السمة الأساسية للمؤمن أنه ينفق، قال تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ المطلق في القرآن على إطلاقه، ينفق من ماله، ينفق من وقته، ينفق من جهده، ينفق من كل ما آتاه الله جل جلاله. يجب أن يكون الإنفاق خالصاً لوجه الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة إن لم تنفقو، يقول الله عز وجل: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ إن لم تنفقوا. والإنفاق له وقت محدد، وأنت في الحياة الدنيا لأن درهماً تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. يجب أن تنفق من أجل ألا تهلك، ويجب أن تنفق في حياتك لا بعد مماتك. توجيهات قرآنية في الإنفاق:
- ولكن ما الذي ينبغي أن تنفقه؟ الشيء الذي تحبه، الشيء الذي تطمح نفسك إليه، الشيء الذي تختاره لنفسك، الشيء الذي هو موضع إعجابك هذا الذي ينبغي أن تنفقه، قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
- أنفق من مالك الحلال، أنفق من مالك الطيب، أنفق من مال اكتسب حلالاً وفق منهج الله، بلا كذب، ولا تدليس، ولا غش، ولا احتيال، ولا احتكار، ولا إيهام، ولا بضاعة محرمة، ولا علاقة محرمة . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ .
- الإنفاق في السراء والضراء: الإنفاق سمة ثابتة في حياة المؤمن، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾. في البحبوحة وفي الإقتار، في الضيق المادي وفي السَّعة المادية.
- الإنفاق في سرا وعلانية: المؤمن ينفق في السراء وفي الضراء، وفي الليل وفي النهار، سراً وعلانية. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً﴾ وقد تقتضي المصلحة أن تبدي هذه الصدقة إذا وجهت إلى جمعية لا إلى إنسان بالذات، فأحياناً في جمع التبرعات يتنافس الأغنياء في الإنفاق ففي مثل هذه المناسبات: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾. أما إذا توجهت الصدقة إلى إنسان مراعاة لمشاعره، ولكرامته الإنسانية، ولأخوته الإيمانية فينبغي أن تكتم هذا الإنفاق: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
- عدمُ إتباع الصدقة بالمن والأذى: ما دمت أنفقت في سبيل الله فالله عز وجل يحفظ لك عملك من دون أن تستجدي مديح من أنفقت عليهم، إن فعلت معروفاً فحاول أن تنساه كلياً، وإن فُعل معك معروف فلا تنسه حتى الموت. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى﴾.
- كَم تنفق؟: قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ إنسان يملك مئات الملايين يدفع خمسة آلاف لمشروع خيري؟ لو دفع مليون وعدة ملايين لا تهتز ثروته. من الذي يعلم نسبة ما أنفق من ماله؟ الله عز وجل لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((سبق درهم ألف درهم)). العبرة أن هذا الدرهم ما نسبته إلى مجموع الدراهم لذلك، هذا الذي أراد أن يبني مسجداً، وهو من المحسنين الموسرين، ورأى أرضاً مناسبة، ووجد سعرها مناسب، ووقع سنداً بالمبلغ، وعندما علم صاحب الأرض الفقير الذي عنده ثمانية أولاد، ودخله أربعة آلاف، وهو مستخدم في مدرسة، عن هذه الأرض لتكون مسجداً، مزق السند!!! وقال: والله إني أستحي من الله أن أبيع أرضاً لتغدو مسجداً، أنا أولى منك أن أهبها إلى الله، يقول هذا المحسن الذي يملك مئات الملايين قال: ما صغرت في حياتي كما صغرت أمام هذا المستخدم الذي لا يملك من الدنيا إلا هذه الأرض التي ورثها قبل شهر، ودخله لا يكفيه أياماً وبيته بالأجرة. ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾
- ما شرط قبول الإنفاق؟ قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ فالعمل الصالح والإنفاق من العمل الصالح لا يقبل إلا إذا كان ابتغي به وجه الله، لذلك: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) مع الإخلاص ينفعك قليل العمل وكثيره، ومن دون إخلاص لا ينفعك لا قليله، ولا كثيره، قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أنت حينما تنفق تؤكد لنفسك أنك تحب الله، تؤكد لنفسك أن هذا المال تحل به مشكلات كثيرة في حياتك لكنك آثرت أخاك الفقير على نفسك، فكأن هذا المبلغ الذي تدفعه سمي في القرآن صدقة، لأنه يؤكد صدقك في محبة الله، قال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ الله عز وجل غني عن عباده، ولكن يأمرهم بالإنفاق ليكافئهم أضعافاً مضاعفة يوم القيامة، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ والصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، وباكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها، و داووا مرضاكم بالصدقة.
- من هذا الذي ينبغي أن تعطيه؟ قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ الأقربون أولى بالمعروف قاعدة، لكن هناك آية دقيقة جداً، يقول الله عز وجل: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ من هذا الذي يستحق مالك؟ هذا الذي لا يسأل: ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ المحروم هو العفيف لا يسأل، وقد لا ينتبه الناس إليه إطلاقاً، وبطولة المحسن أن يبحث عن الذي لا يسأل، الذي يسأل يلح عليك حتى تخرج من جلدك، تعطيه أحياناً لا اقتناعاً، ولكن حتى ترتاح منه، ولكن ابحث عن إنسان لا يسأل. لا تنتهي قضية إنفاق المال بأن تتخلص منه، لا، لا تنتهي هنا المهمة، لا تنتهي المهمة إلا إذا كان المال في موقعه، وعند من يستحقه، لا تنتهي مهمة إنفاق المال، لا الصدقات، ولا الزكوات بأن تتخلص من هذا المال، لا، ابحث عن الوجه الصحيح، لذلك: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
- اطمئن، فأيُّ نفقة تنفقها هي في علم الله، هذه تغنيك عن استجداء مديح الآخرين، مادمت أنفقت هذا المبلغ خالصاً لوجه الله، فالله عز وجل علم به، وسيكافئك عليه. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
- حينما تنفق ينقص مالك، فما الذي تطمح له؟ أن يعوض الله عليك طمأنك فقال لك: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. هناك أخ كريم تعهد بقضاء ديون قريب له توفي وحالته وسط، قال لي: ظننت أن الديون في حدود العشرة آلاف أو عشرين ألفا، إذا هي أربعمئة ألف، قال: والله دفعتها بالتمام والكمال، وأنا راض، لأنني تعهدت لأولاده اليتامى أن أغطي لهم ديون أبيهم، أقسم بالله أنه بعد أيام عقد صفقة لبضاعة كاسدة نصيبه منها هذا المبلغ بالذات.
- في الإنفاق الاستهلاكي ينبغي أن تكون معتدلاً بين الإسراف وبين التقتير، أما في الخير لا إسراف في الخير. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾
- الله عز وجل بالتعبير الشائع جبار الخواطر، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، الفقير أمره الله أن ينفق مرة في العام، ولو كان لا يملك إلا قوت يومه فقط، كي يذيقه طعم الإنفاق مرة في العام، ليس عليه إنفاق، لكن الفقير بإمكانه أن يستخدم مئات الطرق إلى الله، إذا نصحت، إذا دعوت إلى الله، إذا كنت قدوة، إذا عدت مريضاً، إذا آويت مسكيناً، إذا دعوت لإنسان، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، الفقير الذي لا يجد ما ينفق أمامه آلاف الطرق إلى الله عز وجل.
المؤمن يعطي، ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ يكون معه الملايين، وهو يخاف الفقر، لذلك قالوا: أنت من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ما من واحد يدفع كان من الممكن أن يأخذ، وأن يتسول، فإذا منّ الله عليه بدخل، منّ الله عليه بكسب مال حلال، منّ الله عليك ببحبوحة لا تظنن بأن بهذا الإنفاق تتفضل على غيرك، كان من الممكن أن تكون مكانه، فاشكر الله عز وجل الذي جعلك تعطي لا أن تأخذ. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.