بحث

الإنسان والعقل

الإنسان والعقل

بسم الله الرحمن الرحيم

      العقل، وهو أصل من أصول الكبيرة في الإنسان.  

العقل في القرآن:  

      بل إنّ الآيات التي تذكر العقل ومشتقاته، وما يتصل به تقترب من ألف آية،   

      قال تعالى:  

      (أَفَلَا يَعْقِلُونَ)   

      (أَفَلَا يَنْظُرُونَ)   

      (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ )  

الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك:  

      كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وأن الإنسان ينبغي أن يلبي حاجة العقل، وحاجة العقل العلم، وينبغي أن يلبي حاجة القلب، وحاجة القلب الحب، كما ينبغي أن يلبي حاجة الجسم، وحاجة الجسم الطعام والشراب، فالذي يلبي هذه الحاجات الثلاث يتفوق، والذي يلبي حاجة دون الثانية يتطرف، والفرق كبير بين التفوق والتطرف،   

      الإنسان نفس هي ذاته، هي المخاطَبة، هي المعاتبة، هي التي تؤمن، هي التي تكفر، هي التي تسمو، هي التي تسفل، هي التي تحب، هي التي تبغض، هي التي تشكر، هي التي تكفر، هي التي تنصف، هي التي تجهد، نفس الإنسان ذاته، لا تموت، ولكنها تذوق الموت، والموت يعني أن تنفصل ذات الإنسان عن الوعاء الذي هي فيه، وهو الجسد، عن طريق توقف الإمداد الإلهي، وهي الروح، الروح هي الإمداد الإلهي.  

      للتقريب: كالكهرباء في الآلة، يتوقف الإمداد الإلهي، وتنفصل ذات الإنسان عن الوعاء، وهو الجسم، فيكون الموت، ولا يغيب عن أذهانكم أن هذا المصباح الكهربائي إما أن نقطع عنه الكهرباء فيكون الموت، وإما أن نحطمه، والتيار واصل، فيكون القتل، الموت انقطاع الإمداد، أما القطع فتخريب الجسم بحيث لا يستطيع أن يستقبل الإمداد الإلهي، فيكون الموت للجسد.  

      على كلٍّ، البطولة أن تعتني بنفسك، لأنها خالدة، لكنه مع الأسف الشديد الحضارة الغربية بكل إنجازاتها تعتني بالجسد فقط، وتنتهي إنجازات الحضارة الغربية عند الموت، بينما إنجازات الحضارة الإسلامية تبدأ مع الولادة، ولا تنتهي، ولا إلى أبد الآبدين.  

      هناك حقيقة دقيقة،   

      قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ   

      النفس البشرية تذوق الموت.  

 العقل قوة إدراكية لا بد من تلبية حاجاتها:  

      أيها الإخوة الكرام، أودع الله في الإنسان العقل، وهو قوة إدراكية، وهو حاجة عليا على المعرفة، وما لم تلبَّ هذه الحاجة يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به أبداً، ما لم تلبَّ هذه الحاجة العليا، ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة، ما لم يبحث عن سر وجوده، ما لم يبحث عن غاية وجوده، ما لم يبحث عن الرسالة التي حمله الله إياها، ما لم يبحث عن التكاليف التي كلفه الله إياها، ما لم يسأل من أين وإلى أين، ولماذا، ما لم يتفرغ لمعرفة الحقيقة، ما لم يطلب العلم يهبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به. الناس رجلان: عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما،  

      يا بني، العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني، مات خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة  

      قال سيدنا علي رضي الله عنه:  

      الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم  

      إذاً: العقل قوة إدراكية، وما لم تلبَ هذه القوة الإدراكية يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته، ويقترب من البهيمية،   

      لذلك قال تعالى:أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ  

      قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً   

      كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ  

      وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ   

      أيها الإخوة الكرام، لا يمكن أن تؤكد ذاتك إلا إذا طلبت العلم لا يمكن أن تؤكد إنسانيتك إلا إذا طلبت العلم.  

العقل مجموعة مبادئ:  

      أيها الإخوة، هذا العقل ما هو؟ هو مجموعة مبادئ.  

الأول: المبدأ الأول: السببية:  

      إذ إن عقلك لا يمكن أن يفهم شيئا بلا سبب، إذا أقفلت باب بيتك، وليس أحد يملك مفتاحا آخر، وسافرت، وأطفأت المصابيح، فلما رجعت رأيت عن بٌعد النوافذ وراءها ضوء، تقلق قلقاً لا حدود له، تقول لك زوجتك: لماذا أنت قلق؟ من دخل إلى البيت؟ لأن عقلك لا يمكن أن يصدق أن هذه المصابيح تألقت من ذاتها،   

      هل يصدق عقلك أن طائرة من أحدث الطائرات صنعت في مستودع حديد، وضعنا فيه الديناميت، وفجرنا الديناميت، فإذا بطائرة، هل هناك واحد بالمليار وخمسمئة مليون إنسان يقبل هذا؟ الطائرة نتيجة خبرات مئة عام ومهندسين وخبراء، وخبراء بالقوانين وبالفيزياء والكيمياء، وبالفلك والجو والآلات، وبالحركة، ومقاومة الرياح، وأموال طائلة، معقول طائرة تنتج من انفجار لمستودع حديد؟   

      ائت إلى مطبعة فيها حروف، وفيها حبر، وفيها ورق، ضع فيها قنبلة، وانتظر أن تجد قاموسا رائع جداً من ألف صفحة، الأفعال مرتبة، أسماء الأفعال، المضارع، عين المضارع، الأفعال بالأحمر، الشرح بالأخضر، أو قاموس أعلام، هل هذا ممكن؟ ممكن أن يحدث انفجار بمطبعة فيها حروف، وفيها حبر، وفيها ورق، فينتج قاموس؟ مستحيل.  

      لذلك العقل لا يقبل شيئًا بلا سبب، سبحان الله، والكون فيه نظام السببية، فكأن الله يأخذك بلطف، أن لكل شيء سبباً، وهذا المسبب له سبب، وهذا المسبب له سبب، إلى أن تصل إلى مسبب الأسباب.  

      في العقل إله عظيم يأخذ بيدنا إليه، من هو مسبب الأسباب؟ الله جل جلاله، نظام السببية أساسه أن الله عز وجل عن طريق هذا النظام في خلقه، وعن طريق هذا القانون في عقلك يأخذك إليه بلطف، الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، أول دجاجة من خلقها؟ هو مسبب الأسباب.  

      هذا العقل لا يفهم شيئاً إلا بسبب.  

ثانيا: المبدأ الثاني: الغائية:  

      كذلك لا يفهم شيئاً بلا غاية، لماذا وضع هذا الشيء في هذا المكان، ما الغاية؟   

      لماذا الدماغ في الجمجمة؟ لأنه أخطر جهاز في الإنسان، حساس جداً، ولماذا بين الدماغ والجمجمة سائل لامتصاص الصدمة، رواد الفضاء صمموا مركبات الفضاء فقلدوا الدماغ، الكبسولة التي فيها الرواد بينها وبين جسم المركبة سائل، فحينما يكون ارتطام في طبقة الهواء هذه الصدمة توزَع على كامل الجسم، والآن قد يقع طفل على الأرض تسمع لصوت رأسه مع البلاط رنينا، ومع ذلك لا يتأثر، هذا السائل المحيط بالدماغ يمتص الصدمة، ويوزعها على كامل مساحة الدماغ،   

      لماذا العين في المحجر؟ أي إنسان وقع على الأرض فقد بصره، هي في حصن حصين، الغاية من وضع العين في المحجر أن تحفظ، والغاية من وضع النخاع الشوكي في العمود الفقري أن يحفظ، والغاية من وضع معامل كريات الدم الحمراء وهي أخطر معمل في الإنسان في نقي العظام أن تحفظ، والغاية من وضع الرحم في الحوض أن يحفظ، الرحم في قرار مكين ضمن عظم الحوض، والنخاع الشوكي ضمن العمود الفقري، والدماغ ضمن الجمجمة، والعين ضمن المحجر، والقلب ضمن القفص الصدري.  

      التفكير لا بالأسباب بل بالغاية، ما غاية وضع القلب في القفص؟ لو واحد تلقى ضربة قوية تلقاها العظام القلب في حرز حريز، ما حكمة أن الشعر ما فيه أعصاب حس؟ من أجل أن تهذب شعرك، وإلا تحتاج إلى عملية في المشفى، لأن فيه أعصاب حس، كل عملية حلاقة يجب أن تذهب إلى المستشفى، وأن تجري عملية حلاقة مع التخدير الكامل، ما حكمة وجود أعصاب حس في الأسنان؟ حتى إذا وصل النخر إلى عصب الحس لا تنام الليل، تذهب وتصلح السن بدل أن تفقده، لو أن فكرك جال جولات لماذا المفصل نحو الداخل؟ لو لم يكن مفصل، فما غاية هذا المفصل؟ من أجل أن تأكل، لو ما عندك مفصل يجب أن تنبطح على الأرض، وتأكل مثل الهرة تماماً، لماذا في المثانة عضلات؟ من أجل أن تفرغ ما فيها في وقت قليل، وإلا تحتاج إلى ربع ساعة أو نصف ساعة لو ما عندك عضلات ضغط، لماذا عندك مثانة؟ لأن الكلية تفرز في كل عشرين ثانية قطرة بول، لو ما عندك  مثانة تحتاج إلى حفّاظات فتبقى خمس ساعات، لما فكرك يجول بخلقك؟ لتعرف عظمة الله عز وجل، لماذا أودع الله في طحال الطفل الصغير كمية حديد تكفيه سنتين؟ لأن حليب الأم ما فيه حديد، فدون أن تشعر تفكر بالسبب وتفكر بالغاية.  

      فالعقل البشري لا يفهم شيئاً بلا سبب، ولا يفهم شيئاً بلا غاية.  

ثالثا: المبدأ الثالث: عدم التناقض:  

      ولا يقبل التناقض، هل تصدق أنه في الساعة الثامنة مساءً إنسان موجود في مدينتين بآن واحد، مستحيل العقل يرفض التناقض، ولا يفهم شيئاً إلا بسبب، ولا يفهم شيئاً إلا بغاية، لكن الشيء الرائع أن أصل قوانين الكون أصلها سببية وغائية وعدم التناقض، ولولا التطابق التام بين مبادئ العقل وقوانين الكون لتعطل العقل عن مهمته الكبرى، وهي معرفة الله عز وجل، لو أن الكون ليس فيه مبدأ السببية، شيء يخلق فجأة بلا سبب، العقل يرتبك، لو بالعكس، في الكون مبدأ السببية، أما العقل لا يوجد هذا المبدأ، تقول: ما دام السبب ليس ضرورياً لحدوث شيء فهذا الكون بلا خالق، لكن ترى الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، مَن خلق الدجاجة الأولى؟ من مسبب الأسباب؟ الله جل جلاله، إذاً: الله عز وجل عن طريق مبدأ السببية يأخذك برفق إلى ذاته، هو مسبب الأسباب، وعن طريق مبدأ الغائية يأخذك برفق إلى الغايات التي تتوخاها مما حولك.  

      البقرة كمية الحليب التي تقدمها كل يوم تفوق عشرة أضعاف حاجة وليدها، لمن الحليب؟ لنا،   

      قال تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ  

      لو تابعت هذا الموضوع مبدأ السببية، مبدأ الغائية، مبدأ عدم التناقض، لرأيت أن العقل أداة معرفة الله، والشيء الرائع أن توافق مبادئ العقل مع قوانين الكون هو الذي جعل للعقل فاعلية عالية جداً.  

 مهمة العقل محدودة:  

      لكن العقل مهمته محدودة، كيف؟ تماماً كمحل تجاري يبيع مواد غذائية، فيه ميزان، لكنه ميزان راقٍ جداً، وغالٍ جداً، فيه ذواكر، هذا الميزان على أنه بمستوى رفيع جداً، لكن مهمته محدودة، يمكن أن تستخدمه بين خمس غرامات وخمسة كيلوات، لو أردت أن تزِن بهذا الميزان مركبتك، وضعته على الأرض، وسرت فوقه لحطمه، هل لك أن تقول: ليس جيداً لأنه تحطم، نقول لك لأنك استخدمته بخلاف ما صنع له مهمته  محدودة.  

      أيها الإخوة، أنت أحياناً تدخل إلى بناء جامعة، هو بناء فخم بحدائق غناء، ومدرجات رائعة، فيها كواتم للصوت، فيها مقاعد وثيرة، فيها سبورة متحركة، فيها تكبير صوت، فيها جهاز عاكس، فيها أبنية للطلبة، وأبنية إدارية، ومخابر، ومدرجات، وقاعات، ومسرح، هذا كله تدركه بعقلك، ولكن هل تستطيع أن تعرف من هو رئيس الجامعة؟ مستحيل، مَن هم عمداء الكليات، مستحيل، ما النظام الداخلي في قبول الطلاب وفي نجاحهم وفي طردهم وفصلهم، مستحيل، هنا العقل وحده لا يكفي، لا بد من النقل، فعندنا عقل، وعندنا نقل.  

دوائر المعرفه وأدواتها:  

      دوائر المعرفة ثلاث: هي دائرة المحسوسات، ودائرة المعقولات، ودائرة الإخباريات،   

أولا: دائرة المحسوسات: أداة اليقين بها الحواس الخمس:  

      المصباح متألق، صوت المروحة مسموع، هذا اللون بني، هذا خشب محفور، أداة اليقين في دائرة المحسوسات الحواس الخمس فقط، أو استطالاتها الميكروسكوب استطالة لحواس، والتلسكوب استطالة للحواس، المجهر، والمرصد باللغة الفصحى المجهر، والمرصد أداتان لاستطالة الحواس، لكن كل شيء مادي أداة معرفته الحواس الخمس، هذه الدائرة لا خلاف فيها إطلاقاً. 

ثانيا: دائرة المعقولات: أداة اليقين بها العقل:  

      العقل مهمته أن يرى شيئاً مادياً، أو يرى آثار شيء مادي يحكم عليه من دون أن يراه، يرى آثار أقدام فيقول: الأقدام تدل على المسير، يرى جدول ماء فيقول: والماء يدل على الغدير، يرى بعرة يقول: تدل على البعير، يرى دخانا من وراء جدار فيقول: لا دخان بلا نار، هذه مهمة العقل، تعطيه آثار شيء يؤمن بالشيء، شيء غابت ذاته، وبقيت آثاره أداة اليقين به هو العقل، المصابيح متألقة، هذه آثار الكهرباء، صوت مكبر الصوت، آثار الكهرباء، إذاً: مهمة العقل هو أداة يقين في دائرة المعقولات، أي أشياء غابت ذواتها، وبقيت آثارها، هذا مجال العقل مهمته محدودة بهذه الدائرة، فالشيء الذي ظهرت ذاته وآثاره كهذا الكأس ظهرت ذاته وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، باليد الملمس، بالجلد البرودة، والحرارة بالجلد أيضاً، المنظر بالعين، لو لها صوت بالأذن، الشيء المادي ظهرت عينه وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، أما إذا رأينا دخانا، ولم نر النار نقول: عين النار غابت عنا، بقيت آثار النار، وهو الدخان، العقل يحكم ويقول: لا دخان بلا نار.  

ثالثا: دائرة الإخباريات: أداة اليقين بها الخبر الصادق:  

      أما إذا غابت ذات الشيء وآثاره معاً فالعقل يتعطل، لا وظيفة له، هذه الدائرة الثالثة دائرة الإخباريات، الماضي السحيق من دائرة الإخباريات، ما بعد الموت من دائرة الإخباريات، الملائكة، الإيمان بالملائكة من دائرة الإخباريات، الإيمان بالجن من دائرة الإخباريات، شيء ظهرت ذاته وآثاره، هذا تابع للدائرة الأولى المحسوسات، الحواس الخمس أداة اليقين به، شيء غابت ذاته، وبقيت آثاره، هذا تابع لدائرة المعقولات، العقل أداة اليقين به، شيء غابت عينه وآثاره، أداة اليقين به الخبر الصادق، شيء واضح جداً، دخلت إلى بيت فرأيت إبريق ماء، أو كأس ماء، هذه الدائرة الحسية، رأيت الكهرباء متألقة، التألق آثار الكهرباء، تقول: في البيت كهرباء، إما من الشبكة العامة، أو من مولدة، وإذا رأيت خزانة مقفلة فلا يمكن مهما تكن ذكياً وعاقلاً أن تعرف ما بداخل هذه الخزانة، فجاءك صاحب البيت، وقال: هذه خزانة كتب، أضع فيها كتبي الثمينة، فأخبرك بها.  

 المنطق يقتضي استخدام كل أداة في دائرتها:  

      هناك شيء ظهرت ذاته وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، وشيء غابت ذاته، وبقيت آثاره، أداة اليقين به العقل، وشيء غابت عينه وآثاره أداة اليقين به الخبر الصادق، بطولتك أن تضع أي قضية في الدين مكانها الصحيح، أما حينما تريد أن تناقش الدائرة الثالثة بعقلك فإن عقلك يرتبك.  

      قد يقول لك إنسان لا يؤمن بالله: ائت لي بدليل على وجود الملائكة، ليس هناك دليل، أريد دليلا علميا على وجود الملائكة، أريد دليلا علميا على وجود الجن، أريد دليلا علميا على وجود الدار الآخرة، هذه قضايا إخبارية.  

كل ما عجز العقل عن إدراكه أخبرنا الله به:   

      الفكرة الدقيقة: أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وما دام هذا الميزان ميزان محل لبيع المواد الغذائية فإنه يعجز عن وزن سيارتك، وصانع السيارة وضع لك لوحة داخلية عليها وزن السيارة بالضبط، أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به.  

      أيها الأخوة يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه العين مهما تكن حادة البصر، أحياناً يفحص المرء عينيه، يقول له الطبيب: اثنا عشر على عشرة، آخر صف يعرفه تماماً من حيث الاتجاهات، الصف قبل الأخير عشرة على عشرة، أما الأخير فاثنا عشر على عشرة، هذه العين مهما تكن حادة البصر فلا قيمة لها إطلاقاً من دون نور يتوسط بينك وبين المرئيات، فلو جلس إنسان أعمى مع إنسان حاد البصر في غرفة ليس فيها نور يستويان تماماً، فكما أن العين لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين المرئيات فالعقل لا قيمة له من دون وحي يرشده، فالضوء للعين كالوحي للعقل،   

      لذلك قال تعالى:إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ   

      معنى ذلك أن العقل البشري من دون وحي السماء يضل ويزل، وينحرف، وهذا الذي نعانيه مع الحضارة الغربية، عقل فقط، هم يعملون في ظلام دامس، والمسلمون نائمون في ضوء الشمس.  

للعقل أنواع: العقل الصريح والعقل التبريري:  

      الآن هناك عقل صريح، وهناك عقل تبريري، العقل الصريح يقودك إلى الحقيقة، لكن العقل التبريري تستخدمه لغير ما صنع له، كيف؟   

      من الممكن أن تقتني آلة تصوير غالية الثمن جداً، ويمكن إذا استخدمتها في تصميم الأغلفة والبطاقات والتقاويم والمذكرات أن تربح أرباحاً طائلة، لكنك استخدمتها لتزوير العملة، فدخلت السجن، الآلة نفسها إما أن تستخدمها في أعمال فنية تجارية رائجة ذات أجر عالٍ جداً، وإما أن تستخدمها في عمل يحرمه القانون، فتكون هذه الآلة سبباً في دخول السجن، فالعقل من دون وحي قد يكون سبباً لهلاك صاحبه،   

      قال تعالى: لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ  

      الناصية مقدمة الرأس، مكان اتخاذ القرار، مكان المحاكمة،  نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ  

      فحينما يتخذ الإنسان قرارا خاطئا يكون عقله هو السبب.  

      للتقريب: عند إنسان بيت غالي الثمن، وباعه بالعملة الصعبة، وفي جيبه جهاز يكشف له العملة الصعبة، الآن هناك أجهزة تضع العملة الصعبة عليه فيظهر على الشاشة لون، إذا كان لونًا برتقاليا فالعملة صحيحة، وإذا كان لونا آخر فالعملة مزيفة، باع هذا الإنسان بيته بسعر غالٍ جداً، وفي جيبه جهاز لكشف العملة المزورة، ولم يستخدمه، هذا العقل، في جيبه الآخر أرقام العملات المزورة، هذا الشرع، فلا استخدم عقله، ولا رجع إلى الشرع، ففوجئ أن العملة كلها مزورة فضاع بيته، وهو السبب في ذلك.  

      فلذلك أيها الإخوة، العقل الصريح هو العقل الذي يقودك إلى الخير، إلى الفلاح، إلى النجاح، إلى الإيمان بالله، إلى طاعة الله، إلى خدمة الخلق، إلى الإقبال على الله، وأما العقل التبريري فكأن تحتل بلداً، وتزعم أنك احتلته من أجل الحرية والديمقراطية، فإذا الواقع عكس ذلك، نهب للثروات، وقتل للبشر بلا حساب، لذلك أخطر شيء العقل التبريري، هذا عقل ساقط محتقر، يغطي الشهوات، يغطي الانحرافات، يغطي التفلت، وكلما جلست مع إنسان عاص، واستمعت إلى تبرير أعماله فهو يستخدم عقله التبريري، وكلما التقيت مع إنسان عاقل مستقيم مؤمن يستخدم عقله الصريح، لذلك الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط خط النقل الصحيح وخط العقل الصريح وخط الفطرة السليمة وخط الواقع الموضوعي، العقل الصريح النقل الصحيح الفطرة السليمة الواقع الموضوعي.  

      أيها الإخوة، كما قلت قبل قليل: العقل حينما تستخدمه لخلاف ما خلق له يكون سبب الدمار،   

      قال تعالى:إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ   

      لكن العقل يستنير بوحي السماء، ويستنير بتوجيهات الخالق الصانع الحكيم.  

 العقل أداة للوصول إلى الله وليس لتُحيط بالله:  

      العقل يمكن أن يصل بك إلى الله، ولكن لا يمكن أن تحيط بعقلك بالله عز وجل  

      قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ  

      كمركبة أقلتك إلى شاطئ البحر لكنك بهذه المركبة الأرضية لا تستطيع أن تخوض بها عباب البحر، ولا أمواج البحر، والذي قلته قبل قليل: أيّ شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وكأن العقل حصان تركبه إلى باب السلطان، فإذا دخلت قصر السلطان دخلت وحدك، فأنت بعقلك وصلت إلى الله، أما إذا أمرك الله بأمر فينبغي أن تنصاع له، تماماً كما لو أن إنسانا بحث عن طبيب في أعلى مستوى من العلم والإخلاص والفهم والمِراس والتجربة والكفاءة، فلما وصل إلى الطبيب بعقله قال له: إياك وتناول الملح، لن تستطيع أن تحاوره، عقلك أوصلك إليه يجب أن تأخذ أمره بحسب إيمانك بتفوق هذا الطبيب.  

      لكن العقل كحياتنا فيها خطوط حمراء، كذلك أمام العقل خطوط حمراء كثيرة جداً، لكن أبرز هذه الخطوط  

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا   

      إنّ العقل أعجز من أن يتفكر في ذات الله كما قلت قبل قليل، والعقل موضوعه مادي، وذات الله لا يمكن أن يحيط به عقل، لذلك من أعمل عقله في ذات الله ربما هلك، وربما اختل، وربما أصيب بالجنون،   

      يقول عليه الصلاة والسلام:  تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا      

      إذاً هناك خطوط حمراء لا بد أن تراعى في موضوع العقل.  

      أيها الإخوة، من البطولة ألا تعرض على المشككين في الدين القضايا الإخبارية، فإن عرضت هذه القضايا الإخبارية وقعت في حرج شديد، لأن هؤلاء لن يدركوا ما معنى أن هذا الموضوع موضوع إخباري، أي أن العقل لا يستطيع أن يخوض فيه إطلاقاً، هذا موضوع إخباري صرف.  

العقل والنقل  

أولا: العقل لا يتحكم بالنقل:  

      عظمة الإسلام أنه وسطي، لم يلغ دور العقل كما في بعض الأديان، حيث جُعل العقل يتحكم بالدين، والبعض ألغى العقل تماماً، وإن ألغيت العقل فقد ألغيت أداة معرفة الله، والبعض بالغ بقيمة العقل نجعله أداة مطلقة للمعرفة،الإسلام وسطي.  

      العقل في الإسلام ميزان دقيق حساس فيه ميزات هائلة، غالٍ جدا، لكنه محدود الاستعمالات، من خمس غرامات إلى خمسة كيلوات، ضمن هل الوزنين رائع جداً، أما إذا كلفته بعمل فوق هذه الحدود فلا يلبيك، العقل محدود، العقل يجب أن يرى شيئاً مادياً، ويحكم عليه، يجب أن يرى أثراً يصل من هنا إلى المؤثِّر، يجب أن يرى حكمة يصل من الحكمة إلى الحكيم، يجب أن يرى تسييراً ينتقل من التسيير إلى المسير، يجب أن يرى بناء ينتقل من البناء إلى الباني، يجب أن يرى نظاماً ينتقل من النظام إلى المنظم، فالعقل مختص بهذه المهمة، شيء غابت عينه وبقيت آثاره.  

      دخلت إلى الجامعة في أيام الصيف، ليس هناك دوام، تأملت في القاعات، في المدرجات، في الحدائق، في المخابر، في الإدارات، في بيوت الطلبة، في بيوت الأساتذة، في الموقع، في الإطلالة، استنبطت آلاف الحقائق عن مصممي الجامعة، يتمتعون بعلم وبذوق وبجمال في أذواقهم، وبخبرة عالية، وفيها مرافق عامة تلافت كل أخطاء الماضي يمكن أن تستنبط من بناء الجامعة ما لا نهاية له من المعلومات، لكن لن تستطيع أن تعرف من خلال بناء الجامعة من هو رئيس الجامعة، و لا من هم عمداء كلياتها، ولا نظام القبول فيها، ولا نظام النجاح فيها، ولا قيمة الأقساط فيها، هذه لابد لها من كتاب.  

ثانيا: العقل يتكامل مع النقل:  

      العقل يتكامل مع الوحي، أي شيء عجز العقل عن إدراكه أخبرك الوحي به، بعقلك تستنبط أن هذا الكون لابد له من خالق،   

      يأتي الوحي ويقول: اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ  

      بهذا العقل يرى ملاحظة دقيقة جداً، أن الحياة قصيرة، والحظوظ متفاوتة، هناك قوي وضعيف، غني وفقير، ووسيم ودميم، رحيم وقاسٍ، وظالم ومظلوم، ومُتحكم ومتحكم به، مُستغل ومستَغل، والحياة قصيرة، ويأتي الموت، وينهي كل شيء، العقل لا يقبل ذلك، لابد من حياة أخرى تسوى فيها الحسابات،   

      يأتي الوحي، ويقول: مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ  

      يأتي في الوحي اليوم الآخر، يوم الدين، يوم تسوية الحسابات: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ  

      لذلك أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، فالعقل والوحي يتكاملان.  

ثالثا: وظيفة العقل في النقل:  

      لكن مرة ثانية والأمر ضروري جداً ما علاقة الوحي بالعقل؟  

      العقل مرتبط بالواقع، أما الوحي فمرتبط بالحقيقة المطلقة،   

      إنساناً مات قبل خمسين عاماً، لا يصدق أن تجمع سبعة آلاف كتاب في قرص واحد، ولا يقبل، كذلك لا يقبل أن تمسك بجهاز صغير تخاطب أطراف الدنيا، الآن هذا مقبول، العقل مرتبط بالواقع، والوحي مرتبط بالحقيقة المطلقة، لذلك الأصل هو الوحي، والعقل لفهم الوحي، وللتأكد من صحة النص.  

      علاقة العقل بالنقل، قبل النقل للتأكد من صحة النص، وبعد النقل لفهم النص، هذا هو الموقف الكامل.  

رابعا: العقل لا يتناقض مع النقل:   

      لكن إخواننا الكرام، لا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل، لسبب بسيط، أن العقل مقياس أودعه الله فينا، ولأن النقل كلام الله وبيان المعصوم، فهما فرعان من أصل واحد، فإذا تعارضا فلعدم قطعية أحدهما، فقد يتعارض نص موضوع غير صحيح مع العقل، هذا ممكن، وقد تتعارض نظرية لم تثبت بعد مع الوحي، أما إذا توافر في الوحي القطعية وفي العقل القطعية فإن تلازم العقل مع النقل حتم واجب، لأن العقل والنقل فرعان من أصل واحد، وهذه أعظم ميزة في هذا الإسلام العظيم، إسلامنا علمي، وما مِن شيء جاء به الدين، وقال العقل: لا، أما أيّ دين أرضي، أي مذهب أرضي العقل يقول: ألف لا، ولا مع مضي الزمن.  

 التفكر في الكون أقصر طريق إلى معرفة الله:  

      أيها الإخوة، دائماً وأبداً أردد هذه المقولة: التفكر في خلق السماوات والأرض أوسع باب ندخل منه على الله، والتفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله، لأنه يضعك أمام عظمة الله، وإذا قلت: العقل، ولعلي أقصد به الفكر، فتفكرك في خلق السماوات والأرض سبب معرفتك لله. 



المصدر: العقيدة - العقيدة والإعجاز - الدرس (07-36) مقومات التكليف : العقل -1- العقل أداة لمعرفة الله ـ العقل وعلاقته بالنقل