اللذة طابعُها حسيٌّ:
أيها الأخوة، اللذة حسية طابعها حسي تحتاج إلى مادة، اللذة تحتاج إلى طعام تأكله، تحتاج إلى منظر جميل تمتع عينيك به، تحتاج إلى مأوى واسع دافئ، تحتاج إلى مركبة تركبها، تحتاج إلى زوجة تتزوجها، تحتاج إلى مال تنفقه، فاللذائذ طبيعتها حسية، لا تأتي من الداخل، بل تأتي من الخارج، تحتاج إلى بيت، إلى مال، إلى أثاث في البيت، إلى طعام، إلى شراب، إلى زوجة، إلى شراب... والزوجة تحتاج إلى زوج فهناك تكافؤ.
اللذة إمدادُها منقطع:
لكن سبحان الله! لحكمة بالغة أرادها الله لم يشأ ربنا جل جلاله أن تمدك اللذة بإمداد مستمر، بل إمداد متناقص، فكل لذة لها فورة، وبعدئذٍ تصبح شيئاً مألوفاً تفقد بريقها، لذلك هؤلاء الذين نجحوا في الحياة بعد أن نجحوا شعروا بالفراغ، لأن في النفس فراغاً لا يملؤه المال، ولا المرأة، ولا المنصب، ولا مباهج الحياة.
لا بد من توضيح هذه الحقيقة، أنت أيها الإنسان، أنت مهيأ لمعرفة الله، فطبيعة نفسك لا نهائية، الخطر الكبير أن تختار هدفاً محدوداً، قبل أن تصل إليه أنت تحلم به، فإذا وصلت إليه، وأحطتَ به شعرت بفراغ لا يوصف، لأنك اخترت المحدود، وأنت مهيأ للامحدود، اخترت شيئاً يموت، وأنت مهيأ للإله عظيم حي باق على الدوام.
أنا أقول للشباب: الشيء الذي لم تصلوا إليه يبدو لكم كبيرا جداً، ويبدو متألقاً، فإذا وصلتم إليه خبا بريقه، وصغر حجمه، ويمكن في مرحلة ما أن تقول: هو لا شيء، فاللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة، بل بمتعة متناقصة، هذا إذا كانت في الحلال، فإذا كانت في الحرام فبعد المتعة كآبة، وشعور بالذنب، واختلال توازن، واحتقار للذات.
أنا أتحدث عن لذة بحثت عنها ضمن الحلال فتملّ، الدنيا تغر، ومعنى تغر أنها قد تبدو لك بحجم أكبر من حجمها بكثير.
كنت أروي هذه القصة كثيرا: شاب يعمل في محل تجاري، وهو ذو دعابة، فكان يكنس المحل، ويضع المخلّفات في علبة فخمة، ويغلف هذه العلبة بورق هدايا غالٍ، ويضع شريطا أحمر، وكأن هذه العلبة فيها قطعة ألماس غالية جداً، يضعها على طرف المحل التجاري، يمر إنسان فيظنها ألماسا، يأخذها، ويمضي سريعاً، فيتبعه صاحب المحل، بعد مئتي متر يفك الشريط أولاً، وبعد مئتي متر أخر يفك الورق، وفي مئتي متر الثالثة يفتح العلبة، فإذا فيها قمامة المحل، فيلعن، ويسب، وما إلى ذلك، هذه خيبة الأمل التي حصلت له والله سوف تحصل لكل إنسان أحب الدنيا، وجاءه ملَكُ الموت. يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
الدنيا تغر، وتضر، وتمر، الدنيا زائلة،
وقد جاء في كلام سيدنا علي: يا دنيا غُرّي غيري، طلقتك ثلاثاً
ليس معنى كلامي أن تدع الدنيا، ادرس، أسس عملا، تزوج، الزواج سنة، معنى كلامي ألا تغتر بها، ألا تظنها نهاية الآمال، ألا تظنها محطة الرحال، هي عارية مستردة.
هناك حديث أيها الإخوة يقصم الظهر
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوْ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
هذا كلام علمي، فهل من واحد منا وأنا معكم يمكن أن يستيقظ كل يوم كاليوم السابق؟ مستحيل، هناك بوابة خروج في المطارات، أنت تخرج من هذه البوابة، الله عز وجل عنده بوابات، فالورم بوابة، الجلطة بوابة، الاحتشاء بوابة، خثرة بالدماغ بوابة، فشل كلوي بوابة، تشمع كبد بوابة، حادث سير بوابة الخروج.
هذه هي الدنيا فدقق فيها، ربما بلغت أعلى منصب في العالم، ثم ماذا؟ موت، الموت ينهي كل شيء، ربما جمعت أكبر ثروة في الأرض، ثم ماذا؟ الموت، ربما استمتعت بكل مباهج الحياة، ثم ماذا؟ الموت، ربما طفتَ أركان الدنيا، ثم ماذا؟ الموت، لذلك الموت ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وصحة الصحيح، ومرض المريض، وغنى الغني، وفقر الفقير، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، الموت ينهي كل شيء.
إذاً: اللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة، بل بمتعة متناقصة، فإن كانت هذه المتعة في معصية يعقبها كآبة ومرض نفسي: أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
محبوس بالشقاء النفسي، محبوس بالكآبة، محبوس بالضيق، محبوس بالإحباط، محبوس بالتفاهة، أما المؤمنون: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
الهدى يرفعهم، المهتدون على، والضالون في، في كآبة، أو في سجن، ارتكب جريمة، إما في كآبة، أو في مرض نفسي، أو في سجن، أما المؤمنون: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
الهدى رفعهم إلى أعلى عليين.
أيها الإخوة، هناك شيء دقيق جداً، أن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، و لكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينة صلة بالله، الشعور بالأمن الشعور وبالرضى، والتوفيق والتأييد والنصر، فاللذة إن كانت في مباح كانت متناقصة، وتمل منها، وإن كانت في معصية أعقبتها كآبة،وتحتاج إلى شيء خارجي، إلى مال.
اللذة تحتاج إلى شيء خارجي:
بالمناسبة، قال بعض علماء النفس: تحتاج اللذة إلى شروط ثلاثة، تحتاج إلى وقت، وإلى مال،وإلى صحة، سبحان الله! في بدايات الحياة الوقت موجود، والصحة متوافرة، لكن المال غير متوفر، يقول لك: شاب منتوف ما عنده شيء، وفي وسط الحياة استلم عملا وصار عنده مال، وصحة، لكن ليسس عنده وقت، كل يوم دوامه في المحل حتى يضبط أمره.
قال لي رجلٌ عنده معمل نسيج، قال: والله ثلاثين سنة ما غادرت مديني إلا مرة واحدة في حياتي، الأيام كلها قابعٌ في المحل التجاري، فهناك مال وصحة، لكن الوقت مفقود، ثم تقدم في السن فسلّم التجارة لأولاده، الآن هناك مال ووقت، لكن الصحة مفقودة، في جسمه خمسون علة، أسيد أوريك، وشحوم ثلاثية، والتهاب مفاصل، وديسك في الظهر، شيء لا يحتمل، ترى كل واحد الآن معه من الأدوية الشيء الكثير، قبل الأكل، وبعد الأكل، على الريق، هذه يسبقها شيء، هذه بعد شيء، بعد ذلك يأتي النعي.
أيها الإخوة الكرام، هكذا هذه اللذة، تحتاج إلى مال، وإلى صحة، وإلى وقت، وهي خارجية، وطابعها حسي، ومتناقصة، وإن كانت في معصية تعقبها كآبة.
السعادة تنبع من الداخل:
أما السعادة فتنبع من الداخل، فلستَ بحاجة إلى شيء، بحاجة إلى أن تستقيم على أمر الله، بحاجة أن تتصل بالله، بحاجة أن تذكر الله، بحاجة أن تصلي، بحاجة أن تقوم الليل، بحاجة أن تقرأ القرآن الكريم ، بحاجة أن تغض بصرك عن محارم الله، بحاجة أن تضبط لسانك، لا تحتاج إلى مال، ولا إلى صحة، ولا إلى وقت، تحتاج إلى إنابة.
والله أيها الإخوة، إن لم تقل: أنا أسعد من كل الناس إلا أن يكون أحد أتقى مني، ففي الإيمان خلل، أنت متصل مع الله، وتقلق، متصل مع الله، وتخاف، متصل مع الله، وتذل، متصل مع الله، وتيأس، متصل مع الله، وتشعر بالضعف، هذا مستحيل.
السعادة تنبع من الداخل، وهي متاحة لنا جميعاً، ليس متاحا لنا جميعاً أن نسكن في بيت فخم جداً، بيت بأربعمئة متر، ثمنه ثمانون مليونًا، هذا ليس متاحا، والمركبة الفارهة ليست متاحة، لكن متاح لنا جميعاً أن نكون في قمة السعادة.
الإيمان مصدر سعادة الإنسان:
والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن تصل إلى قمة السعادة وأنت في السجن، وأغني ما أقول، ولا أبالغ.
إذا كنت في كل حال معـــي فعن حملي زادي أنا في غنى
فليتك تحلو والـحيــاة مريرة و ليتك ترضى و الأنام غضاب
وليـت الذي بيني و بينك عامر و بـيني و بين العالمين خراب
فلو شاهدت عيناك مـن حسننـا الذي رأوه لمـا وليت عنا لغيرنا
ولـو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولـو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضـحى قتيلاً بحبنا
و لـو نسمت من قربنا لك نسمة لمتّ غـريباً واشتيــاقاً لأجلنا
سعادة سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو في النار:
السكينة والسعادة والتألق وجدها إبراهيم في النار: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
سعادة أهل الكهف في كهفهم:
السعادة والسكينة والتألق وجدها أهل الكهف في الكهف.
سعادة النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار ثور:
السعادة والسكينة والتألق وجدها النبي عليه الصلاة والسلام في غار ثور، يا رسول الله لقد رأونا قال: يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا؟
والله أيها الإخوة الكرام، لو أذاقنا الله طعم القرب منه لنسينا الدنيا وما فيها، من عرف الله زهد فيما سواه.
السعادة عند ماشطة بنت فرعون:
وهِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ
النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء العروج:
لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مَرَّتْ بِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ قال يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال هذه رائحة ماشطة بنت فرعون.
أيها الإخوة الكرام، ابحث عن الأبد، هذه الدنيا تضر وتغر وتمر، ألا ترى جنازة في الطريق؟ انتهت جميع المتع، والرجل يُحمَل إلى القبر، فإما أن يكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، هذه السعادة معك، ما تحتاج إلى مال، لا تحتاج إلى مركبة فارهة، لا تحتاج إلى بيت، لا تحتاج إلى مركز مرموق، لا تحتاج إلى امرأة جميلة، تحتاج إلى اتصال بالله.
لذلك أيها الإخوة، السعادة تنبع من الداخل.
السعادة متنامية تعقبها راحة نفسية:
السعادة متنامية لا متناقصة، السعادة تعقبها راحة نفسية، وتوازن، واستقرار، وثقة، وتفاؤل، ويقين، ونفس متألقة، لأنها اتصلت بالله، لذلك الآية الدقيقة، دققوا معي: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً
أية قوة؟ لماذا أكل المال الحرام؟ من أجل أن يتزوج امرأة جميلة جداً، مهرها كبير، طلباتها كبيرة، تريد بيتا فخما، إذاً: أكل المال الحرام من أجلها. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً
قوة الجمال التي سبَتْك هي مسحة من جمال الله، شهوتك للمال الذي أغراك هو عطاء من الله، الله عز وجل عنده الجمال، وعنده الكمال، وعنده النوال، ونحن جميعاً نحب الجمال والكمال والنوال.
إذاً: أيها الإخوة، السعادة متنامية، والله الذي لا إله إلا هو خط المؤمن البياني خط صاعد صعوداً مستمراً، والموت نقطة على هذا الخط، والصعود مستمر، فإذا عرفت فأنت في سعادة متنامية، وكلما كشف لك من كمال الله شيء تقول: الله أكبر، أكبر مما كنت أظن، أكبر مما كنت أعرف، هذه هي السعادة، السعادة قد تكون في كوخ صغير، قد تكون مع مرض عضال.
والله أيها الإخوة، حدثني طبيب عن قصة من أندر القصص، قال: جاءنا مريض مصاب بمرض خبيث منتشر في أحشائه، هذا الورم الخبيث في الأحشاء له آلام لا يحتملها بشر، قال: كلما دخل عليه إنسان عائد يراه مبتسماً، يقول: اشهد أنني راض عن الله، يا رب، لك الحمد، تماسكه عجيب.
الحقيقة أنني قرأت مرة بحثا حلت عندي مشكلة، لماذا المرض نفسه يؤلم إنسانًا إلى درجة أنه يتكلم كلام الكفر من شدة الألم، وإنسان آخر ألمه واحد بالمئة والمرض نفسه؟ العلماء قالوا كلاما غير مقنع، قالوا: هناك عتبة للألم، أنت غرفتك لها عتبة، أمام الباب قطعة مرتفعة من الرخام، فهناك عتبة مرتفعة تعني آلاما كثيرة، لكن لا ألم في عتبة منخفضة، هذا كلام الأطباء، لكن بعد هذا ثبت أن طريق الآلام عليه بوابات، طريق الآلام يبدأ من الأعصاب المحيطة للنخاع الشوكي للمخيخ إلى المخ إلى القشرة، هذا الطريق عليه بوابات، هذه البوابات إذا فتحت كانت الآلام مئة ضعف، وإذا أغلقت كانت الآلام واحدا في المئة، المقال مترجم، ويغلب على ظني أن كاتب المقال لا يعرف الله، قال: تتحكم في هذه البوابات الحالة النفسية للمريض، فإذا كان المريضُ مؤمنا بالله فالبوابات مغلقة، فيصل الألم بسيطا جداً معقولا.
هذا المريض كلما دخل عليه عائد يعوده يقول: اشهد أنني راض عن الله، يا رب لك الحمد، يقول لي الطبيب: إذا قرع الجرس يتهافت الممرضون على خدمته، والأطباء يأتون فوراً، وفي بهذه الغرفة نور، وجذب، وروحانية، إنسان معه ورم خبيث منتشر ولا يصيح، بل يقول: يا رب، لك الحمد، قال لي: جلس سبعة أيام، ثم توفي، لكن مات بحالة حلوة جميلة، مات بحالة راقية جداً، قال لي: لحكمة بالغة جاء إلى هذا الغرفة إنسان مريض بالمرض نفسه، ورم خبيث في الأحشاء، قال لي: ما من نبي إلا سبّه، يا لطيف، يكفر كفرا، يصيح، يشتم، يقذف بالسباب كل من رآه، فإذا قرع الجرس لا يأتيه أحد، الغرفة مظلمة مخيفة، غرفة كفر، غرفة سخط، مع أن المرض نفسه.
أيها الإخوة، السعادة تنبع من الداخل، ولا تحتاج إلى شيء مادي، قد تكون أسعد الناس في كوخ.
والله مرة كنت في مؤتمر إسلامي في المغرب في أكبر فندق في الدار البيضاء، عند الفجر سمعت قرآناً يُتلى، والله أبكاني، نظرت من الشرفة فإذا عامل الحدائق يصلي الفجر في وقته، وله صوت حسن، قلت: يا رب، لعل هذا العامل أقرب إليك من كل أعضاء المؤتمر، المؤتمر إسلامي، الصلة بالله لها ثمن، ثمنها أن تكون محباً لله، أن تكون مستقيماً على أمره.
الشهوة إذا كانت هدفا كانت ألمًا:
تعلقوا بالسعادة أيها الإخوة، هناك فيلسوف من مصر يقول: مبدأ اللذة إذا كان هدفاً أصبح مبدأ ألم
أنت تتصور إنسانا دخله مليون في الشهر، ومعه كآبة، وينتحر بعد ذلك، أعلى نسب الانتحار في العالم في أغنى البلاد في العالم، الذي صمم ثاني أطول جسر في العالم يعبره ثلاثمئة ألف سيارة مهندس ياباني، في أثناء قص الشريط ألقى بنفسه في البوسفور، ذهبوا إلى غرفته، فكتب على ورقة: ذقتُ كل شيء في الحياة فلم أجد لها طعماً، فأردت أن أذوق طعم الموت
الحياة ليس فيها شيء، أكاد أقول لكم: سافرت كثيراً شرقاً وغرباً، وجدت صفة مشتركة في العالم الشرقي والغربي، إنسان بلا هدف، هو غني ما عنده مشكلة، ولأن ما عنده مشكلة فهذه أكبر مشكلة، حياة مملة، ألِف كل شيء، أكل، شرب، شاهد أفلام، وبعد هذا؟
والله أيها الإخوة، هؤلاء الذي ينجحون في حياتهم المادية يأتي وقت لا يحتمِلون ولا يُحتمَلون، فهم في مللٍ، وضجرٍ، وسأمٍ.
أيها الإخوة، الحقيقة أن الإنسان إذا لم يعرف الله عز وجل يصبح مبدأ الشهوة عنده مبدأ ألمٍ، لماذا؟ لأنه بلا منهج، وسوف يعتدي، وحينما تعتدي، عندك ضمير، عندك فطرة سليمة، هذه الفطرة تعذبك، فلذلك أي إنسان يتفلت من منهج الله يعاني من أمراض نفسية، أولها الكآبة، ثانيها اختلال التوازن. وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
ذكرت شيئًا: المصائب في الدنيا ليست عقاباً، وليست انتقاماً، وليست تشفياً، بل هي نتائج علمية للمعاصي والآثام، وكما أن المركبة علة صنعها السير، فلا بد لها من مكبح يتناقض مع علة سيرها، والمكبح ضروري، هو أخطر ما في المركبة، مع أنها صنعت من أجل أن تسير، والمكبح يتناقض مع علة سيرها، لهذا لما يختار الإنسان الشهوة المحرمة فأمامه سلسلة معالجات تحدثنا عنها في درس سابق، منها الهدى البياني، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، والقصم.
متعة الشهوة زائلة والمسؤولية باقيةٌ، والمجاهدة في الطاعة زائلة والتكريم باقٍ:
أيها الإخوة الكرام، المتع في المعاصي زائلة والمسؤولية باقية، ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
الآن المجاهدة في الطاعات زائلة لا تستمر، بل تنتهي، والتكريم باق، المتعة آنية وزائلة والمسؤولية باقية، والمجاهدة في الطاعة زائلة ومنقضية والتكريم هو الباقي.
لكن أدق كلام أن في أنفسنا جميعاً فراغا لا يمكن أن يملأ إلا بمعرفة الله، المال لا يملؤه، ولا المنصب، ولا اللذة، ولا المتعة، هذا الذي نسعى إليه كي نملأ فراغ الإيمان.
مرة أخيرة، يا رب، ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟