الإسلام إن صحّ التعبير مثلث مقسم إلى أربعة أقسام، قسم العقائد، والعقائد أخطر شيء في الدين إن صحت العقيدة صحّ العمل، إن صحّ العمل سلمت وسعدت، إن فسدت العقيدة فسد العمل، إن فسد العمل هلكت وشقيت في الدنيا والآخرة، فالعقائد تقع في الدرجة الأولى، في رأس هذه القائمة، وبعدها العبادات أركان الإسلام ؛ الصلاة عماد الدين، الصيام، الزكاة الحج، الشهادة، وتأتي بعد العبادات المعاملات، الصدق، الأمانة، الرحمة، الإنصاف، العدل، أن تنصف في حكمك، هذه تسمى المعاملات وهي مهمة جداً لأن العبادات الشعائرية لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت المعاملات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) وفي نهاية المطاف تأتي الآداب، الآداب تؤكد كمال المؤمن، آدابه في الطعام والشراب، آدابه في الضيافة، آدابه في أفراحه، في أتراحه، فصار عندنا عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب.
أول حقيقة أن هناك حاجة عند أي إنسان إلى الدين، هذه حاجة فطرية، لماذا؟ لأن الإنسان خلق هلوعاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً *وإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾ في أصل خلقه هناك نقاط ضعف، فهذا الضعيف يحتاج إلى جهة قوية يحتمي بها، يلجأ إليها، تدعمه، تنصره، فالمسلم والفضل لله عرف الإله الحقيقي، عرف خالق السماوات والأرض، عرف من بيده ملكوت كل شيء، عرف الذي في السماء إله وفي الأرض إله، عرف الذي يقول: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾. لكن بعض أهل الأرض توهموا أن الشمس إله فعبدوها من دون الله، بعضهم توهم الشمس، بعضهم القمر، بعضهم الحجر، بعضهم بعض الحيوانات كالبقر، بعضهم الجرذان، شيء مخيف، بشكل أو بآخر الحاجة إلى التدين تنطلق من ضعف الإنسان. لذلك موضوع الإنسان لأنه يحس بضعفه يحتاج إلى جهة يعبدها، المؤمن عرف الله، عبد الله من دون هذه الآلهة، في بعض البلاد في آسيا تدخل البقرة إلى محل فواكه، ثمن الفواكه من أعلى الأسعار، تأكل ما تشتهي من هذه الفواكه وصاحب المحل في قمة نشوته، لأن إلهه دخل إلى دكانه، هل تصدقون يوضع روث البقر في غرفة الضيوف، هذه من مخرجات الإله، يتعطرون ببول البقر، اشكروا الله يا جماعة، نحن بنعمة كبيرة نعبد إلهاً واحداً، نعبد خالق السماوات والأرض، فالشرائع الوضعية لا يوجد عبادات يوجد طقوس، حركات، وسكنات، وإيماءات، وتمتمات، لكن في الإسلام "العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق" . الشريعة رحمةٌ كلها، حكمة كلها، مصالح كلها، عدلٌ كلها، وكل أمرٍ خرج من العدل إلى نقيضه، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور ليس من الشريعة ولو أُدْخِل عليها بألف تأويل وتأويل.
- علة الصيام: قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فكأن علة الصيام بنص هذه الآية هي التقوى، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ التقوى أن ترى بنور الله، أن تنطق بتوفيق الله، التقوى أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً، التقوى أن ترى الحق فتتبعه وأن ترى الباطل فتجتنبه، التقوى نور يقذفه الله في القلب، أنت حينما تصوم رمضان إيماناً واحتساباً وتدع المباحات، الطعام والشراب مباح، اللقاء الزوجي مباح، تدع في يوم رمضان المباحات تقرباً إلى الله الواحد الديان، فالله عز وجل يلقي في قلبك نوراً يريك به الحق حقاً والباطل باطلاً، فالصيام معلل بالتقوى. إنسان صام رمضان ولم ينتبه إلى حكمته، أو إلى علته، فكأنه ترك الطعام في نهار رمضان وبالغ بأكله في ليل رمضان، وسهرات، وولائم، واختلاط، يقول: سهرة رمضانية تبدأ بأذان المغرب بعد الطعام تنتهي بالرقص والموسيقا، صار الصيام شهراً اجتماعياً ليس له علاقة بالعبادة إطلاقاً.
- علة الصلاة : قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ الصلاة تعطيك الوازع الداخلي، الإنسان ينتهي بالصلاة عن كل معصية، عن كل عدوان، عن كل ظلم، عن كل افتراء، عن كل احتيال، لكن دقق لو أن جهة أرضية وضعت قانوناً، أي ممنوع بالقوانين النافذة بالعالم كله أن تستخدم الهاتف المحمول أثناء قيادة السيارة، هذا المنع مرتبط بالشرطي، فإذا لم يكن هناك أي شرطي معظم الناس يستخدمون الهاتف بعيداً عن أعين الشرطة. حرم الخمر في أمريكا في عام ثلاثة وثلاثين، قرأت بحثاً مذهلاً، حوالي أربعمئة ألف دخلوا السجون، وملايين النشرات، والخمر يزداد الإقبال عليه، بل صنعت سفن لتهريب الخمر، وبعد عشر سنوات استسلموا وأباحوا الخمر، انظر إلى المسلم بآية واحدة لا يمكن للمسلم أن يجلس على طاولة فيها خمر، غير الشرب، لا يجلس على طاولة فيها خمر، هذا الدين، الحقيقة مستحيل أن تنتظم الحياة من دون دين، تقول لي: ضمير مسلكي، ضمير مسلكي على ألف يترفع عنهم، أما مليون عنده فتوى، الضمير المسلكي لا يكفي، يقول لك: هذا عنده تربية بيتية لا تكفي، أما إن كان فيه إيمان فلا يمكن أن يأخذ قرشاً حراماً، برمضان في شهر آب، تدخل إلى بيتك، درجة الحرارة تقدر بخمسة وأربعين، وتكاد تموت من العطش، والثلاجة فيها الماء البارد، وأنت في البيت وحدك ولا أحد يراك، لا تستطيع أن تضع في فمك قطرة ماء، هذا الدين. لو لم يكن في الإسلام صيام، وأي دولة ارتأت أن الصيام مفيد جداً للناس، فأصدرت مرسوماً وزارياً يُلزم المواطنين بصيام شهر معين، كم إنسان يصوم؟ يدخل للحمام يشرب الماء، مستحيل أن يضبط هذا الأمر أما الدين ضبطه. لذلك النقطة الدقيقة أن العبادات معللة بمصالح الخلق، فالصلاة تنمي فيك الوازع الداخلي، أما القوانين كلها مبنية على الرادع الخارجي. أنا أتمنى على الإنسان ألا يصلي صلاة فيها غفلة، فيها حركات، وسكنات، وتمتمات لا معنى لها، إله عظيم أمرك بالصلاة، أمرك أن تتصل به، أن تقبل عليه، أن تدعوه، أن تقترب منه: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ الصلاة معراج المؤمن، الصلاة طهور، الصلاة نور، الصلاة حبور، الصلاة عقل، الصلاة قرب، الصلاة ذكر، فلذلك: ((ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكفّ شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي....))
- علة الزكاة : قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ فالزكاة تطهر الغني من الشح، وتطهر الفقير من الحقد، تطهر المال من تعلق حق الغير به، تزكي نفس الغني فيشعر بقيمته، يشعر أن ماله عاد ابتسامة على أفواه الفقراء، تزكي نفس الفقير يشعر أن المجتمع مهتم به، يحس بقيمته، جاءته المواد والمساعدات تزكي المال، تنمي المال.
العبادات ليست طقوساً تؤدى شكلياً، العبادات أعمال معللة بمصالح الخلق، قال تعالى: ﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ كيف تأخذه بقوة؟ مثلاً لو أن أباً يطمح أن يكون ابنه من أهل العلم، وألزمه بمعهد، فكلما دخل إلى غرفته فوراً يضع الابن الكتاب، ويوهم أباه أنه يقرأ، طبعاً هذا عمل شكل، أما الابن الحقيقي يتعلم، يقرأ ليتعلم، الابن سأل الأب كم تريد أن يكون بُعد الكتاب عن طرف الطاولة، ما هذا السؤال؟ قال له: كيفما كان لكن اقرأ، قال: كم تريد أن يكون ميل الكتاب، أو بعده عن الطرف اليميني أو الطرف اليساري، قال له: فقط اقرأ، فالإنسان إذا نسي الهدف الكبير تعلق بتفاصيل مضحكة، فكلما ابتعدت عن الهدف الكبير انصرفت إلى تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر.
الشريعة عدلٌ كلها، رحمةٌ كلها، حكمة كلها، مصالح كلها، وكل قضية خرجت من العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ليست من الشريعة ولو أُدْخِلت عليها بألف تأويل وتأويل. المفروض ألا يغيب عنك أبداً حكمة هذه العبادات، ألا يغيب عنك أبداً المقاصد الكبيرة من هذه العبادات، ألا يغيب عنك أبداً أن البطولة لا أن تؤديها أداءً شكلياً، البطولة أن تستوعب معاني هذه العبادات.