بحث

الابتلاء وأنواعه

الابتلاء وأنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم

فلسفة الابتلاء الذي يصيب المؤمن :  

      أقدم لكم اجتهاداً شخصياً مني، المؤمن يمر بأطوار ثلاث، إذا كان هناك تقصير، تقصير فيما ينبغي أن يفعله، تأتي بعض المصائب من أجل أن تدفعه إلى الله، وإن كان هناك استقامة تأتي بعض المصائب لتمتحنه، وبعدئذ تستقر حياته على الإكرام، فأنت بين التأديب وبين الامتحان وبين التكريم، هذه المراحل قد تتداخل وقد تتمايز، بين التأديب مرحلة، وبين الابتلاء الثانية، وبين التكريم الثالثة، هذه المراحل الثلاثة قد تتمايز وقد تتداخل، ولكن على كل مؤمن أن يوطن نفسه أنه لابدّ من أن يمتحن، لابدّ من أن يبتلى، وبطولته أن ينجح في الابتلاء، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه.  

الدنيا محدودة بزمن معين أما الآخرة فليس لها زمن معين :  

      أيها الأخوة الكرام،  هذا الذي لا يبتلى لعله شرد عن الله شرود البعير، والدليل القرآني: ﴿  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾  

      لذلك الابتلاء في الدنيا، فالدنيا دار الابتلاء، والزمن: العمر الذي تعيشه في الدنيا، والمكان: مكان إقامتك، هناك حقيقة وهناك مكان وهناك زمان، الحقيقة أننا جميعاً في دار ابتلاء، لكن لو قلنا: العمر الذي يعيشه الإنسان في الأرض مهما طال، سمعت عن شيخ الأزهر مخلوف عاش مئة وثلاثين عاماً، العمر مهما طال أمام الأبد صفر، أي ضع واحداً في الأرض وأصفاراً للشمس، وكل ميليمتر صفر، أي: مئة وستة وخمسون مليون كم كلها أصفار، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، أي رقم ولو كان فلكياً، ولو كان غير متخيل، إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، فالدنيا محدودة بزمن معين، أما الآخرة فليس لها زمن معين: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ﴾   

توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :  

      أيها الأخوة، أولاً نمتحن بالثروات، بالمنتجات، بزينة الحياة الدنيا، بالعمران، كل شيء آتاك الله إياه أنت ممتحن به، مادة الامتحان مادتان، مادة ما أعطاك الله، ومادة ما زوي عنك، لن تنجب أولاً ذكوراً ابتلاء، لم تنجب أولاداً أصلاً ابتلاء، أنجبت أولاداً ذكوراً وإناثاً ابتلاء، كنت غنياً ابتلاء، كنت فقيراً ابتلاء، كنت في مكانة رفيعة ابتلاء، كنت في مكانة في الظل ابتلاء، كل شيء أعطاك الله إياه وكل شيء زوي عنك هو مادة الامتحان، من أروع الأدعية التي نقلت عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب))  

      رابح في الحالتين، الذي آتاك الله إياه ينبغي أن توظفه للآخرة، والدليل: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ ﴾   

      ابتغ؛ آتاك علماً، آتاك طلاقة لسان، آتاك مالاً، آتاك صحة، آتاك جاهاً، آتاك مكانة: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ ﴾   

      الآن سلب عنك الذرية ابتلاء، لم تكن غنياً دخلك محدود ابتلاء، لم تكن في مكانة علية ابتلاء، العبرة بالنجاح، العبرة في الدار الآخرة، العبرة من يضحك آخراً، ليست البطولة أن تضحك أولاً لكن البطولة أن تضحك آخراً.  

امتحان الإنسان بزينة الحياة الدنيا :  

      أيها الأخوة، في القرآن الكريم آية هي: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ﴾  

      الدنيا خضرة نضرة، فيها نساء، فيها بيوت، فيها أموال، فيها مركبات، فيها سفر، فيها رفاه، فيها طعام نفيس، ولائم، مكانة، مناصب، نساء جميلات، الدنيا دار ابتلاء: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾  

      جعلك الله غنياً والغنى يتوافق مع الإيمان، لكن هل يعقل أن يقول من كان حولك من الفقراء: يا رب قد أغنيته بيننا فقصر في حقنا، جعلك قوياً بجرة قلم تحق حقاً وتبطل باطلاً، هل استخدمت هذه القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل؟ جعلك طليق اللسان هل استخدمت طلاقة اللسان لترويج الحق أم لترويج الباطل؟ جعلك ذا مكانة علية هل استخدمت هذه المكانة لنصرة المظلوم أم للتملق للظالم؟ نحن في دار ابتلاء، والله قد لا تمر ساعة على أي منا إلا ويمتحن، نحن في دار ابتلاء، دار امتحان.  

      أيها الأخوة، نمتحن بالثروات، بالمنتجات، بزينة الحياة الدنيا، ونمتحن بالأنفس، من حيث الصحة والسقم، والقوة والضعف، والسعادة والشقاء، قد تكون صحيحاً أنت مبتلى بهذه الصحة، هل أعانتك على طاعة الله أم لا سمح الله ولا قدر استخدمتها في المعاصي والآثام؟ امتحنك الله بالقوة هل كانت قوتك للحق أم للباطل؟ امتحنك بالضعف هل يئست وتطامنت أم وثقت بنصر الله عز وجل؟ امتحنك بأسباب السعادة هل شكرت الله عليها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي وعافاني في بدني وأذن لي بذكره".  

      أيها الأخوة، إذاً تمتحن في زينة الحياة الدنيا، وتمتحن في نفسك، وتمتحن في المال الذي آتاك الله إياه، فقد تكون فقيراً أو غنياً، لذلك قال تعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾  

أنواع الابتلاءات :  

أولا: الابتلاء التكليفي :  

      أخواننا الكرام، يلحق بامتحان الأموال الجاه والسلطان، والممتلكات العقارية، وما إلى ذلك، يلحق بامتحان الأنفس الأبناء، والأقارب، والأحباب، من صحة، ومرض، وحياة، ونجاح، وفشل، قد يفقد الإنسان أعز أحبابه، ماذا يفعل؟ يصبر، يمتحن.  

      مرة ثانية: قد تتعرض في الساعة الواحدة إلى عدة ابتلاءات، أنت في دار ابتلاء، أنت في دار امتحان، الآن من أنواع الابتلاءات، الابتلاء التكليفي، كلفك الله أن تعبده، أنت ممتحن بهذا التكليف هل أنت عابد له أم أنت مقصر؟ هل تتقن الصلوات أم لا تتقنها؟ هل تؤدي العبادات فإذا أديتها استرحت منها أم استرحت بها؟ والفرق كبير جداً، لذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾   

      الابتلاء الأول ابتلاء تكليفي ، كلفك أن تعبده.  

موقف الإنسان من البلاء التكليفي :  

      ما موقفك من هذا الابتلاء؟ كلفك أن تعبده، بل جعل الله علة وجودك في الأرض أن تعبده، قال تعالى:  

       ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾  

       ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  ﴾  

      آية ثانية : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾   

      قال القرطبي: أحسن عمل أي أيكم أورع عن محارم الله؟ وأيكم أسرع إلى طاعة الله؟ أو ليبلوكم أي يعاملكم معاملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يحبه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره، خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء، مفهوم الابتلاء يجب أن يكون واضحاً جداً في نفس كل مؤمن.  

ثانيا: الابتلاء الشخصي :  

      أحياناً هناك بلاء خاص الناس في بحبوحة الوضع جيد، أما هو فمبتلى ابتلاء خاصاً هذا الابتلاء الشخصي: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾  

      هناك بلاء عام؛ كالغلاء العام، القهر العام، الاحتلال، المصيبة العامة، وهناك بلاء خاص: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾  

      لا تنسوا قول الأمام الشافعي:  "لن تمكن قبل أن تُبتلى"  

      آية ثانية: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ  ﴾  

      هذه الآية ذكرتها قبل قليل، وآية ثالثة: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾  

      هذا الابتلاء الفردي، هذا مبتلى بالغنى، هذا بالفقر، هذا بالأولاد، هذا بحرمانه من الأولاد، هذا بأولاد كلهم ذكور، هذا بأولاد كلهم إناث، هذا بأولاد بعضهم ذكور وبعضهم إناث، هذا ابتلي بالأولاد مع الفقر، هذا بالأولاد مع الغنى، هذا غني بلا أولاد، وضعك الذي أنت فيه مادة امتحانك مع الله، والبطولة أن تنجح، لكن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، لمجرد أن تقول: يا رب لك الحمد أنا راض فقد نجحت بالامتحان، الله عز وجل  يقول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾  

ثالثا:  الابتلاء الجماعي :  

      الآن ابتلاء جماعي، أنت موظف بدائرة وهناك شخص أعلى منك هو مدير دائرة، وهناك مدير عام، ووزير، وقد تجد نفسك أصلح من هؤلاء لكنك مبتلى بهذا الموقع المتوسط، وقد تبتلى بموقع أقل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾  

      هذه لام التعليل، جعلك ممرضاً وهناك طبيب، جعلك مجنداً وهناك لواء، جعلك بائعاً متجولاً وهناك رئيس غرفة تجارة، جعلك بأعمال بسيطة جداً ومن حولك بأعمال عالية جداً.  

الله عز وجل قادر أن يضع الإنسان في موقف صعب يكشف حقيقته :  

      أيها الأخوة الكرام: ﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾  

      بالظاهر مؤمن: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾  

      فهذا الذي يقف موقفاً نفاقياً لابدّ من أن يكشفه الله، امتحن فلم ينجح، يأتي أمر الله عز وجل ليكشف حقيقته، الله عز وجل قادر أن يضعك في موقف صعب جداً تكشف على حقيقتك، لذلك قالوا: يمكن أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، ويمكن أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل، أنا أضيف وأقول: أما أن تخدع ربك أو أن تخدع نفسك لثانية واحدة فهذا مستحيل: ﴿ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾  

      أيها الأخوة الكرام،  أرجو الله سبحانه وتعالى أن نعلم علم اليقين أننا في دار ابتلاء، وأنك ممتحن، والله في كل دقيقة، في كل لحظة، في كل ساعة، في بيتك، في عملك، في الطريق، مع صديق، مع عدو، مع من هو أعلى منك، مع من هو أدنى منك، ممتحن في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، كل شيء أنت فيه عده مادة امتحانك مع الله، أي شيء أنت فيه إيجابي أو سلبي ينبغي أن تعده مادة امتحانك مع الله.  



المصدر: خطبة الجمعة - الخطبة 1168 : خ1 - الابتلاء وأنواعه ، خ 2 - بطولة الإنسان أن يُحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب