بحث

الإنسان مسير ومخير

الإنسان مسير ومخير

بسم الله الرحمن الرحيم

      هل الإنسان مخير أم مسير؟   

      الإنسان، في الوقت نفسه، مخير، ومسير، فما تفصيل ذلك؟  

الإنسان مخير:  

      كون أن الإنسان مخير، هذا يثبت بأدلة ثلاثة، بدليل عقلي، وبدليل نقلي، وبدليل واقعي،   

 

الدليل العقلي:  

      يستحيل على الله عزوجل أن يحاسبنا، دون أن نكون مختارين، لأن الاختيار أساس المسؤولية، الاختيار أساس المحاسبة، الاختيار أساس الجنة والنار،   

      لو أن جامعة فتحت أبوابها للطلاب، وأخذت أحد الطلاب ووضعته في السجن، طوال العام الدراسي، ومنعت عنه أي كتاب، وأي دفتر، وأي شيء، ثم أخرجته يوم الامتحان ليؤدي الامتحان، طبعا يرسب هذا الطالب، هل يعقل أن يحاسب هذا الطالب على رسوبه؟ ما كان مخيرًا، ما كان مخيرًا أن يدرس أو أن لا يدرس، أكره على عدم الدراسة، فكيف يحاسب!؟ هل يفعلها إنسان؟ مستحيل،   

      الإنسان مخير بالدليل العقلي، يستحيل على الله عزوجل أن يكافئ إنسانا بالجنة دون أن يخيره، بالعكس، لو أعفينا طالبا من الدراسة، ويوم الامتحان أعطيناه أوراقا مكتوبة، إجابات تامة، ونال الدرجات التامة، ونجح، وقلنا لقد أحرز هذا الطالب نجاحا كبيراً، هل هذا النجاح حقيقي؟ لا والله، هذا نجاح مضحك،   

      مستحيل أن يستحق إنسان الجنة، من دون اختيار، أو أن يستحق النار من دون اختيار، ومستحيل أن يعذب الله إنسانا من دون أن يعطيه حق الاختيار، ومستحيل أن يحاسب إنسانا دون أن يكون مختاراً، ومستحيل أن يكون الإنسان مسؤولا، وهو ليس مخيراً،   

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له      إياك إياك أن تبتل بالماء  

      يعني لو رأيت مروحة تدور، ولم تر شريطا، ما دامت المروحة لا يمكن أن تدور إلا بقوة كهربائية، فلابد من شريط مخفي، كيف أثبتت الكهرباء؟ بنفيك للعكس، العكس مستحيل، لابد من كهرباء، هذا الدليل العقلي،   

      الإنسان مسؤول لأنه مخيَّر، مُحاسب، لأنه مخيَّر ، الجنة الإنسان دخلها بعد ما اختار الإيمان، جهنم، الإنسان يدخلها بعدما كان مختاراً أن يؤمن أو لا يؤمن، هذا كله ينطوي تحت الدليل العقلي لكون الإنسان مخيراً،  

      لو ناقشت إنسانا لا يؤمن بالقرآن، يقول لك، لا أريد آيات، ولا أريد أحاديث، ولا أريد أقوالاً، أقنعني أن الإنسان مخير، لا يوجد إنسان في الأرض، مهما انحط شأنه، مهما كان غبياً، يلزم إنساناً على عمل ما، ثم يحاسبه على عمله، يقول له أنت! من منا يدفع إنسانا حتى يقع، فإذا وقع، يقول له لمَ وقعت؟ هذا الإنسان ألا يقول له بأعلى صوته، أنت الذي أوقعتني، فما ذنبي أنا؟   

      لو قسنا عرض كتف إنسان، قد يكون ثلاثة وستين ونصف سنتيمتر، ثم بَنَيْنا جدارين، الفراغ بينهما ثلاثة وستون ونصف سنتيمتر، فإذا سار هذا الإنسان بين الجدارين، الآن دقق: لو قلنا له: خذ اليمين، هل لهذا الكلام من معنى؟ هل هذا الكلام يطبَّق؟ لو قلنا له: خذ اليسار هل لهذا الكلام من معنى؟ هل هذا الكلام يطبَّق؟ أتعتقد أن في القرآن الكريم كلام لا معنى له؟ فإذا كان الإنسان مسيَّراً بحسب زعم الجهلة تسييراً كاملاً، وأنه مجبور على أعماله، فوجود الأمر والنهي في القرآن الكريم عبث، لا معنى للأمر ولا معنى للنهي إذا كان الإنسان مسيراً، هذا دليل واقعي، دليل عقلي، دليل منطقي، ما دام هناك أمر فهناك اختيار، وما دام هناك نهي فهناك اختيار.  

      إنسان مسجون، وباب الزنزانة مقفل، نقول له: إياك أن تتأخر مساءً، ما هذا الكلام؟ هذا كلام لا معنى له إطلاقاً، ما دام هناك أوامر إلهية في القرآن:  

      (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)    

      ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا  ﴾    

      ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾  

      القرآن طافح بالأوامر والنواهي، فإن لم تكن مخيراً، وكنت مسيراً فكل هذه الأوامر لا معنى لها، وكأنك تتهم القرآن الكريم أن فيه كلاماً لا معنى له إطلاقاً.هذا هو الدليل العقلي.   

الدليل النقلي:  

      قال الله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا )

      هل في القرآن آية أوضح من هذه الآية؟  (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا )

      نحن لسنا مخيرين، نحن الله عزوجل جعلنا مشركين، هكذا، هذا قول من؟ قول الذين أشركوا، فلو أن الإنسان قال مثلهم، لجعل نفسه معهم، من يقول،أخي لا تؤمن حتى يريد الله، أنا أقدر معارضة مشيئة الله عزوجل؟ الله لم يشأ لي الهدى، هذا كلام الشيطان بعينه، الله عزوجل، هدانا، وانتهى الأمر، بقيت علينا استجابتنا،  (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )

      هذا دليل نقلي، دليل قرآني،   

      (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً )

      (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)   

      بعض الناس قال [ هُوَ ] يعود على الله، الرد على هذا التفسير، لو أن هو تعود على الله، لمَ قال الله عزوجل:  (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)

      إذا قلت إن الذي يقود السيارة فلان ، أقول له خذ يمينك، هل يعقل أن أقول لإنسان راكب بالمقعد الخلفي، خذ يمينك؟ يقول لي ما بيدي القيادة بيد السائق  قل للسائق ! فكلمة فاستبقوا الخيرات موجهة للإنسان،  

      (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )

       هذه آية واضحة كالشمس على أن الإنسان مخير،   

      (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً )

       فمن شاء، تتمة الآية بعد قليل نتحدث عنها،   

      هذا هو الدليل الآخر، على أن الإنسان مخير،   

      (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [43] فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )

      يعني هذه تمثيلية من الله عزوجل، لما فرعون كان مخيرا، وكان بإمكانه أن يهتدي، لو كان الإنسان مسيرا، أو مكرها على الكفر، ليس هناك حاجة أن يرسل الله عزوجل موسى إلى فرعون،  (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [43] فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )

      ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتاب عبثا، لو كان الإنسان مكرها ليس مخيرا ما كان هناك من داع ٍ لكتاب الله أن ينزل،   

      قال تعالى:  (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا )

      ورد في نهج البلاغة للإمام علي كرم الله وجهه، سأله رجل، أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟  

      فقال سيدنا علي كرم الله وجهه:   

      ويحك لعلك ظننت قضاء لازما، وقدرا حاتما، لو كان ذلك كذلك، لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله تعالى أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعبا،  

      لا ثواب ولا عقاب، فهذا الذي نجح نجاحا جيدا وقد قدمت له الأوراق جاهزة، وهذا الذي رسب بعد أن أُودع في السجن، طوال العام الدراسي،  لو كان ذلك كذلك، لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، لمَ الوعيد؟ لمَ التخويف من النار؟ ولمَ الوعد بالجنة إن كان الإنسان ليس مخير؟ لمَ لم تدخل الجنة؟ ليس بإرادتي، بإرادتك يا رب، يعني إذا كان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر، بمعنى أننا ملزمون، ولسنا مخيرين، لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، وذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار، لا زلنا في المؤيدات النقلية، الإنسان مخيرٌ بالدليل النقلي،   

      سيدنا عمر اقتِيد إليه رجل متلبسٌ بشرب الخمر، فقال والله يا أمير المؤمنين، إن الله قدر عليَّ هذا، فقال رضي الله عنه، أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله،   

      وقال: ويحك إن قضاء الله، لم يخرجك من الاختيار، إلى الاضطرار،    

      يعني أنت لازلت مختاراً، لذلك سأحاسبك، فالإنسان مخير بالدليل العقلي، كما قلت قبل قليل، يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يحاسب، أو أن يجعل الإنسان مسؤولا، أو أن يدخل إنسانا الجنة، أو أن يدخله النار، وليس الإنسان مختاراً، فالاختيار أساس المسؤولية، والاختيار أساس المحاسبة، والاختيار علة الدخول إلى الجنة، وعلة الدخول إلى النار.  

 الدليل الواقعي:  

      أما الدليل الثالث، الدليل الواقعي، الإنسان أحيانا يعاني ظاهرة اسمها الصراع النفسي، متى يعاني الإنسان الصراع النفسي؟ لأنه مخيرٌ، أحيانا يأتيك ضيف مع درس الجمعة، تقول، أحضر الدرس أم أجلس مع الضيف؟ أحيانا، تختار أن تجلس مع الضيف، وقد تختار أن تأتي إلى الدرس، ألست مختاراً؟ يعني كل إنسان يقترف ذنبا ما، أليس بإمكانه أن لا يفعل هذا الذنب؟ طبعا، فلو درسنا حياتنا اليومية، لوجدنا أننا مختارون، وأننا، بسبب اختيارنا، تنشأ في نفوسنا حالة، تسمى الصراع الداخلي، يعني الصراع الداخلي، أأفعل هذا أم هذا؟ الآن، الوقت هذا أنت حضرت إلى هذا الدرس، وكان بإمكانك أن تبقى في البيت أو أن تذهب إلى صديق، أو أن تذهب إلى بيت فيه معصية، أنت مخير،   

ملاحظات حول الاختيار:  

      ولكن هذا الاختيار، عليه تعليقات كثيرة،   

أولا: مخير أن ينفع أو أن يضر، لكنه ليس مخيرا أن ينفع من يشاء أو أن يضر من يشاء:  

      أول هذه التعليقات، الإنسان مخير أن ينفع أو أن يضر، لكنه ليس مخيرا أن ينفع من يشاء أو أن يضر من يشاء، هنا أدق شيء بالاختيار، الإنسان مخير، يسرق أو لا يسرق، لكن إذا اختار السرقة، ليس حرا في اختيار الإنسان الذي يسرق منه، عندئذ يتولى الله عزوجل توجيهه إلى إنسان ذي مال حرام يسرق منه، لو الأنسان كان حرا بإيقاع الأذى على من يشاء، لكان الله ظالما، وحاشى لله،  

      قال الله تعالى:  

      (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )

      (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)  

      (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)  

      (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)  

      (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)  

      (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )

      لو تتبعت آيات القرآن الكريم، لوجدت أن الإنسان مخير، لكن اختياره في موضوع واحد، أن تنفع، أو أن تضر، أن تصلح أو أن تفسد، ولكنك لن تستطيع أن تضر إلا من يختاره الله عزوجل لك، إنسان مؤذي، إذا ربنا أراد أن يؤدب عبدا، أن يربي عبدا، يسوق هذا العبد إلى هذا المؤذي فيؤذيه، ربنا عزوجل   

      قال: الظالم سوط الله، ينتقم به، ثم ينتقم منه .   

      قال الله تعالى:(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )

      هذه الفكرة أساسية، لو أنك    غفلت عنها ، أولم تعرفها، لرأيت أن هذا الإنسان حر في أن يؤذي، أين الله؟ وقد قالها أناس كثيرون، أين الله؟ إذا كان الأمر بيد الله، فأين هو؟ نقول لهم أن الله سبحانه وتعالى، يُسير هذا الذي اختار الأذى إلى من يستحق الأذى، إذاً أنت مختار، وأنت مخير، ولكن مخير أن تحسن أو أن تسيء، لكن أن تحسن لمن، أو أن تسيء لمن، هذا ليس في اختيارك، ولكنه في اختيار الله عزوجل، هو يسوق المحسن لمن يستحق الإحسان والمسيء لمن يستحق الإساءة.  

ثانيا: الله سبحانه وتعالى يتدخل تدخل غير مباشر بعد اختيار الإنسان تشجيعاً أو تضيقاً:  

      التعليق الثاني، هو أن الله سبحانه وتعالى، حتى الإنسان ينزه الله ويسبحه،   

      لما أب يجد ابنه اختار شيئا سيئا، هل يقف الأب متفرجا؟ مستحيل، هل يقف الأب مكتوف اليدين؟ مستحيل، الأب فيه رحمة، إذا ابنه اختار طريقا سيئا، يتركه وشأنه؟ مستحيل، لا يردعه؟ مستحيل، لا ينصحه؟ مستحيل، لا يضيق عليه؟ مستحيل، إذا آمنا أن الإنسان مخير، من لوازم هذا الإيمان، أن الله سبحانه وتعالى، لا يقف من عبده، إذا اختار موقفا يضره، لا يقف متفرجا، ولكنه، يفعل أشياء كثيرة.  

      الله سبحانه وتعالى، يتدخل، أنظر أدق فكرة في الموضوع أن الله سبحانه وتعالى يتدخل تدخلا غير مباشر، لو كان مباشرا ما عاد مختارا الإنسان، الإنسان مخير،   

يتدخل في الأجواء النفسية:      

      لما الإنسان يختار طريق الهدى يشرح الله صدره، وإذا اختار طريق الشقاء يضيق الله عليه، يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصَّعد في السماء،  (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)   

      هذه رحمة الله، الله سبحاه وتعالى يتدخل تدخلا إيجابيا أو سلبيا، يعني، إذا العبد اختار الخير، يشرح الله صدره، يجعله مستبشرا، يجعل نفسه طليقة، فرحة مسرورة، يقول لك والله خف وزني، يمشي على الأرض، اختار الخير، الله عزوجل، فتح له آفاق الخير، ولما يختار   

      الشر، يضيق عليه، يصير معه انقباض، ضيق،  (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ )

      هذا أول تدخل من الله للعيد إذا رآه اختار شيئا سيئا، يضيق عليه نفسه،   

      لذلك قال عليه الصلاة والسلام: القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء  

      لما الإنسان يختار الشر والشقاء، تضيق نفسه، لكن لما يختار الخير، ينطلق، يفرح، يستبشر، هذه رحمة الله عزوجل، ملخصة في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )

يتدخل في حياتنا العقلية   

      يبين لنا الحق،   

      ربنا عزوجل قال: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ )

      معنى ذلك إذا علم فيهم خيرا يسمعهم، إرسال الأنبياء تحت هذه الآية، إنزال الكتب السماوية تحت هذه الآية، السماح للدعاة إلى الله بالدعوة إلى الله، تحت هذه الآية، أيام ربنا عزوجل يسوق لإنسان إنسان ينصحه، يبين له الحق، يهديه سواء السبيل، يحذره، يبشره، ينذره، إذاً ربنا عزوجل، لما الإنسان يختار، تدخل يده الكريمة، أولا نفسيا، وثانيا عقليا،  

يتدخل في حياتنا المادية  

      هنا جاء التيسير، والتعسير،  (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [5] وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [6] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [7] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى [8] وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [9] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى )

      تدخل مادي لما الإنسان يختار طريق الخير الله ييسر له أموره، يوفقه، يوفقه لعمل، يوفقه لزواج موفق، ناجح، يوفقه لبيت يطمئن فيه، يرتاح فيه، يوفقه لذرية صالحة، لأنه هو التفت إلى الله، إذاً يوجد عندنا شرح صدر، وعندنا تبيين، وعندنا تيسير،   

      ولما الإنسان يختار طريق الشر، الله عزوجل يضيق عليه ماديا، يبعث له مشاكل تصيب جسده، تصيب نفسه، يبعث له مقلقات، يبعث له مصائب تصيب ماله، مصائب تصيب أولاده أحيانا، تصيب أهله، تصيبه نفسه ماديا، بجسده أو بنفسه،   

      قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [155] الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )

      إذاً كل أنواع التضييق، المادي، والمعنوي، والنفسي، هو بسبب، أن هذا العبد اختار طريقا غير صالح، فضيق الله عليه، إذاً الله عزوجل، يعالج الإنسان.  

      إذاً ربنا عزوجل، لما الإنسان يختار، لا يقف موقفا سلبيا، يتدخل، إن اختار الخير يشجعه، وإن اختار الشر يضيِّق عليه، نفسيا، وماديا، فكل أنواع المصائب،   

      قال عليه الصلاة والسلام: ما أصاب عبدا من مصيبة، إلا بإحدى خلتين، بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة، أو بدرجة لم يكن الله ليبلغه إياها إلا بتلك المصيبة.  

      كل أنواع المصائب لا بد من أن تكون بهذا الباعث،   

      دخل النبي عليه الصلاة والسلام على رجل مريض، فقال هذا الرجل، يا رسول الله أدع الله أن يرحمني، فقال: يا رب ارحمه، فقال الله عزوجل،: عبدي، كيف أرحمه مما أنا به أرحمه، وعزتي وجلالي، لا أقبض عبدي المؤمن، وأنا أحب أن أرحمه، إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها، سقما في جسده، أو إقتارا فيي رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء، شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.  

      إذاً من أنواع التدخل الإلهي في اختيار الإنسان، التدخل المادي، التضييق المادي، مصيبة في المال، في الولد، في الجسد، في الأهل، حتى يعود العبد إلى رشده، (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

      لو أن الله عزوجل لا يتدخل، إذا كان الابن اختار طريقا سيئا، الأب، قال له اعمل ما شئت، كبر الابن، يرى نفسه خلف الناس، يمتلئ عتبا على والده، كنت نصحتني !، أنا ما كنت أعرف يا أبي، كنت ضيقت عليَّ، نبهني، أضربني، تركتني أختار الشر، وأنت سكتت !   

متى يقف التدخل؟  

      فلما الإنسان يختار الشر، الله عزوجل، يعالجه معالجات مستمرة، لكن إذا تدخل باختياره، مباشرة، ما عاد مختارا الإنسان، هو مختار، ولكن التدخل غير مباشر، أو يبين له، أو يضيِّق عليه، لكن لما الإنسان يختار الشر، ويصرُّ عليه، هذا أخطر شيء، اختار الشر، وأصر عليه،   

      قال الله عزوجل:  (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)  

      الإصرار على الشهوة خطير جداًّ، يستدعي أن الله سبحانه وتعالى، يمدُّ له مدًّا،   

      لكن لما الإنسان يصر على الشيء، أو لما يختار شيئا، وليس مصرا عليه، ماذا يحدث؟  

      قال الله عزوجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً )

      بالقدر الذي نشاء ولمن نريد، معنى ذلك أن ربنا عزوجل، لا ينفذ اختيار الإنسان كله، بالقدر الذي يعينه على تركه في المستقبل، قد يطلب الإنسان المال، يعطيه بعض المال، ويعطي بعض المال لبعض الناس، أما إذا كان الطلب غير صادق، والطلب مؤذي، والإنسان طيب، قد لا يستجيب الله له، هذا من توابع الاختيار،   

ثالثا: الشيطان من حيث لا يريد، مسخر لخدمة الناس:  

      الآن فيه حالات، توجد مجموعة آيات في كتاب الله عزوجل، يعني تُوقع الإنسان في بعض الحرج،   

      ربنا عزوجل قال: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ )

      وقال: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً )

      وقال: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ )

      وقال:  (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ )

      هذا التزيين ما حكمته؟ يعني، مناقشة منطقية، إذا كان الشيطان يزين للإنسان السيئات، فلماذا خلقه الله عزوجل؟ الشيطان أراد أن يضل الناس جميعا، لكن الله عزوجل، وظف له إن صح التعبير، هذه الإرادة الشريرة لمصلحة العباد، الشيطان لا يستطيع أن يضل إلا الضال، لكن الذي أصرّ على شهوة خبيثة، صار إخراج هذه الشهوة، خير من بقائها، عندئذ يأتي دور الشيطان، لتزيين هذه الشهوة حتى تخرج، فيعاقب الله صاحبها عليها، فتخرج هذه الشهوة من نفسه، يعني، لو إنسان اشتهى شيئا، وأصر عليه، ورأى موانع تمنعه من الشيء، هذا الإنسان تعطل، لا يعي على خير، يشتهي الشيء ولا يفعله، إخراج هذه الشهوة خير من بقائها، عندئذ يأتي الشيطان فيزين للإنسان عمله السيئ فيفعله، فيعاقبه الله عليه، فيشفى من هذه العلة، إذاً أحد أسباب شفاء الناس الذين يصرون على شهواتهم، من عللهم الخبيثة، أن الشيطان يزين لهم هذه الأعمال، حتى تخرج هذه الشهوة من نفوسهم، فيُعالجُوا منها، أو يُعافَوا منها.  

      الملخص، أن الشيطان من حيث لا يريد، مسخر لخدمة الناس، لكن دقيقة هذه الفكرة، يعني الشيطان، أداة قذرة، لاستخراج الشهوات الخبيثة من نفوس الناس، هذه وظيفته، فربنا عزوجل، لو لم يكن من خلقه فائدة، لما خلقه الله عزوجل أساساً، بالمناسبة، الشيطان لا يستطيع أن يفعل شيئاً،   

      قال تعالى:  (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)   

الشيطان ماله فعل، كلما يملكه، أن يقول لك شيئا، أن يوسوس، فإما أن لا تستجيب، وهذا هو الإيمان، وإما أن يستجيب، ولا يضل الشيطان إلا الذي ضل في الأساس.   

رابعا: عزو الأخطاء إلى الآخرين فكرٌ قديم:  

      الباطل قديم، والإنسان يميل إلى أن يعزو أخطاءه إلى غيره، اسأل طالبًا رسب: لماذا رسبت؟ يقول: هذا الأستاذ ليس معقولا إطلاقاً، هو ليس له ذنب، فقط الأستاذ، السؤال غير معقول، المنهاج غير معقول، لمَ لا تقول: أنا كسول، أنا ما درست، دائماً الإنسان يريد أن يعزو أخطاءه إلى غيره، كالنعامة تماماً تخفي رأسها في الرمال، وتنسى أنها مِن خطأها صادها الصياد، وهذا مرض مستشرٍ، نحن مخطئون، أخطائنا أودت بنا إلى ما نحن عليه، وما فينا جرأة، يجب أن تكون جريئًا أن تقول: أنا أخطأت، اسأل طالبا ما نجح يقل لك: الله ما كتب لي النجاح، لماذا أنت ما درست؟ لمَ لا تقول: أنا ما درست، كل إنسان يقع في خطأ بتقصير، ولا يؤدي الواجب، لا يتقن عمله، لا يحتاط، لا يأخذ بالأسباب، ويأتي جزاء التقصير، جزاء الإهمال، جزاء عدم الأخذ بالأسباب، جزاء الجهل، يقول: هذا من إرادة الله.(إِنَّ  اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)   

      أيها الإخوة، أنا لا أبالغ، هذا الموضوع أعدُّه أخطر موضوع في العقيدة، ولمجرد أن تتوهم أن كل شيء منتهٍ، الشقي شقي، والسعيد سعيد، ولا أمل، ولمَ العمل؟ ولِمَ الأمر أساساً؟ ولمَ النهي؟  

الإنسان مسير  

أولا: تسيير كليات:  

      الآن الإنسان مسير، مسير ليست عكس مخير، لكن مسير تتكامل مع مخير، الإنسان مخير، والآن مسير، كيف مسير؟ يوجد في حياته أشياء ليس له خيار فيها، أنه ولد في مدينة ما، من فلان وفلانة، في عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثين، لو ولد في عام ستين في بيئة معينة، في عام ثمانية وثلاثين في أجواء معينة، هذا ولد بالأربعينات، بالثلاثينات، بالعشرينات، ألف وثمانمئة وعشرة، الناس كلها ورعة، فكون الإنسان مولود في الزمن الفلاني، وفي المكان الفلاني، ومن هذا الأب الفلاني، ومن هذه الأم الفلانية، هذا تسيير أو قدر لا دخل للإنسان فيه، ولكنه لمصلحته، يعني إنسان مؤمن، لو الله عزوجل جعله مع سيدنا رسول الله لبدا منافقا، الآن مؤمن كبير، أما مع الصحابة الكرام يظهر منافقا، لحكمة بالغة جعله في آخر الزمان، لو جعله مع الأبطال لكان آخرهم، جعله مع المقصرين، فكان سابقهم، لمصلحته في هذا الزمان، إذاً لا أحد يتمنى، لو كنا مع رسول الله، لو كنا مولودين قبل مئة سنة،   

      هذا قول الإمام الغزالي:ليس بالإمكان أبدع مما كان، ليس بإمكاني أبدع مما أعطاني،  

      كون الإنسان له سكن معين، قد يكون حسن الصورة، قد يكون ذميم، طويل قد يكون قصير، صحته جيدة، صحته معلولة، معه التهب أمعاء مزمن، كبده ضعيفة، معه ضعف في البصر، معه قوة في البصر، عنده ذاكرة قوية جداً، كونك ولدت في المكان الفلاني، وفي الزمن الفلاني، ومن الأب الفلاني، ومن الأم الفلانية، وهذه البنية بكل تفصيلاتها، هذا قضاء من الله وقدر لا دخل لك فيه، ولكنه لمصلحتك قطعا،   

      لقوله تعالى:  (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

      فالإنسان يجب أن يعتقد، ويوقن أن وضعه، ليس في الإمكان أن يكون غير ما كان،   

      الله سبحانه وتعالى، علم ما كان، وعلم ما يكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وعلم مالم يكن لو كان كيف كان يكون،   

      يعني أنت ابن أب وأم فقيرين، علم ما لم يكن لو كنت ابن أم وأب غنيين، كيف كنت تكون، هناك حكمة بالغة، ربنا عزوجل، جميع الظروف التي لا دخل لك بها، جعلها مسخرة لمصلحتك، أحيانا ينشأ في حي فقير، أحيانا ينشأ في أسرة مترفة، لمصلحته، لا يهتدي إلا بهذه الطريقة، وقد لا يهتدي، إلا أن يكون يتيماً، لا أب له، يجعله في صلب رجل عمره قصير، فقط سنتان، مات أبوه، نشأ يتيماً، ضعيف، مقصوص الجناحين، لا يرى إلا الله سنده، فأول شيء الذي لا دخل لك به لمصلحتك، ليس في الإمكان أبدع مما كان، ليس في إمكانك أبدع مما أعطاك الله عزوجل، ارض عن كونك ولدت في المكان الفلاني، وفي الزمن الفلاني، ومن هذا الأب الفلاني، وهذه الأم الفلانية وبهذه البنية العقلية، والنفسية والجسمية، كله لمصلحتك، قولاً واحداً،  وقطعاً، هذا تسيير الكليات،   

ثانيا: تسيير تنفيذ:  

      هناك شيء آخر، الإنسان مسير، تسيير تنفيذ، كل اختياره، من يعينه على تنفيذ اختياره؟ الله سبحانه وتعالى،  

      يعني، العقرب لا تلدغ، والحية لا تلدغ، والنار لا تحرق، وفلان لا يؤذي، إلا إذا وافق الله عزوجل، فالإنسان يختار، لكن من ينفذ اختياره؟ الله عزوجل، بعضهم، قالوا غير ذلك، قالوا الإنسان خالق أفعاله، هذا شيء غير صحيح، الإنسان لا يخلق أفعاله، الإنسان يختار فقط، أما الذي يخلق الأفعال هو الله عزوجل، لأن:   

      (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )

      (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )

      (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )

      (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )

      (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ )

      هذه كلها أشياء تؤكد أن ربنا عزوجل، يسر الإنسان في تنفيذ مشيئته، توجد آية دقيقة توضح ذلك في سورة النساء قال تعالى:  (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [77] أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)   

تنفيذا، السيئة من عند الله تنفيذا، والحسنة من عند الله تنفيذا،تتمة الآية:  (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً )

      اسمع الآية الثانية بعدها مباشرة: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً )

      أنت لك أن تختار، والفعل بيد الله، يعني، إذا قلنا أن المعلم رسَّب هذا الطالب، من وقع قرار الرسوب؟ المعلم، من وقع الجلاء؟ المعلم، من قال يرسب في صفه؟ المعلم، إذا قلنا، الطالب رسب كذلك صحيح، إذا قلنا الطالب رسب سببا وعلة، وقلنا المعلم رسبه تنفيذا وتحقيقا، فالإنسان يختار والله ينفذ، الإنسان يختار، ورب العالمين ينفذ، إذاً هناك تسيير تنفيذ.  

ثالثا: تسيير تنسيق:  

      هناك تسيير من نوع ثالث، تسيير تنسيق، يعني هذا اختار أن يسرق، الله عزوجل سيره لإنسان ماله حرام، هذا اختار يؤذي، الله عزوجل سيره لإنسان يستحق الأذى، هذا اختار ينفع، الله عزوجل سيره لإنسان يستحق النفع، هذا تسيير تنسيق، هناك تسيير كليات، وتسيير تنفيذ،   

رابعا: تسيير كشف:  

      هناك تسيير كشف، ربنا عزوجل، يسير الإنسان لظروف محددة، يكشف حقيقته، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)  

      يقول لوالدته، والله لو أتزوج يا أمي حتى أخدمك أنا وزوجتي، هذا كلام، الله عزوجل، يسوق له ظروف، بيت لا يوجد، سكن مع والدته، عمل عملا مع والدته لا يحتمل، أين كلامك الماضي؟ كله أصبح كذباً، هذا تسيير كشف، ربنا عزوجل كشف له حقيقته، لك أن تقول ما شئت والله عزوجل يسيرك تسييراً يكشف حقيقة ما تقول، لو عندي مال أتصدق بالشهر مئتي ليرة، يبعث لك مئات الألوف، مالنا وللناس، لكل واحد رب يكفيه، يكفي العباد الرب، أنت لم تقل هذا سابقاً، قلت لو أن الرب يعطيك مالا تتصدق، يسير لك تسيير كشف، يكشف لك حقيقتك، الله يعرفها لكنه يحب أن يعرفك بها،  

خامسا: تسيير تشجيع:  

      هناك تسيير تشجيع، لما الإنسان يختار طريق الحق، ربنا عزوجل يشجعه، يبعث له توفيقات، يبعث له شيء ليس على باله، فيها رزق جيد، ينوي الزواج، ويترك الزنى يؤمن له بيتا، كيف ما أعرف، لكن يتدبر، يبعث له عملا إضافيا، هذا تسيير تشجيع، اختار أن يعرف الله عزوجل، يبعث له أعمالا خفيفة، تسمح له بوقت فراغ أن يتعرف إلى الله، إذا ما يرد الله، يبعث له عملا ثمانية عشر ساعة في اليوم، يقول لك، أفيق على الشغل، وأنام على الشغل، قلبي معمي بالشغل، لا تريد الله أنت، لو أنك تريد الله، لبعث لك عملا فيه وقت فراغ قليلا، فلما الإنسان لا يكون عنده طلب لله عزوجل، تجد عمله يغمره، يشتغل حتى تأتيه أزمة، تودي به إلى القبر، أما إذا إنسان طالب لله عزوجل، يهيئ له عملا يتناسب معه،   

      ربنا عزوجل قال:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )

      أربع توكيدات بالآية، اللام لام التوكيد، لنهدينهم، والنون نون التوكيد الثقيلة، وإن من معانيها التوكيد، وإن الله لمع المحسنين، اللام للتوكيد، أربع توكيدات في أربع كلمات،   

سادسا: تسيير معالجة أو قصم:  

      وهناك تسيير معالجة،   

      أحيانا الإنسان يختار شيئا لا يريده الله عزوجل، ويصرُّ عليه، فيقصمه الله عزوجل، سيدنا سراقة أراد أن يقتل النبي عليه الصلاة والسلام، وينال الجائزة، مئة ناقة، أصر على هذه النية، فالله سبحانه وتعالى قصمه، يعني، رجلا الفرس ساخت في الأرض، فوقع عنها، ظن أنها تعثرت، مرة ثانية، مرة ثالثة فوقف، فقال هذا الرجل ممنوع مني، أيام الإنسان يصر على شيء لا يريده الله عزوجل، يأتي ربنا عزوجل، فيقصمه قصما،   

سابعا: تسيير تعليم:  

      وربنا عزوجل يسير الإنسان ليعرفه بنتائج الطاعة، إذا تحرى الدخل الحلال، يوفقه في عمله، يأتيه دخل فيه بحبوحة، يعني سمعت أن شخصا ترك مبلغا فيه شبهة، الله بعث له أضعاف أضعافه، هذا تسيير إلهي، إذا الإنسان ترك الربى، الله يبارك له بماله، اقترف الربى، يمحق له ماله، هذا تسيير تعليم،   

      قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ )

       يعني يعرفك بنتائج الطاعة، ونتائج المعصية، الطاعة هذه نتائجها والمعصية هذه نتائجها، فهذا تسيير الله عزوجل، تسيير تنفيذ، تسيير تنسيق، تسيير كشف، تشجيع، معالجة، قصم، تعريف، الإنسان مسير،   

التسيير مبني على الاختيار:  

      ملخص الملخص، مسير لما اختار،   

      إذا أردت أن أبسط الأمور، وأن لا أعقدها عليكم، الطالب مخير في الليل أن يدرس، أو أن لا يدرس، لكن صباحا حينما يُطلب منه فتح الوظيفة، قد يعاقبه المعلم، ما عاد مخيرا بقبول العقاب أو رفضه، صار مسيرا للعقاب، يعني هذا التسيير، بُنيَ على اختياره، لما الإنسان يدخل بيتاً، مخير أن يسرق، أو ألا يسرق، فإذا سرق وقتل، فقد اختياره، صار مسيرا لحبل المشنقة، ما عاد مختارا، إذاً الإنسان مسير لما اختار،   

      هذه التفصيلات كلها يمكن أن نلخصها بكلمة، الإنسان مسيّر، ومخيّر، مسيّر لما اختار، يختار، فيسيره الله باختياره، مع المعالجة، مع التشجيع، مع التنبيه، مع التحذير، مع التضييق.   

مواضيع ذات صلة:  

      هناك عدة موضوعات جانبية لابد من بحثها مع هذا الموضوع.  

أولا: ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله عزوجل:  

      ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله عزوجل،  (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [29] وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً )

      ما علاقة مشيئة الله عزوجل بمشيئة الإنسان؟ يعني أنتم أيها العباد، اختاروا ما شئتم، مشيئتكم مشيئة اختيار، لكن مشيئة الله عزوجل مشيئة فحص واختبار،   

      يدخل أحدهم محل سجاد، سجادة حقها سبعون ألفا، وهو معه حقها، لكن ليس صادقا في شرائها، ليس معتمدا، هناك حالة ثانية، صادق، لكن ليس معه ثمنها، لا يمكن أن تشتري هذه القطعة إلا بشرطين، أن تكون مريدا لشرائها أولا، وأن تملك ثمنها ثانيا، فلما الإنسان يختار الجنة، ربنا عزوجل يفحص له اختياره، يفحص ما إذا كان صادقا أو كاذبا، وما إذا كان دافعا للثمن أو غير دافع، صادق أو كاذب، دفع الثمن أو ما دفع، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [29] وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً )

      مشيئة الله عزوجل، مشيئة فحص، واختبار، للإرادة والثمن، أنت مريد صادقا بهذه الإرادة، دفعت الثمن؟ يسمح الله، أقرب تمثيل للحادثة، طالب أخذ بكالوريا، راح على الجامعة، أخذ استمارة، جمع مئة وخمسة، كتب طب بشري، هو اختار الطب، لكن هناك جامعة، هناك إدارة للجامعة، فحصوا الطلب، وجدوا علاماته لا تسمح له بذلك، مع الرفض، مشيئة الجامعة، رفضت مشيئة الطالب، لو حصّل مئتين وثلاثين، مع الموافقة، فمشيئة ربنا عزوجل، مشيئة فحص واختبار، لا مشيئة قهر وتعسُّفٍ،   

      فإذا ربط الله عزوجل مشيئة الإنسان بمشيئته، فليس معنى ذلك أن الإنسان قد يشاء الهدى، والله لا لسبب لم يشأ له الهدى، هذا كلام من لا يعرف الله عزوجل، كلام الجهل، مشيئة الله، ليست تعسفية، ليست غير مبررة، مشيئة الله عزوجل مشيئة فحص واختبار، دفع الثمن، علاماته جيدة، المواد جيدة، لائق صحياً، مع الموافقة، طلبت الهدى أين الاستقامة؟ الثمن الاستقامة، لست مستقيما، هذا ليس هدى، هذا طلب فيه كذب، فربنا عزوجل، ربط مشيئة الإنسان بمشيئته، ليفحص هذه المشيئة، ويعطيها ما تستحق،  (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [29] وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً )

      والدليل:إنه كان عليما حكيما،  (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)  

      الإنسان عند هذه الآية، يا ترى هل سينالني دور أم لا؟، لست أعرف، كَمَّل ربنا قال: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً )

      معناها، أدخل ربنا المنصفين، أدخل الصالحين، وترك الظالمين.  

      أريد أن أقول لكم كلمة: لو أن الله أراد أن نؤمن جميعاً: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)   

      لو شاء ربك لهدى الناس جميعاً، العملية سهلة جداً، الهدى القسري سهل جداً، لكن لا يكون هذا الهدى مسعداً إطلاقاً.  

      إن رئيس جامعة فكّر، وقال: سوف اجعل نسب النجاح مئة بالمئة، ما شاء الله، كيف ذلك؟ قال: سأوزع على الطلاب أوراق الإجابة التامة، وعلى اليسار طبعت علامة مئة بالمئة، نجمع الطلاب في قاعة ونعطيهم الأوراق، نقول للطالب: اكتب اسمك فقط، واخرج، والنتيجة أن جميع الطلاب ناجحون، وكلهم أوائل بامتياز، لكن ما قيمة هذا النجاح عند الناس؟ لا قيمة له، ولا قيمة لهذا النجاح عند الطلاب، ولا قيمة لهذا النجاح عند رئاسة الجامعة، فالهدى القسري لا قيمة له أبداً.  

      تصور وقد يكون هذا المثلُ طريفًا: لو أن كل إنسان نظر إلى فتاة يفقد بصره، ماذا يفعل الملحدون، يغضون البصر، الملحد يخاف على عينه،   

      أساساً الأقوياء يطاعون هكذا، أقوياء الأرض وطغاة الأرض يطاعون مئة بالمئة، هل هذه الطاعة طوعية؟ إنه مقهور مجبور، ولو أن الله أراد أن يجبرنا على الطاعة فالقضية سهلة جداً، لكن هذا الإجبار على الطاعة لا قيمة له إطلاقاً، لا يقدم ولا يؤخر، ولا يسعد ولا يرقى بالإنسان، الذي يرقى بالإنسان أن يأتي الله مختاراً، أن يأتيه طائعاً، أن يأتيه بمبادرة منه، أن يأتيه عن محبة، كأن الله عز وجل  أراد أن تكون العلاقة بينه وبين عباده علاقة حب: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)   

      ولك أن تفهم جميع الآيات التي في مضمون: ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً في هذا المعنى، هذا الهدى القسري لا قيمة له إطلاقاً، ولا يرقى بك، ولا يسمو بك، ولا يسعدك، أما الذي يسعدك أن تمر أمامك فتاة، وبإمكانك أن تملأ عينيك من محاسنها، لكنك خوفاً من الله، ومحبة له، وطاعة له تغض البصر عنها، وتقول: إني أخاف الله رب العالمين، وبإمكانك ألا تصلي، لكن الوقت شتاء، والبرد شديد، والفراش وثير ودافئ، وسمعت أذان الفجر، جسمك يدعوك أن تبقى نائماً، لكنك تنزع عنك الغطاء، وتقوم إلى الوضوء وتصلي، أنت مختار، أرادك أن تأتيه مختاراً، أرادك أن تأتيه طائعاً، أراد أن تأتيه بمبادرة منك، أراد أن تكون علاقتك به علاقة حب، علاقة ود.  

      من هنا كان البشر عباداً أو عبيداً، العباد جمع عبد الشكر، والعبيد جمع عبد القهر، كل واحد عبد لله، حتى الملحد، حتى الكافر، حتى العاصي، حتى الفاجر، ومعنى عبد أنه في قبضة الله، في أي لحظة يتجمد الدم في إحدى أوعية الدماغ، وقد كان بأعلى درجة من الحيوية والنشاط فيقع في الأرض من الشلل، فيفقد النطق، فيقال لك: خثرة في الدماغ، سكتة دماغية، في أي لحظة يضيق الشريان فيشعر الإنسان بذبحة صدرية، بأي لحظة تنمو الخلايا نمواً عشوائياً، وهذا مرضٌ تحدى أهل الأرض، وهم في أعلى درجة من التقدم، الورم الخبيث حتى الآن مرض عضال لا دواء له، أنت في قبضة الله، أنت بهذه الطريقة عبد قهر، وإذا فكر الإنسان في هذا الكون تعرف على الله، أقبل عليه، أحبه، قرأ كتابه، أدى عباداته، عمل أعمالاً صالحة لخدمة خلقه، هذا عبد جمعه عباد: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)   

      (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)  

      والعبيد جمع عبد القهر، والعباد جمع عبد الشكر.  

      أنت مخير، ولولا أنك مخير فلا قيمة لعملك إطلاقاً، ولو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.  

ثانيا: علم الله بما سيختار الإنسان لا يؤثر في سلوكه:  

      موضوع آخر له علاقة بهذا البحث، وهو أن علم الله بما سيختار الإنسان لا يؤثر في سلوكه، يعني الله عزوجل ما أكره أحدا على اختيار شيء معين، يعني من باب التشبيه والتمثيل والتوضيح، إنسان واقف بشرفة مطلة على ساحة  فيها مجموعة طرق ومنافذ، في هذه الساحة رجل، اختار أحد هذه ومشى فيه، هذا الذي وقف في الشرفة، وعرف أين ذهب فلان، هل أثر في اختياره؟ لا ما أثر، يعني علم الله عزو جل، لا يؤثر في اختيار الإنسان، الله يعلم، كيف؟ لا نعرف، هذا شيء مما اختص الله به، الله يعلم، ولكن علمه لا يؤثر في نوع اختيارنا، علمه ليس ملزما، لم يلزمك بأن تختار، ولكنه يعلم ما تختار، فقط،   

ثالثا: معنى الإضلال:  

      شيء آخر، معنى الإضلال عند البعض غير واضح،   

أولا: الإضلال الجزائي من الله مبنيٌّ على ضلال اختياري من العبد:  

      (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )

      هذا الإضلال إذا عزي على الله عز وجل  فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، الدليل: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )

      لما زاغوا عن منهج الله اختياراً أزاغ الله قلوبهم فعلاً.  

      للتوضيح: طالب في الجامعة ما داوم ولا ساعة، ولا اشترى الكتب، ولا قدم امتحانا، جاءه إنذار أول فلم يستجب، إنذار ثانٍ فلم يستجب، إنذار ثالث فلم يستجب، صدر قرار من إدارة الجامعة بترقين قيده، هذا القرار فيما يبدو ترقين القيد إلغاء تسجيله، أليس هذا القرار تجسيداً لاختيار الطالب حينما لم يداوم، ولم يلتحق، ولم يشترِ الكتب، ولم يقدم الامتحان؟ قرار ترقين القيد تجسيد لاختيار الطالب: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )

      فلما اختاروا الضلال كتب الله عز وجل عليهم الضلال، فالضلال إذا عُزِي إلى ذات الله: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)

      إذا عزي على الله عز وجل فهو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياره، شاهده الدقيق والقوي: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )

      في اللغة العربية قواعد دقيقة، هذه القواعد فعل أفعل، أغفل، لا يعني أنه خلق الغفلة فيهم، بل يعني أنه وجدهم غافلين: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)   

       نقول: عاشرت القوم فما أجبنتهم، ما وجدناهم جبناء، عاشرت القوم فما أبخلتُهم، ما وجدتُهم بخلاء: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)   

      أيْ: مَن وجدناه غافلاً فقط، إذا عزي فعل الضلال إلى الله عز وجل فهو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.  

ثانيا: الإضلال الحُكمي:   

      شيء آخر، أنت ذاهب إلى مدينة ولا يوجد لافتات، وصلت إلى مكان فيه طريقان: طريق يمين وطريق يسار، وأنت في حيرة، وأمامك إنسان واقف، قلت له: مِن فضلك أيّ الطريقين إلى المدينة ؟ قال: الطريق الأيمن، قلتَ له: جزاك الله خيراً، قال لك: انتظر، بعد خمسة كيلومترات تقاطع خطر، وبعد سبعة كيلومترات ممر زلق، وبعد كذا كيلو متر جسر ضيق، أعطاك معلومات دقيقة جداً، فأنت ازددت له شكراً، أما لو وصل غيرُك إلى هذا المفترق، وأمامه الإنسان نفسُه واقفا قال له: بالله عليك مِن أين الطريق إلى المدينة؟ قال: مِن الطريق الأيمن، قال له: أنت كذاب! هل بإمكان هذا الإنسان أن يعطيه التفصيلات، رفضت مشورته كلياً، هنا الإضلال السلبي، أنت حينما أعرضت عن الدين كلياً فكل تفاصيل الدين بَعُدت عنك، وكأن الله أضلك، بمعنى أنه مَنَعك من تفاصيل كانت تسلمك وتسعدك، هذا معنى آخر من معاني الضلال.  

      أيها الإخوة الكرام، إذا عزي فعل الضلال إلى الله عز وجل فهو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، وعندنا إضلال حكمي، فحينما رفضت الدين أصلاً مُنِع منك كل التفاصيل التي يمكن أن ترشدك إلى الحق، وحينما رفضت الدين كله أصلاً مُنِع منك بعد أن قلت: أنت كاذب، لهذا الدليل الذي معه معلومات دقيقة جداً، كان من الممكن أن تنتفع بها، لكنك رفضت مشورته وعلمه كلياً، فمُنِعتَ من كل التفاصيل التي يمكن أن تنقذك مما أنت فيه، هذا الضلال حكمي.  

ثالثا: إضلالُ العبادِ عن الشركاءِ:  

      عندنا ضلال آخر، الله عز وجل يضل العباد عن شركائه: (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا )

حينما تعلق الأمل على إنسان، وتنسى الواحد الديان، الله عز وجل بشكل واضح يضلُّك عنه، أو يضلّه عنك، يخيب ظنك، عقدت الأمل على إنسان قوي وقريب لك، ونسيت الله عز وجل، الله عز وجل يضلك لمصلحتك، أي يلهمه أن يتخلى عنك، وأن يتنكر لك، هذا إضلال من الله، أضلك عنه، وأضله عنك، غيرة عليك.  

      الصحابة الكرام هم قمم البشر، في حُنين وجدوا أنفسهم عددًا كبيرًا لم يسبق في الجزيرة أن اجتمع عشرة آلاف إنسان، فقالوا مطمئنين: لن نُغلَب اليومَ مِن قِلَّة، اعتمدوا دون أن يشعروا على كثرتهم، الله عز وجل أضلَّهم عن كثرتهم، ولم ينتفعوا بكثرتهم: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَم تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)   

      هذا ضلال آخر، هذا ضلال لمصلحة التوحيد، حينما تتوهم جهة قوية تعتمد عليها، وتنسى الواحد الديان يلهم اللهُ هذه الجهةَ القوية أن تتخلى عنك، وأن تتنكر لك، تأديباً لك على هذا الشرك الخفي، وهذا أيضاً نوع من أنواع الإضلال، الإضلال عن الشركاء، وأيّة جهة تعتمد عليها، وتثق بها، وتنسى الله عز وجل يلهمها أن تتنكر لك.  

      قال لك صديق حميم: أنا بخدمتك، فاطمأننتَ، وقعتَ في مشكلة، دخلت عليه فتجهم في وجهك، لم يقل لك: تفضل اجلس، ما الموضوع؟ أنا في مشكلة، قال لك: لا علاقة لي، هذا شيء خلاف صلاحياتي، أعتذر، أنت تُصعَق، هذا ضلال آخر من أجل التوحيد.  

القضاء والقدر  

      النبي الكريم، سئل عن بعض الموضوعات المتعلقة بالقضاء والقدر، فكان بليغا إلى أقصى الحدود، ما أجاب عن هذا السؤال، ولكن مثَّل تمثيلا، رأى امرأة تقبل ابنها، فقال: أتلقي هذه المرأة بولدها إلى النار، قالوا معاذ الله، قال: والذي نفس محمد بيده، َللَّه أرحم بعبده من هذه بولدها.  



المصدر: العقيدة والإعجاز - الدرس (28-36) مقومات التكليف : الاختيار -1- الإنسان مسير ومخير -1- الإنسان مخير في حمل الأمانة