بحث

الإنسان والعقل

الإنسان والعقل

بسم الله الرحمن الرحيم

     العقل الصريح هو من مقومات التكليف، وإنّ الآيات التي تذكر العقل ومشتقاته، وما يتصل به تقترب من ألف آية، قال تعالى:  ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾  وقد أودع الله في الإنسان العقل، وهو قوة إدراكية، وهو حاجة عليا للمعرفة، وما لم تلبَّ هذه الحاجة يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به أبداً، ما لم تلبَّ هذه الحاجة العليا، ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة، ما لم يبحث عن سر وجوده، ما لم يبحث عن غاية وجوده، ما لم يبحث عن الرسالة التي حمله الله إياها، ما لم يبحث عن التكاليف التي كلفه الله إياها، ما لم يسأل من أين وإلى أين، ولماذا، ما لم يتفرغ لمعرفة الحقيقة، ما لم يطلب العلم يهبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به  ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾. <<  الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم >>. هذا كلام سيدنا علي. هذا العقل ما هو؟ هو مجموعة مبادئ. 

     المبدأ الأول: مبدأ السببية، إذ إن عقلك لا يمكن أن يفهم شيئا بلا سبب، إذا أقفلت باب بيتك، وليس أحد يملك مفتاحا آخر، وسافرت، وأطفأت المصابيح، فلما رجعت رأيت عن بٌعد النوافذ وراءها ضوء، تقلق قلقاً لا حدود له، لأن عقلك لا يمكن أن يصدق أن هذه المصابيح تألقت من ذاتها، هذا العقل لا يفهم شيئاً إلا بسبب. 

     المبدأ الثاني: مبدأ الغائية، كذلك لا يفهم شيئاً بلا غاية، لماذا وضع هذا الشيء في هذا المكان، ما الغاية؟ فالعقل البشري لا يفهم شيئاً بلا سبب، ولا يفهم شيئاً بلا غاية. 

     المبدأ الثالث: عدم التناقض: ولا يقبل التناقض، هل تصدق أنه في الساعة الثامنة مساءً إنسان موجود في مكانين مختلفين بآن واحد، مستحيل العقل يرفض التناقض.  

     الشيء الرائع أن أصل قوانين الكون أصلها سببية وغائية وعدم التناقض، ولولا التطابق التام بين مبادئ العقل وقوانين الكون لتعطل العقل عن مهمته الكبرى، وهي معرفة الله عز وجل، إذاً: الله عز وجل عن طريق مبدأ السببية يأخذك برفق إلى ذاته، هو مسبب الأسباب، وعن طريق مبدأ الغائية يأخذك برفق إلى الغايات التي تتوخاها مما حولك. البقرة كمية الحليب التي تقدمها كل يوم تفوق عشرة أضعاف حاجة وليدها، لمن الحليب؟ لنا، قال تعالى:  ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ لو تابعت هذا الموضوع مبدأ السببية، مبدأ الغائية، مبدأ عدم التناقض، لرأيت أن العقل أداة معرفة الله، والشيء الرائع أن توافق مبادئ العقل مع قوانين الكون هو الذي جعل للعقل فاعلية عالية جداً 

     لكن العقل مهمته محدودة، كيف؟ تماماً كمحل تجاري يبيع مواد غذائية، فيه ميزان، لكنه ميزان راقٍ جداً، وغالٍ جداً، فيه ذواكر، هذا الميزان على أنه بمستوى رفيع جداً، لكن مهمته محدودة، يمكن أن تستخدمه بين خمس غرامات وخمسة كيلوات، لو أردت أن تزِن بهذا الميزان مركبتك، وضعته على الأرض، وسرت فوقه لحطمه، هل لك أن تقول: ليس جيداً لأنه تحطم، نقول لك لأنك استخدمته بخلاف ما صنع له مهمته محدودة هذا يقودنا إلى أنه في ميزان. 

     دائرة المحسوسات، ودائرة المعقولات، ودائرة الإخباريات، المحسوسات أداة اليقين بها الحواس الخمس، المصباح متألق، صوت المروحة مسموع، هذا اللون بني، هذا خشب محفور، كل شيء مادي أداة معرفته الحواس الخمس، هذه الدائرة لا خلاف فيها إطلاقاً. ولكن الدائرة الثانية دائرة المعقولات، الدائرة التي أداة اليقين بها العقل، العقل مهمته أن يرى شيئاً مادياً، أو يرى آثار شيء مادي يحكم عليه من دون أن يراه، يرى دخانا من وراء جدار فيقول: لا دخان بلا نار، هذه مهمة العقل، شيء غابت ذاته، وبقيت آثاره أداة اليقين به هو العقل، أما إذا غابت ذات الشيء وآثاره معاً فالعقل يتعطل، لا وظيفة له، هذه الدائرة الثالثة دائرة الإخباريات، ما بعد الموت من دائرة الإخباريات، الملائكة، الإيمان بالملائكة من دائرة الإخباريات، هناك شيء ظهرت ذاته وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، وشيء غابت ذاته، وبقيت آثاره، أداة اليقين به العقل، وشيء غابت عينه وآثاره أداة اليقين به الخبر الصادق، بطولتك أن تضع أي قضية في الدين مكانها الصحيح، أما حينما تريد أن تناقش الدائرة الثالثة بعقلك فإن عقلك يرتبك. أنت أحياناً تدخل إلى بناء جامعة، هو بناء فخم بحدائق غناء، ومدرجات رائعة، فيها كواتم للصوت، فيها مقاعد وثيرة فيها أبنية للطلبة، وأبنية إدارية، ومخابر، ومدرجات، وقاعات، ومسرح، هذا كله تدركه بعقلك، ولكن هل تستطيع أن تعرف من هو رئيس الجامعة؟ مستحيل، مَن هم عمداء الكليات، مستحيل، ما النظام الداخلي في قبول الطلاب وفي نجاحهم وفي طردهم وفصلهم، مستحيل، العقل وحده لا يكفي، لا بد من النقل، فعندنا عقل، وعندنا نقل. أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به.  

     هذه العين مهما تكن حادة البصر، فلا قيمة لها إطلاقاً من دون نور يتوسط بينك وبين المرئيات، فلو جلس إنسان أعمى مع إنسان حاد البصر في غرفة ليس فيها نور يستويان تماماً، فكما أن العين لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين المرئيات فالعقل لا قيمة له من دون وحي يرشده، فالضوء للعين كالوحي للعقل، لذلك قال تعالى:  ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾  معنى ذلك أن العقل البشري من دون وحي السماء يضل ويزل، وينحرف، وهذا الذي نعانيه مع الحضارة الغربية، عقل فقط، هم يعملون في ظلام دامس، والمسلمون نائمون في ضوء الشمس. 

     الآن هناك عقل صريح، وهناك عقل تبريري، العقل الصريح يقودك إلى الحقيقة، لكن العقل التبريري تستخدمه لغير ما صنع له، كيف؟ من الممكن أن تقتني آلة تصوير غالية الثمن جداً، ويمكن إذا استخدمتها في تصميم الأغلفة والبطاقات والتقاويم والمذكرات أن تربح أرباحاً طائلة، لكنك استخدمتها لتزوير العملة، فدخلت السجن، الآلة نفسها إما أن تستخدمها في أعمال فنية تجارية رائجة ذات أجر عالٍ جداً، وإما أن تستخدمها في عمل يحرمه القانون، فتكون هذه الآلة سبباً في دخول السجن، فالعقل من دون وحي قد يكون سبباً لهلاك صاحبه، قال تعالى:  ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ﴾ الناصية مقدمة الرأس، مكان اتخاذ القرار، مكان المحاكمة، ناصية كاذبة خاطئة، فحينما يتخذ الإنسان قرارا خاطئا يكون عقله هو السبب. للتقريب: عند إنسان بيت غالي الثمن، وفي جيبه جهاز يكشف له التزوير، باع هذا الإنسان بيته بسعر غالٍ جداً، وفي جيبه جهاز لكشف العملة المزورة، ولم يستخدمه، هذا العقل، في جيبه الآخر أرقام العملات المزورة، هذا الشرع، فلا استخدم عقله، ولا رجع إلى الشرع، ففوجئ أن العملة كلها مزورة فضاع بيته، وهو السبب في ذلك. 

     العقل الصريح هو العقل الذي يقودك إلى الخير، إلى الإيمان بالله، إلى طاعة الله، إلى خدمة الخلق، إلى الإقبال على الله، وأما العقل التبريري فكأن تحتل بلداً، وتزعم أنك احتلته من أجل الحرية والديمقراطية، فإذا الواقع عكس ذلك، نهب للثروات، وقتل للبشر بلا حساب، لذلك أخطر شيء العقل التبريري، هذا عقل ساقط محتقر، يغطي الشهوات، يغطي الانحرافات، يغطي التفلت، وكلما جلست مع إنسان عاص، واستمعت إلى تبرير أعماله فهو يستخدم عقله التبريري، وكلما التقيت مع إنسان عاقل مستقيم مؤمن يستخدم عقله الصريح، لذلك الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط خط النقل الصحيح وخط العقل الصريح وخط الفطرة السليمة وخط الواقع الموضوعي. 

     الآن مع العقل والمنهج، أيعقل أن يعلَّم الإنسان القرآن قبل أن يخلق أيعقل؟ كيف هو تفسير الآية  ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ ؟ إنّ ترتيب الآية ترتيب رتبي، وليس ترتيباً زمنياً، فلا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه، لذلك القرآن هو المنهج، كآلة غالية الثمن، عظيمة النفع، معقدة الصنع، الشركة التي اشتريتها منها نسيت أن ترسل لك تعليمات، فأنت إذ استخدمتها من دون تعليمات أعطبتها، وإن خِفتَ عليها جمدت ثمنها، أليست التعليمات أهم من الآلة، فجاء تعليم القرآن مقدماً على خلق الإنسان تقديماً رتبياً لا تقديماً زمنياً.  

     العقل يمكن أن يصل بك إلى الله، ولكن لا يمكن أن تحيط بعقلك بالله عز وجل ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ كمركبة أقلتك إلى شاطئ البحر لكنك بهذه المركبة الأرضية لا تستطيع أن تخوض بها عباب البحر، فأنت بعقلك وصلت إلى الله، أما إذا أمرك الله بأمر فينبغي أن تنصاع له. العقل كحياتنا فيها خطوط حمراء، كذلك أمام العقل خطوط حمراء، لكن أبرز هذه الخطوط:  ((تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا)) إنّ العقل أعجز من أن يتفكر في ذات الله كما قلت قبل قليل، والعقل موضوعه مادي، وذات الله لا يمكن أن يحيط به عقل، لذلك من أعمل عقله في ذات الله ربما هلك، وربما اختل. 



المصدر: العقيدة والإعجاز - مقومات التكليف - الدرس : 07 - العقل -1- العقل أداة لمعرفة الله ـ العقل وعلاقته بالنقل