الدين الإسلامي من فضل الله علينا جاء متوافقاً مع الواقع ومتوافقاً مع العقل، فالعلم علاقة ثابتة بين شيئين مقطوع بصحتها، فإذا اعتقدت أن هذه العلاقة الثابتة بين شيئين مقطوع بصحتها يؤكدها الواقع عليها دليل هذا هو التعريف الموسع للعلم، لو أن الواقع ما أكدها فهو الجهل، لو أنك لا تملك الدليل فهو التقليد، لو أن هذه الحقيقة ليست قطعية الثبوت فهو الشك والوهم. والجهل أعدى أعداء الإنسان، الإنسان حينما يجهل حقيقة في دينه، أو في صحته، أو في عمله، أو في تجارته، أو في صناعته، أو في زراعته، مزارعاً اشترى سماداً لحقله، وإنتاج الحقل بمئات الألوف، أذاب هذا السماد بطريقة غير علمية ولم يراع النسب الدقيقة، كل هذا النبات احترق، أي مئات الألوف ضاعت عليه في يوم واحد، من أعداؤه؟ هو نفسه العدو، هو عدو نفسه.
الدين الإسلامي دين علم، دين قانون، دين حقيقة، دين عقل، دين فكر. قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لَا عَدْوَى ...)) ويقول في حديث آخر: ((إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا)). كيف نوفق بين هذا الحديث وهذا الحديث؟
أحد علماء الشريعة في بعض الأقطار سافر الى بلد آخر غير مسلم والتقى بعالم من علماء الجراثيم وسأله، أسئلة ملخصها أننا إذا كنا في بلد وقد جاءه مرض ماذا نفعل؟ فأجابه هذا العالم وهو لا يدري أن في الدين الإسلامي هذا الحديث فقال: يجب أن نمنع كل شخص من الدخول إلى هذه البلدة لئلا يصاب بالعدوى، أما لماذا نمنع من فيها من الخروج، أجاب هذا العالم بأن هناك مريضاً و هناك إنساناً صحيحاً ولكنه يحمل المرض، الآن مرض الإيدز يقولون: هناك عشرة ملايين إنسان يحملون هذا المرض، أما المصابون بهذا المرض فثلاثة ملايين تقريباً، هناك عشرة ملايين يحملون هذا المرض وهو لا يشعرون، فمن كان في هذه البلدة أغلب الظن ممن ليس مريضاً يحمل هذا المرض، فإذا خرج منها أغلب الظن أنه سيعدي الآخرين، لذلك هذا التوجيه النبوي يتفق مع أحدث نظريات العدوى والجراثيم. لذلك سيدنا عمر لما كان مع أصحابه في الجابية قرب الشام وعلم أن بالشام طاعوناً أبى أن يدخل، فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين أفراراً من قضاء الله؟ فقال رضي الله عنه: هل عندكم شيء قاله النبي في هذا الموضوع؟ فذكر أحد أصحاب رسول الله هذا الحديث، فقال عندئذ سيدنا عمر: إن دخلنا إلى الشام فبقضاء الله وإن لم ندخلها فبقضاء الله ، فأنت مأمور أن تحكم عقلك، وأن تطبق السنن التي سنها الله عز وجل للإنسان.
لكن كيف نفسر هذا الحديث ((لَا عَدْوَى ...)) ؟ أي إذا أصبت بالعدوى فلا تنسب هذه العدوى لغير الله، الإنسان لا يمرض إلا بمشيئة الله، لئلا تقع العداوات، لئلا تقع الاتهامات، لئلا تعزو الفعل لغير الله، لئلا تقع في الشرك، لئلا تمتنع عن معالجة مريض، لئلا تمتنع عن خدمة مريض، قال لك: لا عدوى، أي المرض لا يحدث إلا بأمر الله، وإذا حدث فهو بتقدير الله فعليك أن تأخذ الأسباب. إذاً لا عدوى تعني أنه يجب على الإنسان ألا يضيف الفعل لغير الله، أي لا تكن مشركاً، لا تضف هذا الفعل فعل المرض لغير الله، اعتقد أن الله هو الذي يمرض، وأن الله هو الذي يشفي، أما أنت فعليك أن تأخذ بهذه التوجيهات النبوية: ((إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا)) لذلك من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من عاد مريضاً فأكل عنده فذلك حظه من عيادته)) . كلام النبي عليه الصلاة والسلام له أهداف عديدة، من أهدافه أن المريض قد يشتهي هذا الطعام الذي يقدم للزائر وهو ممنوع منه، هذا المريض مهموم بمرضه، وأهله معنيون بمرضه ليس عندهم وقت لتقديم الضيافة، والأدق من ذلك أن هذا الزائر قد يخشى العدوى فإذا قدمت له شراباً أو طعاماً يخشى أن تصيبه العدوى فلا توقعه في الحرج.
إذاً من أجل ألا تقع العدوى النبي عليه الصلاة والسلام وجه المؤمنين بعدم تناول شيء عند المريض، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((وَلَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ))، إذا إنسان يعلم أن معه مرضاً معدياً ليس له حق أن يتوسع في لقاءاته مع الناس، يتوسع في زياراتهم، يتوسع في إعطائهم أدواته فإن هذا يمرضهم. ومن سمع به في أرض فلا يقدم عليه.
إذاً هذا معنى لا عدوى أي لا تنسب الفعل لغير الله، لكنك مطالب أن تأخذ بالأسباب، لأن الأخذ بالأسباب جزء من عبادة الله، أنت قبلت شرعه، وقبلت قوانينه الأرضية، وقبلت فعله التكويني، في شرعه أمرك بغض البصر، أمرك بدفع الصدقة، أمرك بترك الربا، هذا أمر تشريعي، وهناك أمر تكويني نزل بلاء، شحت السماء، حدث زلزال، حدث فيضان هذا أمر تكويني، أنت يجب أن تقبل أمره التشريعي لإيمانك به، وأن تقبل أمره التكويني، وأن تتأدب مع سننه، من لوازم الإيمان أن تتأدب مع السنن التي سنها الله عز وجل، فكل إنسان لا يعبأ بالقوانين العامة في البناء والتجارة، في العدوى والمرض، في الصحة، في الوقاية، هو إنسان لا يعرف الله، المؤمن جزء من مرتبته الإيمانية أنه عالم، يعرف ماذا يأكل، وكيف يتكلم، ومع من يلتقي، وكيف يكسب المال، وكيف ينفقه، وكيف يعامل زوجته، وكيف يتعامل مع من حوله، إذاً حينما قال النبي: "لا عدوى" أي إياك إن مرضت لا قدر الله أن تنسى فعل الله عز وجل وتعزو مرضك إلى إنسان، لو لم تأكل عنده، أو لم تصافحه، أو لم تستعمل ملعقته وقلت: هو أذاني ونسيت الله عز وجل، لئلا تقع في الشرك، لئلا تقع في الزيغان قال: "لا عدوى"، ولكن عليك أن تأخذ بكل الأسباب، قال صلى الله عليه وسلم: (( وَلَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) و قال صلى الله عليه وسلم: (( فرّ من المجزوم فرارك من الأسد)) و قال صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا)) هذا توجيه النبي، أي اغسل يديك، اغسل الفاكهة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه)).
إذاً يجب أن تأخذ بالأسباب، أما هذا التوكل الأبله الساذج، التواكل. الجهل، الجهل أعدى أعداء الإنسان، يجب أن تأخذ بالأسباب، أن تأخذ كل أسباب الحيطة، وهذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: قال يا رسول الله أأعقلها أم أتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل . من السذاجة أن تعتقد أن العقل والتوكل باب يتناقض مع التوكل، التوكل عبادة القلب من الداخل، والأخذ بالأسباب عبادة الجوارح.