إن علة وجود الإنسان أن يعبد الله، والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، وما أمرنا أن نعبده إلا بعد أن أعطانا مقومات هذه العبادة، وأول مقوم من مقومات العبادة هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، وهو الثابت الأول، هو قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي. والمقوم الثاني هو العقل، وهو مناط التكليف، وأن العقل مهمته قبل النقل التأكد من صحة النقل، ومهمته بعد النقل فهم النقل، ولا يمكن أن يكون العقل حَكماً على النقل، ومن المقومات أيضاً الفطرة، وكيف أن الإنسان فطر فطرة سليمة، هذه الفطرة متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله، فالعقل مقياس علمي، والفطرة مقياس نفسي، والكون دليل حسي. ومن المقومات الشهوة، وهي القوة المحركة، وهي حيادية، يمكن أن تكون سُلّماً نرقى بها، أو دركات نهوي بها، والإنسان إذا سلك طريق شهوته يتعرض لمراحل علاجية من الله عز وجل، أولها الهدى البياني، ثم التأديب التربوي، ثم الإكرام الاستدراجي، ثم القصم، الآن أريد أن أبين لكم فرقاً دقيقاً بين اللذة والسعادة، والبون شاسع بينهما:
اللذة حسية: طابعها حسي تحتاج إلى مادة، اللذة تحتاج إلى طعام تأكله، تحتاج إلى منظر جميل تمتع عينيك به، تحتاج إلى مأوى واسع دافئ، تحتاج إلى مركبة تركبها، تحتاج إلى زوجة تتزوجها، والزوجة تحتاج إلى زوج فهناك تكافؤ، تحتاج إلى مال تنفقه، فاللذائذ طبيعتها حسية، لا تأتي من الداخل، بل تأتي من الخارج.
اللذة إمدادُها منقطع: لكن سبحان الله! لحكمة بالغة أرادها الله لم يشأ ربنا جل جلاله أن تمدك اللذة بإمداد مستمر، بل إمداد متناقص، فكل لذة لها فورة، وبعدئذٍ تصبح شيئاً مألوفاً تفقد بريقها، لذلك هؤلاء الذين نجحوا في الحياة بعد أن نجحوا شعروا بالفراغ، لأن في النفس فراغاً لا يملؤه المال، ولا المرأة، ولا المنصب، ولا مباهج الحياة. لا بد من توضيح هذه الحقيقة، أنت أيها الإنسان، أنت مهيأ لمعرفة الله، فطبيعة نفسك لا نهائية، الخطر الكبير أن تختار هدفاً محدوداً، قبل أن تصل إليه أنت تحلم به، فإذا وصلت إليه، وأحطتَ به شعرت بفراغ لا يوصف، لأنك اخترت المحدود، وأنت مهيأ للامحدود، اخترت شيئاً يموت، وأنت مهيأ للإله عظيم حي باق على الدوام. الشيء الذي لم تصلوا إليه يبدو لكم كبيرا جداً، ويبدو متألقاً، فإذا وصلتم إليه خبا بريقه، وصغر حجمه، ويمكن في مرحلة ما أن تقول: هو لا شيء، فاللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة، بل بمتعة متناقصة، هذا إذا كانت في الحلال، فإذا كانت في الحرام فبعد المتعة كآبة، وشعور بالذنب، واختلال توازن، واحتقار للذات. الدنيا تغر، وتضر، وتمر، الدنيا زائلة، ليس معنى كلامي أن تدع الدنيا، ادرس، أسس عملا، تزوج، الزواج سنة، معنى كلامي ألا تغتر بها، ألا تظنها نهاية الآمال، ألا تظنها محطة الرحال، هي عارية مستردة. خيبة الأمل سوف تحصل لكل إنسان أحب الدنيا، وجاءه ملَكُ الموت. ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ *وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوْ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)) هذا كلام علمي، فهل من واحد منا وأنا معكم يمكن أن يستيقظ كل يوم كاليوم السابق؟ مستحيل، هذه هي الدنيا فدقق فيها، ربما بلغت أعلى منصب في العالم، ثم ماذا؟ موت، الموت ينهي كل شيء. إذاً: اللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة، بل بمتعة متناقصة، فإن كانت هذه المتعة في معصية يعقبها كآبة ومرض نفسي: ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ محبوس بالشقاء النفسي، محبوس بالكآبة، محبوس بالضيق، محبوس بالإحباط، محبوس بالتفاهة، أما المؤمنون: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الهدى رفعهم إلى أعلى عليين.
اللذة تحتاج إلى شيء خارجي: تحتاج اللذة إلى شروط ثلاثة، تحتاج إلى وقت، وإلى مال، وإلى صحة، في بدايات الحياة الوقت موجود، والصحة متوافرة، لكن المال غير متوفر، وفي وسط الحياة استلم عملا وصار عنده مال، وصحة، لكن ليسس عنده وقت، ثم تقدم في السن الآن هناك مال ووقت، لكن الصحة مفقودة، هكذا اللذة، تحتاج إلى مال، وإلى صحة، وإلى وقت، وهي خارجية، وطابعها حسي، ومتناقصة، وإن كانت في معصية تعقبها كآبة.
السعادة تنبع من الداخل: أما السعادة فتنبع من الداخل، فلستَ بحاجة إلى شيء، بحاجة إلى أن تستقيم على أمر الله، بحاجة أن تتصل بالله، بحاجة أن تذكر الله، بحاجة أن تصلي، بحاجة أن تقوم الليل، بحاجة أن تقرأ القرآن الكريم، بحاجة أن تغض بصرك عن محارم الله، بحاجة أن تضبط لسانك، تحتاج إلى إنابة. لو أذاقنا الله طعم القرب منه لنسينا الدنيا وما فيها، من عرف الله زهد فيما سواه.
السعادة متنامية تعقبها راحة نفسية: السعادة متنامية لا متناقصة، السعادة تعقبها راحة نفسية، وتوازن، واستقرار، وثقة، وتفاؤل، ويقين، ونفس متألقة، لأنها اتصلت بالله، لذلك الآية الدقيقة، دققوا معي: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾ السعادة متنامية، خط المؤمن البياني خط صاعد صعوداً مستمراً، والموت نقطة على هذا الخط، والصعود مستمر، فإذا عرفت فأنت في سعادة متنامية، وكلما كشف لك من كمال الله شيء تقول: الله أكبر، أكبر مما كنت أظن، أكبر مما كنت أعرف، هذه هي السعادة، السعادة قد تكون في كوخ صغير، قد تكون مع مرض عضال.
الشهوة إذا كانت هدفا كانت ألمًا: الحقيقة أن الإنسان إذا لم يعرف الله عز وجل يصبح مبدأ الشهوة عنده مبدأ ألمٍ، لماذا؟ لأنه بلا منهج، عنده ضمير، عنده فطرة سليمة، هذه الفطرة تعذبه، فلذلك أي إنسان يتفلت من منهج الله يعاني من أمراض نفسية، أولها الكآبة، ثانيها اختلال التوازن. ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ . المصائب في الدنيا ليست عقاباً، وليست انتقاماً، وليست تشفياً، بل هي نتائج علمية للمعاصي والآثام، وكما أن المركبة علة صنعها السير، فلا بد لها من مكبح يتناقض مع علة سيرها، والمكبح ضروري، هو أخطر ما في المركبة، مع أنها صنعت من أجل أن تسير، والمكبح يتناقض مع علة سيرها، لهذا لما يختار الإنسان الشهوة المحرمة فأمامه سلسلة معالجات، منها الهدى البياني، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، والقصم. المتع في المعاصي زائلة والمسؤولية باقية، ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً. الآن المجاهدة في الطاعات زائلة لا تستمر، بل تنتهي، والتكريم باق، المتعة آنية وزائلة والمسؤولية باقية. في أنفسنا جميعاً فراغا لا يمكن أن يملأ إلا بمعرفة الله، المال لا يملؤه، ولا المنصب، ولا اللذة، ولا المتعة، هذا الذي نسعى إليه كي نملأ فراغ الإيمان.
يا رب، ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟