الدين عبادات شعائرية، وعبادات تعاملية، والعبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها الا اذا صحت العبادات التعاملية، وأكبر خطأ، وأكبر خلل، وأكبر وهمٍ أن تصوروا أن الدين عبادات شعائرية ليس غير، مع أن ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، مع أن أداء الحقوق مقدم على النوافل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن المرأة تذكر أنها تكثر من صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار)) وقال أيضا: ((دخلت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)). النمام يصلي ويصوم، لكن لا يدخل الجنة، لأنه أفسد العلاقات.
الدين ليس في الصلاة والصيام والحج والزكاة فقط؟ الدين في المعاملة، الدين في الالتزام، الدين في الأمر والنهي، أن يراك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، الدين أن تكون وقافاً عند حدود الله، الدين أن تكون صادقاً، الدين أن تكون أميناً. قبل يومين التقيت بإنسان يعمل في تجارة الأغذية، وعن طريق سفراته الكثيرة عثر على منتج غذائي كتب عليه سمن بقري صافٍ، سعر العبوة بالنسبة إلى مبيعها فيه مسافة كبيرة جداً، ويمكن أن يحقق عشرات الملايين من صفقة واحدة، لأنه مسلم، ويخاف من الله بحث عن هذا المنتج بحثاً دقيقاً، فعلم فيما بعد أنه من فضلات المسالخ، وقد يكون لحم خنزير، وقد يكون عظم خنزير، وقد يكون عيون البقر، فألغى عشرات الملايين، وركلها بقدمه، لأنه خاف من الله، هذا الذي نريده، نريد صدقاً، نريد أمانة. هذا هو المسلم، إياك أن تظن أن المسلم يصلي فقط، صلاة من دون استقامة لا وزن لها عند الله، ولا تعني شيئاً ((لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)) في اللحظة التي تتوهم أن دينك في المسجد فأنت واهم. دينك في البيت، قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)) دينك في العمل، في دكانك، في البضاعة التي تبيعها، في السعر التي تحدده، في المعاملة التي تعامل بها زبائنك، دينك في عيادتك، هذا المريض أمانة في عنقك. هذه بعض جوانب الدين ومن مفاهيم الدين الأمانة، فما هي الأمانة بالمنظور الإسلامي؟
أولاً: أمانة الولاية:
يقول عليه الصلاة والسلام: ((صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء)) العلماء يعلَمون الأمر، والأمراء ينفذّون الأمر، لذلك حينما قال الله عز وجل: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أولو الأمر هم العلماء والأمراء، العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذون الأمر، فإذا فسد هذان الصنفان فسدت الأمة. قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )) جوهر الدين أنك مسؤول عن عملك، أقامك الله زوجاً، أقامك الله أباً، أقامك الله صاحب متجر، صاحب معمل، مدير مستشفى، رئيس جامعة، أستاذاً في صف، طبيباً، مهندساً، الله عز وجل سيسألك عن عملك ودينك، في عملك ورعك، في عملك استقامتك، في عملك رقيّك، عند الله من خلال عملك، أنت في المسجد تتلقى تعليمات الصانع، ليس غير، وفي المسجد قد تقبض الثمن اتصالاً بالله عز وجل، ولكن مكان العمل والتدين هو في عملك.
ثانياً: أمانةُ التوليةِ:
من مسؤوليات الولاية مسؤوليات التولية، سيدنا عمر عين والياً وقال له: <<ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال له: أقطع يده، قال للوالي: إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عار فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر له حرفتهم، فإن وفرنا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية>> . عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ ـ أي في وظيفة أو منصب ـ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)) قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ لم يقل: أن تؤدوا الأمانة، قال ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ ، لأنه مرتبط فيه مئات الأمانات.
ثالثاً: أمانة الصناعات والحرف:
سوف نحاسب على كل حركة وسكنة، المحاسبة في عملك، دين الطبيب في عيادته لا في المسجد، دين المحامي في مكتبه، هل تعلم علم اليقين أن هذه الدعوى لن تنجح وهي خاسرة؟ هذا المحامي الذي يبتز أموال الناس يجب أن يعتقد أنه ألغى عباداته كلها، ألغى صلاته وصيامه وحجه وزكاته. وكل حرفة يمكن أن تكون أكبر سبب مهلك لك، الدين النصيحة، والمؤمن ينصح. قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الصنعة والحرفة أداة وأمانة في عنق صاحبها، هل أتقنها؟ هل حسنها؟ هل طورها أم أهملها؟ فكانت العيوب والنقائص، وكان الخلل والكساد، إتقان الصنعة جزء من الدين.
رابعاً: أمانة البيئة:
الشجرة والنبتة أمانة في عنق المزارع، أحياناً يسمدها بأسمدة تضر الإنسان، وأحياناً يعطيها هرمونات تزيد من حجمها، ويرتفع السعر على حساب الصحة، هناك هرمونات مسرطنة وهي ممنوعة دولياً، لكنها تشترى تهريباً، وتبخّ بها هذه النباتات، فإذا بالثمار كبيرة وزاهية، وبلا طعم، صفاتها الفيزيائية عالية جداً، والكيميائية صفر، من أجل الربح نسبّب للناس أمراضاً كثيرة، فلذلك قضية الدين قضية أساسية.
خامساً: أمانة المراجعين:
هذا المراجع أمانة في عنق الموظف، بإمكانك أن تعطيه الموافقة بدقيقة، تقول له: تعال غداً، هو جاء من مكان بعيد، كلمة: تعال غداً تقتضي أن ينام في الفندق، ويدفع مالاً، وبإمكانك أن تعطيه الموافقة اليوم، هو أمانة في عنقك، بإمكانك أن تسهل له الموافقة، وبإمكانك أن تضع العراقيل أمام هذه الموافقة من أجل ابتزاز ماله، هو أمانة في عنقك، وإن الله سيسألك عن هذه الأمانة. البيوع أمانة، الديون أمانة، المواريث أمانة، الودائع أمانة، الرهون أمانة، العواري أمانة، الوصايا أمانة، الهبات أمانة. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه قلت رعيته أم كثرت حفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الزوج عن زوجته والوالد عن ولده والسيد عن خادمه هل أقام فيهم أمر الله))
سادساً: أمانة الأعراض:
كفّ النفس والسمع والبصر، واللسان واليد عن أعراض الناس، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: ((مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ)). أمانة اللسان أنْ لا تنطق إلا بالحق، ولا تقبل إلا الحق.
سابعاً: الأمانة العلمية:
والأمانة العلمية أمانة تترجم كتاباً، وتعزوه إليك، هو ليس من عندك، تأخذ نصاً ولا تذكر من أين أخذت هذا النص، هذا أيضاً يتناقض مع الأمانة.
ثامناً: أمانة المجالس:
المجلس أمانة، يجب أن تحفظ، أمانة المسجد، إلا إذا المجلس خطة لنهب مال زيد أو عبيد، إن سكت فقد خنت الأمانة، انتهاك عرض، أو أكل مال، أو سفك دم، هذه المجالس عندئذ الأمانة أن تبوح بالمضامين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ، إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ، سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوْ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ))
تاسعاً: أمانة العلاقات الزوجية:
بقيت أمانة العلاقات الزوجية: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا)) في مجالس الفسقة يتحدثون عن زوجاتهم، وفي مجالس الفاسقات يتحدثن عن أزواجهن، وعن علاقاتهن الحميمة، وعن عيوب الزوج، وعن عيوب الزوجة، وهذا من أشد أنواع الأمانة.
الحقيقة الموضوع طويل، يجب أن تعلم أن الدين في تجارتك، في عملك، في كسب مالك، في أفراحك، في أتراحك، في حلك، في ترحالك، في سفرك، في السلم، في الحرب، في الشدة، في الفقر، في الغنى، كل شيء تفعله تحاسب عليه، قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ و قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ عملك أمانة، وبيتك أمانة، وابنك أمانة، وابنتك أمانة، وكل أنواع أعمالك، هذا الإنسان الذي أمامك أمانة في عنقك.