بحث

الإنسان قبل الإيمان

الإنسان قبل الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

     القرآن الكريم كلام الله، وحي السماء، كلام الخبير، كلام العليم، كلام الذي خلق الإنسان، كلام الذي يعلم السر وأخفى، في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن حقيقة الإنسان، وقد تنتمي موضوعات هذه الآيات إلى ما يسمى في العصر الحديث بعلم النفس الإسلامي، فهذا الإنسان المخلوق الأول ما حقيقته؟ ما جوهره؟ ما طبيعته؟ ما خصائصه؟ ما أحواله؟ ما الذي يشقي؟ ما خصائصه قبل الإيمان؟ ما خصائصه بعد الإيمان؟ متى يسلم؟ متى يسعد؟ متى يرقى؟ متى يسقط، هذه قضايا دقيقة جداً القرآن الكريم، عالجها. فقبل أن يؤمن، وقبل أن يتصل له خصائص، وبعد أن يؤمن، وبعد أن يتصل له خصائص أخرى، على كلٍّ، من خصائص الإنسان آيات كثيرة، اخترت لكم بعضها.  

 

هلوع:

     قال تعالى:  ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ حدثني أخ كان مضيفا بطائرة دخلت في سحابة مكهربة، فتحطمت واجهة الطائرة، وتعطل جهاز الرادار، وكادت أن تسقط، قال لي: أوضاع الركاب شيء مخيف، بعضهم يبكي، بعضهم يصرخ بويله، بعضهم يمزق ثيابه، الطيار اضطرب جداً، قال له: هدئ الركاب، قال له: ما استجابوا، قال له انتقِ شخصًا من الركاب، فوجد شخصاً جالسا بشكل هادئ، ساكت، فاختاره، فوجده مغمى عليه.  

 

ملتجِئٌ إلى الله في الضرّاء:

     من هذه الآيات الكريمة:  ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً﴾ الإيمان بالله مركب في أصل فطرته، فذا أصابه الضر يدعو الله وحده، أحياناً ترتفع حرارة الابن الصغير، يشم من بعض أقوال الأطباء أنه مرض عضال، التهاب سحايا، فالأب يصلي، ويدعو، ويدعو، ويدعو، فإذا زال المرض وعاد الشفاء إلى الصغير يقول لك: هذا طبيب ماهر، والأدوية فعالة، وينسى أنه دعا الله عز وجل، لذلك المؤمن يعرف الله في الرخاء، وغير المؤمن يعرف الله في الشدة.  

 

يَئُوسٌ كَفُورٌ:

     قال تعالى:  ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور﴾  إيمانه بالله لا يكفي لفهم حكمة هذا الحدث، حتى إنهم قالوا: " من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر " إذاً: حينما تنزع منه هذه الرحمة إنه ليئوس كفور، يقنط من رحمة الله، أما المؤمن فلا يقنط، لا ييئس، لا يشعر بالإحباط، يرى أن هناك حكمة بالغة، يقول: يا رب، أنا راض بقضائك وقدرك، أنا راض بما أنا فيه، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى،  ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي)) بطولتك لا تبدو في الرخاء، تبدو في الشدة، والرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، وإذا أحب الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه. يغلب على الإنسان قبل أن يؤمن أنه يؤوس، ويغلب على الإنسان قبل أن يؤمن أنه كفور، لكن المؤمن متفائل شكور، لأن الله عز وجل طمأننا، قال تعالى:  ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ .  

 

خَصِيمٌ مُبِينٌ:

     قال تعالى:  ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ يكون نطفة لا ترى بالعين يستحيا بها لو كانت على الثياب، هذه النطفة تخرج من عورة، وتدخل في عورة، ثم تخرج من عورة، ويكون طفلا جميلا في بطن أمه، ثم وليدا يحتاج إلى عناية، إلى تنظيف، إلى إرضاع، فإذا صار شخصية مرموقة بدأ ينشر أفكار الكفر والإلحاد، ويقول: أنا، وإنسان العصر، والتأله. يستخدم طلاقة لسانه وبيانه في تفنيد بعض ما في الدين من حقائق، زاعماً بأنه حر التفكير، لا يخضع لشيء إلا لعقله.  

 

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ:

     قال تعالى:  ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ يلوح له مكسب مادي، وفيه شر، وفيه حساب، ويعقبه عذاب ومساءلة، وقد ينتهي إلى النار. إقبال الناس على الدنيا، على مالها حلالاً أو حراماً، على نسائها نكاحاً أو سفاحاً، إقبال الناس على الدنيا من دون أن ينتبهوا إلى مشروعية عملهم، أو عدم مشروعيته، هكذا الإنسان قبل أن يؤمن، اختياره حسي، المؤمن يسعى إلى أهداف بعيدة، يسعى إلى الجنة، والجنة بعد الموت، يتحمل في الدنيا كل شظف، وكل عيش خشن في سبيل مبادئه وإيمانه ونقائه، ويرفض أي دخل فيه شبهة، يرفض أية امرأة لا تقيم شعائر الله، يرفض أي منصب لا يستطيع أن يوظفه لخدمة الخلق، بعيد عن المكاسب المادية، مؤمن بما عند الله.  

 

الإعراض عن الله عندما يكون في نعمة:  

     يقول الله عز وجل:  ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ نسي الله، نسي واجباته الدينية، نسي الآخرة، نسي المرض، نسي العقاب، نسي البلاء، نسي أن الله له بالمرصاد، نسي أنه في قبضة الله. أما المؤمن فيزداد في الرخاء إقبالاً على الله، يزداد في الرخاء محبة لله، فإذا لحكمة بالغة تحولت عنه هذه النعمة، هو شاكر وراض عن الله. إن إنسانًا كان يطوف حول الكعبة يقول: يا رب، هل أنت راضٍ عني؟ كان الإمام الشافعي يمشي رواءه، قال له: " يا هذا، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: كيف أرضى عن الله، وأنا أتمنى رضاه ؟! قال:  إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله ".  

 

الحرص على ما في يده:  

     قال تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً﴾ ومن صفات الإنسان قبل أن يؤمن أنه قتور، يحرص على ما في يديه لا ينفق حتى أنه يعيش فقيراً ليموت غنياً بل إن الشح مرض خبيث من أمراض النفس، قال تعالى:  ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ قال تعالى:  ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ .

 

يحب المجادلة:  

     من صفات الإنسان قبل أن يؤمن، قال تعالى : ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ يحب المجادلة، يحب المماحكة، يحب الكلام الفارغ، يغرق في الجزئيات، ينسى مقاصد الشريعة، ينسى سر وجوده وغاية وجوده، يدخل في خصومات، في موضوعات صغيرة جداً. جاء أعرابي النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، عظني ولا تطل، تلا عليه النبي عليه الصلاة والسلام فقرة من سورة:  ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾  قال: كفيت. نحن في عصرنا المطلوب هو الحوار، أما الجدال ففيه مماحكة.   

 

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى:

     قال تعالى:  ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ زوج ظالم يسحق زوجته، يبالغ في إذلالها وإهانتها، وضربها وأخذ أموالها، ثم يطلقها، وتنتهي الحياة هكذا؟! إنسان يتاجر بالمخدرات، يفسد شباب الأمة، وينتهي الأمر هكذا!؟ ولا شيء بعد الموت!!! أيعقل هذا؟ ما من حساب، ولا إله يحاسب، قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ))   

 

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ:

     قال تعالى:  ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾  لولا أن الله يحبني لما جعلني غنياً، لا، الله أعطى المال لقارون، وهو لا يحبه، قال تعالى:  ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾  أعطى الملك لفرعون، وهو لا يحبه.   

 

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى:

     ومن صفات الإنسان قبل أن يؤمن:  ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ ما دام قويا وغنيا، أمره نافذ، ينسى أن الله سيحاسبه. لذلك المؤمن دائمُ الافتقار إلى الله، ولو كان غنياً، ولو كان متمكناً، يقول: يا رب، تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك، يا ذا القوة المتين.  

 

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ:

     الإنسان قبل أن يعرف الله خاسر، أيّ إنسان،  ﴿وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ لماذا هو خاسر؟ لأن مضي الزمن يستهلكه، طبعاً إلا الذين آمنوا.  

 

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ:

     قال تعالى:  ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾  في ضعف، أيّ خثرة دم تشله، أنت وعظَمتك ومكانتك، وهيمنتك وحجمك المالي، وشهاداتك الكثيرة ومناصبك العديدة، كل عظمة الإنسان مرتبطة بسيولة الدم، فإذا تجمدت خثرة صغيرة لا ترى بالعين في أحد أوعية الدماغ أصيب بالشلل. الإنسان أقل سبب ينهي له حياته.  

﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ 

     آيات كريمة تصف الإنسان قبل أن يعرف الله، هذه صفاته، أما إذا عرف الله صار إنساناً آخر.  



المصدر: العقيدة والإعجاز - مقومات التكليف - الدرس : 12 - الفطرة -4- طبيعة الإنسان قبل أن يؤمن