجل بين اختيار الإنسان وبين إعمار الكون على مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فكل إنسان يحقق اختياره ويستمتع بعمله، ومجموع الأعمال يحقق إعمار للأرض، لكنْ كيف تمّ هذا التنسيق بين اختيار الناس وبين تحقيق حاجات البشر جميعاً؟ لقد تمّ هذا بترتيب وتدبير الله سبحانه على مستوى مدينة واحدة، فيها خطاطون، وفيها قراء قرآن، وفيها تجار، وكل إنسان اختار مهنة أحبّها، وبرع فيها، لكن كيف تنسق اختيار هؤلاء جميعاً؟ حيث إن هذه المدينة فيها كل الحِرَف، وفيها كل الفعاليات.
على كُلٍّ مقدمتي هذه هدفُها أن أحدناً لا يتوقف عمله، فأي قطر إسلامي يعدّ من أكبر الأقطار الإسلامية تعداداً من حيث سكانه، إندونيسيا، فيها مئة وخمسون مليون مسلم، والأمة العربية من خليجها إلى محيطها مائتا مليون، أكبر قطر إسلامي أسلم أبناؤه عن طريق التجار والبيع والشراء،
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
لماذا؟ لأنه داعية كبير، وهو لا يدري، ولأنه حقق للناس حاجات أساسية باعهم بضاعة جيدة بسعر معتدل، وكان لطيفًا معهم، رحيمًا بهم، سَمْحًا في التعامل معهم، فهذا التاجر الصدوق يمكن أن يكون داعية إلى الله وهو ساكت.
تسمية النبي له وكنيته:
والآن إلى الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، لقد كان الناس يدعون هذا الصحابي الجليل في الجاهلية عبد شمس، الناس بأسمائهم، فرعون، قارون، سيدنا زيد، ولا تجد إلا كنية واحدة في القرآن كله، وهي أبو لهب، لأن اسمه الأساسي عبد العزى، والقرآن لا يصح أن يذكر اسمًا أساسه الشرك لذلك قال تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)
أحيانا يتألم الإنسان إذا نودي باسمه، لا تتألم يا أخي، فقد نادى الله الأنبياء بأسمائهم، فقال: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)
ناداه باسمه، قال تعالى: ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)
أما أصحاب الكنى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
القرآن الكريم لم يذكر من أسماء الكنى إلا أبا لهب قياساً على هذا، فاسم هذا الصحابي الجليل عبد شمس، فلما أكرمه الله بالإسلام، وشرّفه بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام،
قال له: ما اسمك؟
قال: عبد شمس،
فقال عليه الصلاة والسلام: عبد الرحمن،
فقال: نعم، عبد الرحمن بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله،
ومِن السنة أن تُغَيِّر أسماءَ مَن تحب إنْ كانت قبيحة منفِّرة، أو كانت من أسماء ترمز إلى الشرك، ولا تليق بالمؤمن الموحِّد، هناك أسماء لا تليق، مثل عدوان، لماذا؟ ينبغي أن نغيِّرها، أعتقد أنّ من حق الإنسان أن يغيّر اسمه إلى اسم يروق له، لكن دائماً من حق الولد على والده أن يحسن تسميته كي يزهو باسمه.
أمّا لماذا كان يكنى بأبي هريرة؟ فإنّ سبب ذلك كانت له هرة وهو صغير، يلعب بها، فجعل لدّاته أي أصدقاؤه ينادونه أبا هريرة، وشاع ذلك، وذاع حتى غلب على اسمه.
فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيراً بأبي هِرّ، إيناساً له وتحبباً، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق لطيفًا،
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ، قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ نُغَرٌ، كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهـُوَ فِي بَيْتِنَـا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا
وكان يتحبب للسيدة عائشة زوجته،
دخل النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة، فقال: يا عويش، مالي أراك أشرق وجهك
فصار يُؤْثر أبا هر على أبي هريرة، ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله.
الحرفة التي اتخذها أبو هريرة بعد إسلامه:
أسلم أبو هريرة على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، وظل في أرض قومه دوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين، حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل انقطع لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ المسجد مقاماً، واتخذ النبي معلماً وإماماً، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج ولا ولد،
أحيانًا التفرغ له معنى، فمع طلب العلم رائع جداً، والكلام موَجّه إلى أخواننا الشباب، وأنتم الآن في طور اليفاع، وأنتم الآن متفرغون، لا زوجة ولا ولد، والزواج مسؤولية ومتاعب، فريثما تتزوج أحدكم فعليكم بمضاعفة الجهد، لأن هذا الوقت الذي تعيشونه الآن لا تعرفون قيمته إلا بعد الزواج، فالزواج مشغلة، فاستغلوا وقتكم، وضاعفوا جهدكم، واطلبوا العلم حثيثاً، ومَن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة
ما الذي يمنعك أن تطلب العلم طلباً حثيثاً؟ ما الذي يمنعك أن تضاعف من إنتاجك العلمي والتحصيلي وأنت شاب؟ والشيء المؤلم أنّ الإنسان حينما تتقدم به السن يتحرّق ألمًا على الوقت الذي مضى في شبابه على غير ما يتمنى،
فإذا سمح اللهُ لشابٍّ أنْ يستفيد من خبرات الآخرين، أو أكرمه بخبرات الشيوخ مقدَّمةً له على طبق من ذهب، فعليه أن يستفيد منها، ومِن علامات ذكاء الإنسان وتوفيقه أنه يستفيد من خبرات الآخرين دون أن يدفع الثمن الباهظ لها، تجلس مع إنسان كبير في السن، يقول لك: آه، فتخرج من أعماق أعماق أعماقه، لقد ضيَّعتُ الوقت الثمين في شبابي، ترى الآن الشباب يقفز نشيطًا خمس درجات معاً على سُلَّم البناء، لكنّه بعد الأربعين والخمسين يميل للراحة والسكون والنوم، ويميل إلى إلغاء هذه الزيارة، وهذا اللقاء، فقد بدأت متاعبُه، أما وهو شاب يغلي غلياناً، ويتوقد نشاطاً، فالإنسان الشاب يستغل نشاطه، وأروع شاب هو الذي يمضي شبابه في تجارب الشيوخ، وحضور مجالس العلم، فيعطيك خبرات الشيوخ، وأنت شاب، فاستغِلَّ هذه الفرصة قبل أن تُشغَل، والحديث الشريف: اغتنم خمساً قبل خمس، فراغك قبل شغلك، حياتك قبل موتك، صحتك قبل سقمك، شبابك قبل هرمك، غناك قبل فقرك
وفي القرآن الكريم آية تحضنا على التسابق؟ قال تعالى: ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )
وقال سبحانه: ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)
وقال عزوجل: ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)
قصة إسلام أم أبي هريرة والفرحة التي غمرت قلب ولدها :
أيها الأخوة، إلا أن هذا الصحابي كانت له أم عجوز أَصَرَّتْ على الشرك، فكان لا يفتأ أن يدعوها إلى الإسلام إشفاقًا عليها، وبراً بها، فتنفر منه، وتصده فيتركها، والحزن عليها يفري فؤاده فرياً.
والله أيها الأخوة، قد ألتقي بأخ شاب فتراه يتحرّق على هداية أمِّه وأبيه وهداية أخوته وأخواته، واللهِ أُكْبِرُه، فالإنسان إذا لم يكن فيه خيرٌ لأقرب الناس إليه فلا خير فيه لأحد، فالشاب المؤمن بأساليب ذكية جداً يُسمِع والدَه الحقَّ، وُيسمع والدته الحق، وينصح بأدب، ولا يدخر وسعاً لهداية أقرب الناس إليه، وكلكم يعلم أن الابنَ لن يستطيع أن يردَّ جميل أبويه إلا في حالة واحدة، أن يكونا ضالَّين فيتم هدايتهما على يديه، فإذا فعل ذلك فقد ردّ الجميل كلّه، لأنّه أعتقهما من النار.
وفي ذات يومٍ دعاها إلى الإيمان بالله ورسوله، فقالت في النبي عليه الصلاة والسلام قولاً أحزنه، فمضى إلى النبي يبكي،
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك يا أبا هريرة؟
فقال: إني كنت لا أفتر عن دعوة أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ، وقد دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: فادعُ الله جل وعز كي يميل قلبَ أم أبي هريرة للإسلام،
فدعا لها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو هريرة: فمضيتُ إلى البيت، فإذا بالباب قد ردّ، وسمعت خضخضة الماء، فلما هممتُ بالدخول
قالت أمي: مكانك يا أبا هريرة، ثم لبستْ ثوبها،
وقالت: ادْخُل، فدخلتُ،
فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فعدتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي من شدة الفرح. فالشاب المؤمن إذا كانت هذه رغبتُه، وهذا رجاؤه، وقد سمعتُ عن إنسان له أب ملحد، ولهذا الأب أصدقاء كثر، فما زال هذا الشاب يقنع أباه بأدب ومنطق وحُجة، وخدمه، إلى أنْ مال قلبُ هذا الأب، ولعله صلى من أجل ابنه، فانتهزها الابنُ مناسبة، وأقام في البيت احتفالاً، دعا إليه كبار العلماء في هذه البلدة، ودعا إكرامًا لأبيه أصدقاء الأب كلهم، الذين هم على شاكلته، وقال لي: إنّ بعض العلماء تحدّث، وقال: إن هذا الاحتفال نتج عنه خير كبير، وهذا شيء رائع جداً، أنْ يمكِّنك الله عز وجل ويسمح لك أن تهدي الطرف الآخر.
ذات مرة قال لي شخص: إنه جاءه مولود بعد سبع بنات، فأراد أنْ يقيم حفلاً لتقبُّل التهاني، وهو يعمل مدرسًا في معهد متوسط، وكل مَن حوله بعيدون عن الدين بعداً شديداً، وبعضهم لا يصلي إطلاقاً، وهو قريب لي، فاقترحتُ عليه بدل هذا اليوم الذي أعده لاستقبال أصدقائه أن يقيم احتفالاً، وتبرّعت أنا بإلقاء كلمة فيه، وجاء أولئك العلمانيون، وجلسوا، وفوجئوا أنّ الحفل ديني وألقيتُ كلمة فيها توفيق إلهي. ثلاثة من ثلاثة وعشرين مدعوًّا لزموا هذه الدروس، وهم أبْعدُ الناس، فإذا أقمْتَ احتفالاً فلا تجعله احتفالاً عاديًّا، ولكنْ لِيَكُنْ احتفالك هادفاً، جاءك مولود، أو تزوجت فأقِمْ احتفالاً وادعُ علماء يتكلمون كلامًا طيبًا، واستغل هذا الاحتفال لتسميع الناس الحقَّ، فنحن هنا نتمنى على أخواننا أن يسمعوا الطرف الآخر، إذا وجد شخصٌ مجتهد ومتفوق جداً وأخلاقي، وقلت له: انتبه لوالدك، فهذا تحصيل حاصل، أو قلت له: اجتهد، فهذا تحصيل حاصل أيضًا، فأنت ما فعلت شيئًا مع هذا المجتهد، أما الإنسان الشارد الشقي إذا تلطفتَ معه، وأقنعته حتى مال لقبُه إليك فهذه البطولة، فبطولتك في إقناع الطرف الآخر، وبطولتك في إقناع البعيدين عن الدين، في إقناع أهل الدنيا، في إقناع العلمانيين، في إقناع الذين رأوا أن الدين ليس لهذا العصر، وأنه سلوك أساسه الضعف والخوف، هذه رؤيتُهم.
قلت: أبشِرْ يا رسول الله، فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة إلى الإسلام
فهل عندك يا أخي هذه الرحمة تجاه والديك؟ وإذا كان أبوك لا يصلي فهل أنت مرتاح، إذْ تعتقد أنه لا مشكلة نهائياً، أمَا خطر في بالك أنْ تنصحَه، وتتلطف معه، وتسمعه شريطًا، وتعينه على نفسه.
أنا أردت من هذا أنّ كل أخ مِن أخواننا الكرام له أب، وله أم، وله أخوات، وأصهار، وجيران، وأولاد عم، فلا بد أنْ يغار عليهم، ألست مسلماً؟ ألا تحب للناس ما تحب لنفسك؟ مَن منكم يصدِّق قول النبي عليه الصلاة والسلام في بيان المعنى الدقيق اللغوي للأخوة؟
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
من أخوه؟ أخوه في الإنسانية، لأن المطلق على إطلاقه، وهو أوسع دائرة، لم يقل (لأخيه المؤمن) لأن الصفة قيدٌ، ولو قال: (أخيه المؤمن) لقيَّدها، ولو قال: (أخيه المسلم) لقيّدها، (أخيه النَسَبي) لقيّدهـا، فما قيدها النبيّ، بل قال: حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ
وما دام مطلقًا فهو ينطبق على أوسع دائرة الأخوة في الإنسانية، فأنت لن تكون مؤمناً إلا إذا أحببت لأي إنسان ما تحبه لنفسك، فلا تيأس، عن عمير بن وهب، بماذا وصفه سيدنا عمر؟ بأنه كلب أو خنزير، ثم قال بعد أن أسلم: وخرج من عند رسول الله وهو أَحبُّ إليَّ من بعض أولادي.
حبه لرسول الله:
أحبَّ أبو هريرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا خالط لحمَه ودمه، فكان لا يشبع من النظر إليه، ويقول: ما رأيت شيئاً أملح ولا أصلح من رسول الله، حتى ولكأن الشمس تجري في وجهه
وللهِ دَرُّ سيّدنا حسان بن ثابت حين قال واصفا كمالَ خَلْقِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني***وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ***كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشاءُ
هذا الجمال الذي كان يتمتع به النبي، وأخواننا الحجاج الذين أكرمهم الله بالحج والعمرة والزيارة، إذا وصلوا إلى المدينة المنورة سيَرَوْن آثار هذا الجمال، فالقبة الخضراء لها منظر لا يُنْسِى، وكذا الحرم النبوي، ومقامه الشريف، والروضة، وآثار جماله في مقامه، وفي قبره.
كان هذا الصحابي الجليل يحمد الله تبارك وتعالى على أن مَنَّ عليه بصحبة النبي، واتِّباع دينه،
بينما تسأل بعض الناس: كيف حالك يا أخي؟ يقول لك: واللهِ السوق سيء، لا عمل، ولا حركة.
كيف صحتك؟ يقول: والله الحياة كلها مشاكل، نعمة الهدى ألا تنتبه لها؟ أنت مستقيم، أليس هذه أعظم نعمة؟ انظروا إلى أبي هريرة، لقد كان فقيرًا معدَما، كان يقول:
الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام، هذه أول نعمة، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي مَنَّ على أبي هريرة بصحبة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان سيدنا عمر إذا أصابته مصيبة، يقول:
الحمد لله ثلاثًا، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهِمتُ الصبرَ عليها
حبه للعلم وملازمته له :
سيدنا أبو هريرة أولع بالعلم، وجعله ديدنه، وغاية ما يتمناه، وحدث زيد بن ثابت، فقال:
بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله تعالى، ونذكره في المسجد، إذْ طلع علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقبل نحونا حتى جلس بيننا، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواضعًا، فسكتنا إجلالاً له،
فقال: عودوا إلى ما كنتم فيه،
فدعوتُ اللهَ أنا وصاحبي قبل أبي هريرة،
وجعل النبي يقول: آمين،
ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علماً لا يُنسى،
فقال عليه الصلاة والسلام: آمين، يا أبا هريرة،
فقلنا: ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى،
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبقكم بها الغلام الدوسي
وكأن الله عز وجل أكرم أبا هريرة بعلم لا يُنسى، لذلك روى عن رسول الله خمسة آلاف حديث وستمئة،
وذات يوم مرَّ بسوق المدينة فهاله انشغالُ الناس بالدنيا، واستغراقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فوقف عليهم،
وقال: يا أهل المدينة ما أعجزكمّ!
قالوا: وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة؟
قال: ميراث رسول الله يقسم، وأنتم هاهنا،
قالوا: وأين هو؟
قال: هو في المسجد، فخرجوا سراعاً،
ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فلما رأوه قالوا: يا أبا هريرة، لقد أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نرَ شيئًا يُقسَم،
قال لهم: أوَ مَا رأيتم في المسجد أحداً؟
قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون في الحلال والحرام،
قال: ويحكم هذا ميراث رسول الله.
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ
فقد جمعتُ في ذهني معنى هذين الحديثين، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً علَّمه وأدّبه، إذا علَّمك وأدَّبك فأنت محبوب، وإذا كان المرءُ بلا علم ولا تأديب فهو مهمل.
قال لي شخص: عنده معمل، عَلِمَ شخص أنّ عندي معملَ ألبسة، فقال لنفسه: إنه أخونا، فنشتري منه قطعتين أو ثلاثة، انزعج صاحبُ المعمل، وقال: أنا أبيع قطعة أو قطعتين؟ إنما أبيع ثلاثمئة قطعة ونحوها، فاستحيا القادمُ بنفسه، وفي اليوم التالي لم يأتِه زبائن، وهكذا مرّ عشرون يومًا ولم يدخل أحد معملَه، لقد أدّبه الله عز وجل، وهذا خير، إذا كان الله يعلمك ويؤدبك فمعنى هذا أنك محبوب، معنى هذا أنّ الله أراد بك خيراً، يعلمك، ويؤدبك.
فقره:
قال أبو هريرة: مرَّ بي رسول الله يوما، وكنتُ جائعًا، منقطعًا للعلم، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف ما بي من الجوع،
فقال أبا هريرة،
قلت: لبيك يا رسول الله،
قال: اتبعني، فدخلتُ معه، فرأى قدحًا فيه لبن،
فقال لأهله: من أين لكم هذا؟
قالوا: أرسل به فلان إليك،
قال: يا أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة فادعُهم، وأطعمهم جميعاً من هذا اللبن
اللهم صلِّ عليه، كان مثل الأب، فإذا دَعَوتَ إلى الله عز وجل فاشعُرْ بعواطف مقدسة سامية تجاه أخوانك.
أنا أقول كلمة: إنْ لم تكن مشكلتهم مشكلتك فلست أهلاً أن تدعو إلى الله، مسرّاتهم مسرّاتك، وأحزانهم أحزانُك، وبالمقابل متاعبك متاعبهم، هذه هي المشاركةُ الوجدانيةُ، هذه المشاركةُ تنسي همومَ الحياة، فإذا كنتَ تعيش بين أخوة طيبين يتعاطفون معك، يألمون لألمك، ويفرحون لفرحك، ويهبُّون لنجدتك، ويسرعون لإغاثتك، فهذا مجتمع مؤمن وربِّ الكعبة، واللهُ عز وجل لا يحبّنا إلا إذا تعاونّا،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ
إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي.
خطابه لنفسه :
سيدنا أبو هريرة بعد أن فُتحتْ البلاد، وجاءت الغنائم، أكرمه الله عز وجل بمال وفير، فتزوج، وأنجب أولاداً، وسكن بيتًا، وبقيت تلك المرحلة الماضية ذكرى، وكل إنسان له عند الله ترتيب، فقد يفرِّغك في أول حياتك، وبحسب ظنك أنت معذَّب، ولستَ متزوجًا، وما عندك بيت، لكن في الحقيقة فرَّغك تفريغًا خاصًّا،
مرة خاطب نفسه فقال:
يا أبا هريرة، هاجرتَ مسكيناً، وكنتَ أجيراً لبثرة بنت غزوان، بطعام بطني، فكنتُ أخدمُ القومَ إذا نزلوا، وأَحْدُو لهم إذا ركبوا، فزوَّجَنِيها الله، تزوج هذه المرأة، والحمد لله الذي جعل الدين قياماً، وصيّر أبا هريرة إماماً
سيدنا عمر فعلها، فقال مخاطبًا نفسه:
كنتَ عميرًا، وأصبحت عمر، ثم أصبحت أمير المؤمنين
إذا كان لأحدٍ ماضٍ متعب، ماضٍ فيه فقر، فلا ينسَ ماضيه، دخل ورأى بيتًا مرتبًا، فيه خمس أو ستُّ غرف، وسيارته على الباب واقفة، ودخلُه كبير، وكان سابقاً في وضع صعب جداً، فلا ينسَ الماضي، ويرفع رأسه ويتكبر، فإنّ الله كبير، وإذا أعطاك فازْدَدْ تواضعًا له، وازددْ خدمة للناس، واجعل هذا المال خدمة للناس يزدْك الله عطاءً.
توليه إمارة المدينة:
أصبحَ أبو هريرة واليًا على المدينة مِن قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تبدِّل الولايةُ من سماحة طبعه، وخفة ظلّه شيئًا، ولقد مرّ يومًا بأحد أسواق المدينة وهو والٍ عليها، وكان يحمل الحطب لأهل بيته، فمرّ بثعلبة بن مالك،
فقال له: أَوْسِعِ الطريق للأمير يا ابن مالك،
فقال له ابن مالك: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله،
فقال له: أَوْسِع الطريق للأمير، وللحزمة التي على ظهر الأمير، أنا حجمي واسع، ومعي حزمةٌ، ولست منتبهاً،
فقال له: أَوْسِعِ الطريق للأمير،
قال له: يا سبحان الله !! ألا يكفيك هذا الطريق؟
قال له: أَوْسِعْ الطريق للأمير، وللحزمة التي على ظهر الأمير، ثم وسّع له
فهكذا يكون التواضع، كان مع سماحة نفسه، ومع شدة علمه تقياً ورعاً، يصوم النهار، ويقوم ثلث الليل، ثم يوقظ زوجته، فتقوم ثلثه الثاني، ثم يوقظ ابنته فتقوم ثلثه الأخير، فهذا البيت فيه قيام ليل بشكل دائم.
تقول ابنته له: يا أبتِ إن البنات يعيِّرْنَني، فيقلن: لمَ لا يحلِّيك أبوك بالذهب؟
فيقول أبو هريرة لابنته: قولي لهنّ يا بنيتي: إن أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب
ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًّا بالمال، أو حرصاً عليه، إذ كان جواداً سخي اليد في سبيل الله.
فبعث إليه مروان بن الحكم مئة دينار ذهباً، فلما كان الغد أرسل إليه يقول:
إنّ خادمي غلط فأعطاك الدنانير، وأنا لم أردك بها، إنما أردتُ غيرك فسَقُط في يدي أبي هريرة، وقال: أخرجتها في سبيل الله، ولم يَبِتْ عندي منها دينار، فإذا خرج عطائي فخذها منه، لقد فعل مروانُ بن الحكم هذا ليختبره، فوجده صادقًا، وما ترك شيئًا من تلك الدنانير عنده
بره لوالدته :
كان هذا الصحابي الجليل برًّا بأمِّه، وكان كلما أراد الخروج من البيت وقف على باب حجرتها،
وقال:السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته،
فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته،
ويقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيراً،
تقول: ورحمك الله كما بررتني كبيراً، ثم إذا عاد إلى بيته فعل مثل ذلك
شيء جميل.
رأى مرة سيدنا أبو هريرة رجلين، أحدهما أسنُّ من الآخر، يمشيان معًا، فقال لصغيرهما: ما يكون هذا الرجل منك؟ قال: أبي، قال له: لا تسمِّه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله
موته:
لما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى،
فقيل له: لِمَ تبكي يا أبا هريرة؟
فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد السفر، وقلة الزاد، لقد وقفتُ في نهاية طريق يفضي إلى الجنة أو إلى النار، ولا أدري في أيّهما أكون.
وقد عاده بنفسه مروان بن الحكم، وكان خليفة،
فقال له: شفاك الله يا أبا هريرة،
فقال: اللهم إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي، وعجِّل لي فيه،
فما كاد مروان يغادر داره حتى فارق الحياة
رحم الله أبا هريرة رحمة واسعة، فقد حفظ للمسلمين ما يزيد عن خمسة آلاف وستمئة وتسعة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوها، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، هذا صحابيُّ علمٍ حفِظَ عن النبي أقواله، ونقلها لمَن بعده، وأنت اختر لنفسك أنْ تتحرى العلم النافع والعمل الصالح، وكلها طرق مفضية إلى الله عز وجل.