الشهوات سلَّم للرقيّ إلى رب الأرض والسماوات:
أيها الإخوة، بادئ ذي بدء: قد يتوهم واحد من الناس أنه لولا الشهوات لما كانت المعاصي والآثام، وبالتالي لما كانت النار عقاباً لمن عصى لله في الدنيا، والحقيقة الصحيحة أنه لولا الشهوات ما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، كيف نرتقي إلى رب الأرض والسماوات؟ كيف نقبل عليه؟ كيف نثق أنه يحبنا؟ كيف نطمع برحمته؟ كيف نناجيه إن لم ننضبط؟ أعطانا شهوات، أعطانا معها حرية الاختيار، فأيّ شهوة يمكن أن تتحرك بسببها 180 درجة.
الدين كله، الانضباط كله، الصبر كله، أن توقع حركتك مع هذه الشهوة ضمن الحيز الذي سمح الله به، هذا إن أردت أن تضغط الدين كله.
كلُّ شهوة لها قناة نظيفة:
الإنسان يحب المرأة، في أعماقِ أعماقه أودع الله في الإنسان حب الأنثى، وفي أعماق الأنثى أودع الله فيها حب الرجل، وهيأ قناة نظيفة طاهرة، ترقى بالإنسان، هي قناة الزواج، فهذه الشهوة تلبَّى في هذه القناة.
والإنسان أودع الله فيه حب المال بكل إنسان، رسم له طريق لكسب المال الحلال طريق العمل، طريق التجارة، الصناعة، الزراعة، الوظيفة، الخدمات، الإرث، الهبة، الصدقة، إنها طرائق عديدة لاكتساب المال، كلها شرعية، لكن هناك سرقة، وغش، واحتيال، وتدليس، وكذب، هناك طرائق عديدة لكسب المال الحرام، ما هو الدين؟ أن توقع حركتك في الحيز الذي سمح الله به، هذا المعنى أشارت إليه آية كريمة، قال سيدنا شعيب: بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ
الذي تبقى لكم من كل شهوة الحيز الذي أباحه الله لنا من كل شهوة هو الذي يسعدنا ويسلمنا،
فلذلك قال الله عز وجل: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
هناك إنسان يلاحظ إنسانا يخطب فتاة، وفي عقد القران هناك إشهار، وإيجاب، ووليّ، وشهود، ومهر، وتهانٍ، واحتفالات، وهدايا، لأنه أمرٌ مشروع، ما هو عقد الزواج؟ يفضي إلى علاقة جنسية بين الزوج وزوجته، لكن لأنه وفق منهج الله يسمو به الإنسان، يتزوج، ويأتي ابن من هذه الزوجة يملأ البيت سعادة، يكبر، يتربى تربية عالية، يصبح إنسانا ذا شأن، داعية، طبيبا، أستاذا جامعيا، تاجرا كبيرا، صناعيا كبيرا، تربى تربية إسلامية، تربية أخلاقية، تجده معطاء، كريما، منضبطا، صادقا، أمينا، تجد هذه الأسرة أنجبت أولادا قمة في الكمال، أساس المشروع كله علاقة جنسية، والزنا علاقة جنسية، لكنه سقوط وفضيحة وانهيار.
مرة حدثني صديق طُرق بابه الساعة الرابعة فجراً، فتح الباب فلم يجد أحدا، حانت منه التفاتة نحو الأسفل فوجد كيسا يتحرك، فيه طفل ولد لتوه من الزنا، وضع في كيس أمام بيت طُرق بابُه، ثم هرب الذي وضعه.
أجريت موازنة، حينما يأتي طفل من أب وأم، من بيت فيه زواج مشروع، تجد الفرح والتهاني والتبريكات والضيافة والهدايا، والفرح يعم الأسرتين، ولما يأتي هذا المولود من الزنا يكون وصمة عار وفضيحة وشيئًا لا يحتمل، فالشهوة هي هي في الحالتين.
أدق مثل أرويه: أن هذا البنزين في السيارة، الوقود السائل إذا وضع في المستودع المحكَم، وسال في الأنبوب المحكم، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة، أقلّتك هذه السيارة أنت وأهلك في يوم جميل من أيام الربيع إلى الحدائق، وسعدتَ بهذه النزهة، ما الذي يجري؟ انفجارات، لكنها منضبطة وفق تصميم السيارة، صفيحة البنزين نفسها صبَّها على السيارة، أعطها شرارة، أحرقت المركبة ومن فيها، السائل هوهو، كان حركة دافعة نافعة مسعدة، فأصبح حركة مدمرة محرقة قاتلة، هذه الشهوات، فهي سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها.
قبل أيام دعاني أخ كريم من كبار علماء القرآن الكريم، سنه فوق 95، قال لي: أنا في من أحفادي 13 دكتورا، أساس العلاقة كلها علاقة جنسية، هذه هي الشهوة.
لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، كيف أنت في الصلاة تخشع وتبكي، لأنك في الطريق إلى المسجد مررت على عشرات الفتيات الكاسيات العاريات المائلات المميلات، فغضضت البصر عنهن، وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، لو ما الله أودع الله فيك الشهوة، وحبِّ الأنثى، وأن تمتع عينيك بمحاسنها، ثم أمرك بغض البصر، وغضضت البصر لا تستطيع في الصلاة أن تبكي.
قال رسول الله في الحديث القدسي: انظروا إلى عبدي، ترك شهوته من أجلي
سيدنا يوسف عبدٌ في بيت دعته امرأة ذات منصب وجمال، سيدة القصر دعتْه إلى نفسها.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ
أودع في السجن، فصار عزيز مصر.
إذاً: دققوا لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لم تكن جنة، ولولا الشهوات لم يكن نعيم مقيم، لولا الشهوات لم يكن اتصال بالله، لولا الشهوات لم يكن شعور بالتفوق، أنت قوي، وبإمكانك أن تفعل كل شيء، لكن الله عز وجل قيّدك بمنهج.
سأل أحدُهم سيدنا عمر، قال له: أتحبني؟ قال له: والله لا أحبك، قال له: هل يمنعك بغضك لي أن تعطيني حقي؟ قال له: لا والله، قال له: إذاً إنما يأسف على الحب النساء.
إنسان غير المنضبط ينكل به، لا تحبني؟ ينكل به، لكن سيدنا عمر لا يقدر لأن:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإِيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ
المؤمن قوي، لكنه مقيد، غني لكنه مقيد.
يرقى بهذا الشيء، وما مِن واحد من إخواننا الكرام إلا كان أحد أسباب اتصاله بالله وظيفة أتيحت له، لكن لا ترضي الله، البضاعة محرمة، العلاقة مشبوهة، الأسلوب بالتعامل غير شرعي، فيركل بقدمه الملايين المملينة، ويكتفي بالآلاف المؤلفة، يقول: هذا مال حلال، ولولا الشهوات لم يمكن أن نرتقي إلى رب الأرض والسماوات.
الشهوة في الدين لا للحرمان نعم للتنظيم:
أيها الإخوة، أنا أخاطب الشباب، أنت في بداية حياتك، إياك أن تعتقد، أو أن تتوهم أن هناك في الإسلام حرمانا، ليس في الإسلام حرمان، فيه تنظيم، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها، الشعور بالحرمان لا أصل له في الدين، لأن هذا الدين دين الفطرة، وأيّة شهوة أودعها الله فيك جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، حتى شهوة العلو في الأرض موجودة في كل إنسان، لها أسماء متعددة، يسميها علماء النفس تأكيد الذات، يسميها بعضهم الشعور بالتفوق، يسميها بعضهم الآخر السيطرة، هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان يمكن عن طريق طلب العلم، والعمل الصالح أن تروى، وأن تكون في موضع تكريم لك، ألم يقل الله عز وجل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ما مِن إنسان يطلب العلم إلا وله مكانة عند الله عز وجل، نحن في العمرة يأتي إلى هذا المسجد ملايين مملينة كل عام، يقولون: يا سيدي، يا رسول الله، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد، لأنه عرف الله، وحمل لواء الدعوة. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا
ثم تقف أمام الصديق، تقول له: يا صاحب رسول الله، يا من قال النبي بحقك: ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر، ما ساءني قط.
تقف أمام قبر سيدنا عمر، يا أيها الفاروق، لو كان نبي بعدي لكان عمر.
هؤلاء الذين صدقوا، وآمنوا، واستقاموا، وأخلصوا، وأحسنوا، رفع الله ذكرهم، والذين عارضوا وكذبوا أين هم؟ في مزبلة التاريخ، أبو جهل، هل يقول أحد: سيدنا أبو جهل !!؟ مستحيل.
أيها الإخوة الكرام، الشهوة هي هي، ترقى بها أو تهوي بها، هي حيادية، وأنت مخير، أو لأنك مخير هي حيادية، أية شهوة أودعها الله فيك ترقى بها إلى أعلى عليين.
الشهوة والتكليف:
وبالمناسبة دخلنا إلى موضوع دقيق: أنت معك طبع، ومعك تكليف، ولحكمة بالغة بالغةٍ بالغة الطبع يتناقض مع التكليف.
قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى
الطبع أن تنام، أن تبقى نائماً في السرير الوثير، في فصل الشتاء، البرد شديد، والفراش دافئ، والغطاء يعطي الدفء، أنت مرتاح، الطبع أن تبقى نائماً، والتكليف أن تنزع الغطاء من جسمك، وتتوضأ بالماء البارد فتصحو، وتصلي، الطبع يناقض التكليف، الطبع يقتضي أن تأخذ المال، والتكليف أن تنفقه، الطبع يقتضي أن تملأ العين من محاسن امرأة لا تحل لك، والتكليف أن تغض البصر، الطبع أن تخوض في فضائح الناس، والتكليف أن تضبط لسانك، هذه الشهوات هي سبب الرقي إلى الله عز وجل، واللهُ عزوجل يباهي الملائكة بالشاب التائب،
يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي.
صدقوا أيها الإخوة، صدقوا أيها الشباب، ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب، إن الله عز وجل يباهي به الملائكة.
سيدنا يوسف لو خضع لعرض امرأة العزيز هل صار سيدنا يوسف؟ لا أحد كان يعرفه، ما الذي ارتقى به وقال: مَعَاذَ اللّهِ
والله هناك من المواقف أيها الإخوة شيء صعب أن تتصوره، تنعم بهذا الموقف إلى أبد الآبدين، لأنه موقف شريف.
إذاً: الطبع يناقض التكليف، لكن التكليف يتوافق مع الفطرة، والطبع يتوافق مع الجسم، الجسم يحتاج إلى راحة، فيميل إلى النوم، أما الفطرة تحب أن تكون على صلة وثيقة بالله عز وجل فتستيقظ، وهكذا.
حينما تفهم الشهوات قوى دافعة، ولا ينبغي أن تكون قوى مدمرة تكون فقيهاً.
النقطة الدقيقة: لما تجد في القرآن تحريما كيف تفهم التحريم؟ حقل واسع مكتوب على لوحة: حقل ألغام، ممنوع التجاوز، أنت كإنسان مدني، وحضاري، هل تشعر بحقد على من وضع هذه اللوحة؟ أبداً، بالعكس، تكون ممتنا لمن وضعها، لأن واضع اللوحة حريص على سلامتك، لمجرد أن تراها حداً لحريتك فأنت لست بفقيه، أما إذا علمت علم اليقين أنها وضعت ضماناً لسلامتك فأنت فقيه.
أيها الإخوة، إذاً: موضوع الشهوة موضوع دقيق جداً، هو سر اتصالك بالله، هو سر فوزك بالجنة، هو سر دخولك الجنة، هو سر قربك من الله، هو سر إقبالك على الله ولو أن كائنا لا يشتهي شيئاً كيف يتقرب إلى الله؟ فالله سبحانه وتعالى جعل هذه الشهوات سلماً نرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، ولكن مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يكون في الإسلام حرمان.
بالشهوات ترقى إلى الله صابرً وشاكرا:
لكن الشهوات أيها الإخوة فيها شيء رائع جداً، فيها رقي إلى الله مرتين.
مثلاً: إذا كان المسلم يمشي في الطريق، ومر على نساء كاسيات عاريات، فقال: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ
غض بصره عنهن، يرقى إلى الله صابراً، تزوج، واختار فتاة ضمن طموحه، جلس معها، سعد بها، ملأ عينيه من محاسنها، يرقى إلى الله، لأن هذا شيء مشروع.
فأنت ترقى إلى الله صابراً، وترقى إلى الله شاكراً، مرة صابراً، ومرة شاكراً.
جاءتك وظيفة دخلها كبير جداً، لكن أساسها إيذاء الناس، أو إلقاء الرعب فيهم، معاذ الله، ثم أتيحت لك وظيفة بربع الدخل، لكنه مال حلال، في التعليم، تقبض المال، تشتري الطعام والشراب، تأتي لأولادك بهدايا، يفرحون، يقبّلونك، هذا المال هو هو، بالحرام حجبك عن الله، وبالحلال دفعك إلى الله.
الشهوة محرك في الحياة:
قضية الشهوة إياكم أن تتوهموا أن الإنسان بالشهوة تزل قدمه، أو يتوهم أنه لولا الشهوات ما كانت نار تحرق العصاة، الشهوات لا بد منها، الشهوة هي كالمحرك في السيارة.
هذه الطاولة اتركها مئة سنة هنا، لا تتحرك، لأنه ما فيها شهوات، أما الإنسان فقد أودع الله فيه حاجة إلى الطعام والشراب، فهل تبقى جالسا في مكان واحد؟ نريد أن نأكل، يبحث عن عمل، يدرس، يتعين بوظيفة، يداوم، يعمل، يأكل، الشهوة قوة محركة، ولولا الشهوات والله ما رأيت على وجه الأرض شيئا، لا جسرا، ولا جامعة، ولا بناء، ولا بستانا، ولا زراعة، ولا معملا، ولا باخرة، ولا سيارة، لماذا تعمل؟ لأنك مضطر أن تعمل من أجل أن تكسب المال، من أجل أن تأكل، لذلك من أوصاف ربنا البليغة للأنبياء على أنهم بشر، وليسوا آلهة: ليَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
لمجرد أنك تأكل الطعام فأنت من بني البشر. وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ .
هم مفتقرون إلى طعام يقيمون به أودهم، ومفتقرون إلى مشيهم بالأسواق لكسب ثمن الطعام، أنت تعمل من أجل أن تكسب المال، من أجل أن تشتري به الطعام، من أجل أن تأكل.
إذاً: ما أودع الله في الإنسان الشهوات إلا ليرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، الشهوات سلم نرقى بها، أو دركات نهوي بها، قوة دافعة، أو قوة مدمرة.
الشهوة حيادية:
الفكرة الدقيقة جداً: لأنك مخير فكل شيء في حياتك حيادي، كيف؟ شهواتك حيادية، وحب المال حيادي، يمكن أن تكسبه من طريق مشروع، وأن تنفقه في طريق مشروع، فترقى به إلى أعلى عليين، بالمال، ويمكن أن تكسبه من طريق غير مشروع، وأن تنفقه إنفاقا غير مشروع، فتهوي به إلى أسفل سافلين، والمال هو هُو.
إنسان يبني مسجدا، أو ميتما، أو معهدا شرعيا، أو مؤسسة خيرية، يموت وهذا الخير يستمر إلى يوم القيامة، وهو في صحيفته، وقد يبني ملهى أحياناً، أيضاً صدقة جارية، لكن من نوع ثانٍ، يموت ويمضى مئة سنة على موته، كلما دخل واحد إلى الملهى كان وزرُه في صحيفته.
والله مرة دُعينا إلى فتح مسجد، سبحان الله ! الذي بنى المسجد استقبلنا على الباب واحد واحداً، وألقينا كلمات، وقدّم لنا طعاما نفيسا، أنا لا تغيب عني صورة وجهه المتألق، يا رب هذا جامع ! يبدو أنه عمّره وحده، ما أخذ مساعدة من أحد من الأرض، والبناء، والكسوة، والأثاث، وكل شيء، سبحانك يا رب ! لحكمة بالغة لما انتهى الاحتفال خرجت من هذا المسجد إلى الطريق العام، يقابل الطريق العام بالضفة الثانية ملهى، بلغني أن فيه من الموبقات ما لا يوصف، وأن صاحبه بعد افتتاحه بسبعة أيام مات، قلت: يا رب ! واحد يرقى إلى أعلى عليين، وواحد يهوي به إلى أسفل سافلين، والعمليتين عملية شهوة، والمال محبوب، لكن أُنفق المال فيه بخلاف طبع الإنسان، فهذا عمر مسجدا فارتقى بهذا المسجد إلى أعلى عليين، والذي عمر ملهى أنفق ماله أيضاً، المال شقيق الروح، لكن هوى بهذا الإنفاق إلى أسفل سافلين، هذه الشهوات.
والإنسان قد يفتح ملهى ليليا، يمارَس المعاصي والآثام، يسمح لرواد هذا الملهى أن يقعوا في الزنا والحرام، وما إلى ذلك، تجد هذا المكان بؤرة فساد، والأصل علاقة جنسية.
فالشهوات حيادية، يمكن أن ترقى بها إلى أعلى عليين، وبالشهوة يمكن أن يهوي الإنسان إلى أسفل سافلين، والشهوة هي هيَ.
الحظوظ الدنيوية حيادية: ليس عطاء الله إكراما ولا منعُه حرمانا:
الشهوات حيادية، والحظوظ حيادية، والذكاء حيادي، فقد تكون ذكياً فتستخدم هذا الذكاء في نشر الحق، وقد تكون ذكياً فتستخدم هذا الذكاء في إفساد البشر، وفي جمع الأموال الطائلة من طريق غير مشروع.
الوسامة قد تكون في خدمة الحق، لأن الإنسان إذا كان وسيماً أعانته وسامته على تحقيق أهدافه في الحياة، وقد تكون هذه الوسامة سبباً لوقوع هذا الشاب في آلاف المعاصي والآثام.
طلاقة اللسان، وجميع الحظوظ حيادية، وجميع الشهوات حيادية، وجميع الأعطيات الإلهية حيادية، أعطاك الله مالا، فإما أن ينفق في طاعة الله فترقى به إلى أعلى عليين، أو أن ينفق المال في إفساد الناس، وفي ممارسة شهوات لا ترضي الله.
الوجاهة: قد تكون في منصب رفيع فتستخدم هذا المنصب لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، فترقى بهذا المنصب إلى أعلى عليين، وقد تستخدم هذا المنصب لتجميع أموال طائلة بطريق غير مشروع، فتهوي إلى أسفل سافلين، الحظوظ، والشهوات، والأعطيات الإلهية كلها حيادية، لأنك مخيَّر فكل شيء حيادي، ترقى به أو تهوي به.
سؤال أطرحه كثيراً: هل المال نعمة؟ نعم، ولا، هل الفقر نعمة؟ نعم، ولا، كيف؟ المال نعمة إذا كان كسبه مشروعاً، وأنفق في طريق مشروع.
من هنا يقول الله عز وجل: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ .
هذا الكلام ربنا عز وجل ما قبله، هذا قول الإنسان: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ .
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ .
جاء الجواب: كَلَّا .
هذه أداة ردع ونفي، لا يا عبادي، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، الله أعطى المال لمن لا يحب، أعطاه لقارون، أعطاه لمن يحب، أعطاه لسيدنا عثمان، أعطى الملك لمن لا يحب، أعطاه لفرعون، أعطاه لمن يحب، لسيدنا سليمان. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي .
فالشهوات حيادية. فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
الجواب: كَلَّا
ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء، كيف هو ابتلاء؟
الله امتحنك بالمال، فإما أن تنجح، وإما ألاّ تنجح، إذا أنفقته في طرق مشروعة ترقى به، فصار سلماً ترقى به، أما إذا أنفق في طرق غير مشروعة تهوي به إلى أسفل سافلين، المال هو هُو، كالبنزين هو هُو، ولّد حركة نافعة، أو دمر المركبة ومَن فيها. فهذه الشهوات هي قوى محركة، تصور مركبة فيها محرك هي الشهوات، فيها مِقود هو العقل، فيها الشرع هو الطريق، مهمة المحرك أن ينطلق بالسيارة، مهمة العقل أن يبقيها على الطريق، بطولتك أن تستخدم عقلك لتضبط حركة السيارة المندفعة بقوة المحرك، أن تضبطها على الطريق.
لا حرج في اتبع الشهوة وفق منهج الله:
أيها الإخوة الكرام، ماذا ينبغي أن يكون حينما يتحرك الإنسان في دنياه بعيداً عن منهج ربه، لكن بالمناسبة ينبغي أن تعلموا علم اليقين أن الذي يتحرك بدافع من شهوته وفق منهج الله لا شيء عليه، الدليل:
قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
المعنى المخالف : أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه، معنى ذلك أنه ليس في الإسلام حرمان، الإسلام دين الفطرة، الإسلام دين الواقعية، الإسلام راعى في الإنسان حاجاته وقيمه، راعى جسمه وروحه، راعى الدنيا والآخرة، ليس في الإسلام حرمان إطلاقاً، بل فيه تنظيم، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها .
فالإنسان يحب أن يكون له شأن، أن يكون له مكانة، متفوق في القمة، لا في الحضيض، باختصاص، بعلم، بحرفة، بدخل، بصنعة، بمنصب، بشكل، بوسامة، ببيت، بمركبة، بحب التفوق، هذا ميل، وشهوة، وحاجة أساسية، يمكن أن تتفوق في معرفة الله، وفي العمل الصالح، وفي الدعوة إليه، وفي نشر الحق، يمكن أن تكون في قلوب الآلاف، بل الملايين، بل مئات الملايين، ويمكن أن يشار إليك بالبنان، حينما ينغمس في شهوات منحطة، كشخص فتح ملهًى، يتفنن بعرض الموبقات على رواد هذا المكان، أيضاً يشار له بالبنان، دخله فلكي، بيته فخم جداً، مركبة رائعة، وأساساً أعلى دخل في العالم دخل تجار المخدرات، يسكن بيتا هو قصر، فيه خمسون سيارة، وطائرة خاصة، تاجر مخدرات، هذا علو، لكن الميل حيادي، يمكن أن ترقى به، أو أن تهوي به.
فتأكيد الذات، أن تشعر بأهميتك، أن تتوق إلى العلو، إلى التفوق، هذا حيادي، هناك طريق مشروع للتفوق، وطريق مشروع للسقوط.
هل أمرُ سيدنا صلاح الدين شيء قليل؟ قائد مسلم يواجه 27 جيشاً أوربياً، ويفتح القدس؟! هل أمرُ سيدنا عمر قليل؟ هناك أعلام، هؤلاء أكدوا ذاتهم، وارتقوا في سلم العظماء، وأسماءهم في لوحة الشرف.
يقف أحدهم أمام سيدنا رسول الله، بعد قليل ينتقل إلى مقام سيدنا الصديق، هل مقام الصديق شيء قليل؟ ما طلعت شمس على نبي أفضل من أبي بكر
أكد ذاته، تفوق في خدمة الدعوة، وأبو جهل أكد ذاته في المعارضة، فأصبح في مزبلة التاريخ، فأنت تؤكد ذاتك بالخير، فيشار إليك بالبنان وتؤكد ذاتك لا سمح الله ولا قدر بالشر، ويشار إليك بالبنان.
الأقوياء في العالم، كهتلر سبّب حربين عالميتين، كل حرب فيها خمسون مليون قتيل، وخمسون مليون معاق، مئة مليون، الذي ألقى قنبلة على هيروشيما ونكازاتي شخص مهم جداً، أخذ قرارا، مات 300 ألف في ثلاث ثوان، والحرب انتهت بهاتين القنبلتين.
إنّ تأكيد الذات حيادي، التفوق حيادي، هناك تفوق بعمل ساقط، تقول الراقصة: الله وفقني في هذه الرقصة، عمل ساقط، وهناك كتاب أدب إباحي، وهناك إقبال على كتبهم بشكل عجيب، وكتّاب الأخلاقيين كتبهم في أعلى مستوى، الأمرُ حيادي، تأكيد الذات حيادي،و حب المرأة حيادي، يمكن أن تكون أسعد زوج، ولك منها ذرية صالحة.
أحياناً الذي في سن 60 ـ 65 ـ 70 عنده 25 حفيدا، هذا طبيب، هذا مهندس، هذه البنت داعية كبيرة، تزوجت، لها أولاد، ربت بناتها، كلهم مِن رجلٍ واحد، والعملية كلُّ أساسها شهوة، أساس هذا الزواج مشروع شهوة، لكن وفق منهج الله، أقمت أسرة، وأنجبت أولادا، وبنات، ولك أصهار، وأحفاد، وذرية، هذه أساسها شهوة، والتفوق أساسه شهوة، لكن هذه الشهوات حيادية، يمكن أن نرقى بها إلى أعلى عليين، ويمكن أن نهوي بها إلى أسفل سافلين، لا أحد يتألم من كلمة شهوة، طريقنا إلى الله، إما بالكف أو بالممارسة، تعمل لتكسب مالا حلالا، تشتري بذلة للعيد، تدخل إلى البيت لتزور أقرباءك، ما هذه الأناقة ! هذه شهوة، لكنها مشروعة.
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ
فيا أيها الإخوة الكرام، الشهوة أحد أهم مقومات التكليف، من أجل أن تصل إلى الله، أن تصل إلى الجنة، أودع الله فيك الشهوات، لترقى بها مرتين مرة صابراً، ومرة شاكراً إلى رب الأرض والسماوات، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها.
ضبط الشهوة أساس حضارة المسلمين:
لكن هناك شيء آخر: ما من شهوة أودعت فيك إلا لها قناة نظيفة تسري خلالها، لذلك مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، أنت معك منهج،
ما هو الدين؟ الدين هو الضبط، أن تضبط حركتك بدافع شهواتك وفق منهج الله، وفق الحيز الذي سمح الله لك به، هذا هو الدين، هذه هي الاستقامة، هذا هو العمل الصالح، أن تأتي الحركة وفق منهج الله.
لذلك قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
الجنة كلها لمن ضبط شهواته،
يقولون: حضارة المسلمين أساسها ضبط الذات، وحضارة الغربيين أساسها السيطرة وضبط الطبيعة.
حقل البترول في قعر بحر الشمال كيف حُفرت هذه الأبيار في قعر البحر؟ وكيف لم يدخل الماء المالح إليها؟ وكيف حصنت؟ وكيف أودعت الأنابيب؟ وكيف صب الاسمنت فوق المال؟ شيء مذهل، استخرجوا النفط من قعر الشمال، وصلوا إلى القمر، وصلوا إلى المريخ، وصلوا إلى المشتري، نقلوا الصورة في العالم كله، نقلوا الصوت، والعالم الآن قرية، وهناك إنجازات علمية مذهلة، الغرب سيطر على القرية، أصبح العالم سطح مكتب، فبقطعة صغيرة تخاطب العالم كله.
كنت في عرفات، طُلب مني كلمة على الفضائية السورية، ألقيت حديثا سُمع في الخمس قارات، أمامي قطعة تكلمت بها هذا الكلام عُمم على خمس قارات، شيء لا يصدق، وإنجاز مذهل.
ضبطُ الشهوة ثمنُ الجَنة:
أيها الإخوة الكرام، ما من شهوة جعلها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها.
الآية الكريمة: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى .
ثمن الجنة هو الضبط، ثمن الجنة أن توقع الحركة وفق الحيز الذي سمح الله به، فلك أن تأكل من طعام حلال، أي اشتُري بمال حلال، وهذا المال الحلال اُكتسب وفق الصدق والجهد الحقيقي، لا وفق الكذب والاحتيال. أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة
لك أن تتزوج امرأة تروق لك بالحلال، لا تخجل بهذا، هذا شيء شرعي، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام أشار فقال:
وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
شيء غير معقول ! لو كانت في الحرام كان عليك وزر، إذاً هو في أجر، من هنا يرقى المؤمن بالشهوة مرتين، يرقى مرة شاكراً، ويرقى مرة صابراً.
أنت تمشي في الطريق، مرت امرأة متبذلة متفلتة فغضضت بصرك عنها وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، ارتقيت، دخلت بيتك نظرت إلى امرأتك، مِن حقك أن تنظر إليها، شكرت الله على أن الله أكرمك بزوجة، ترقى إلى الله شاكراً.
تركت مالا حراما ترقى إلى الله صابراً، عملتَ عملا مشروعا، وكسبتَ مالا حلالا، واشتريتَ به طعاماً وشراباً وثياباً ترقى إلى الله شاكراً، ترقى بها مرتين، ترقى بها صابراً، ترقى بها شاكراً.
مرة ثانية: لولا الشهوات لما وصل الإنسان إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنات.
المعصية وهامش الأمان:
الآن مع فكرة فرعية، الزنا محرم، الله عز وجل قال لك: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى .
الحكمة الإلهية ما قال الله: لا تزنِ، قال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى،
أي: اجعل بينك وبين هذه المعصية الكبيرة هامش أمان.
أوضِّح هذا بمثلٍ: تيار كهربائي 8000 فولت، وزير الكهرباء يضع لوحة: ممنوع الاقتراب من التيار، لأن للتيار ثمانية أمتار، مَن دخل في حرم التيار أصبح فحمة سوداء، فلا بد من ترك مسافة بينك وبين التيار، لأن قوة جذبه كبيرة جداً، وهناك شهوات قوة جذبها كبيرة، الله منع الخلوة، منع صحبة الأراذل، منع إطلاق البصر، منع مقدمات الزنا، فمن ابتعد عن مقدمات الزنا كرمه الله، وحماه من الزنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه
وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى اللَّه محارمه
لا بد من أن تدع بينك وبين الزنا والمحرمات هامش أمان، تصور الشهوات المحرمة كنهر عميق مخيف له شاطئ مائل زلق، له شاطئ مستوٍ جاف، النهر هنا، بطولتك كمؤمن أن تمشي هنا، شاطئ مستوي جاف متمكّن، أما هذا الشاطئ فزلق ومائل، احتمال السقوط فيه كبير،
من هنا جاء قول سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:الشريف هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة
قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى . إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً .
تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا .
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
يجب أن تعرف مقام الله، الإيمان كله أن تخاف مقام الله. وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة:
أحد العلماء يقول: مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، أطيب ما فيها القرب من الله عز وجل
بدليل قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
الله عز وجل أثبت لهم علماً بظاهرها.
يقول عالِم آخر: بستاني في صدري، ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، ماذا يفعل أعدائي بي؟
مَن هو عبدُ الشهوة؟
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ
فالإنسان عبدٌ للدينار، وعبدٌ للدرهم، وقد يكون عبداً لبطنه، وقد يكون عبداً لفرجه، وقد يكون عبداً للخميصة لثيابه.
الحقيقة أن هذا الحديث يشير إلى فئة من الناس عبدت شهواتها من دون الله، وقد أكد الله هذا المعنى فقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ .
وكما تعلمون أن العبادة نوعان، هناك عبيد، وهناك عباد، العبيد جمع عبد القهر، والعباد جمع عبد الشكر، فالإنسان الذي عرف الله، بمبادرة منه، وأحبه، وأطاعه وأقبل عليه، والتزم بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، هذا عبد الشكر، وجمعه عباد.
قال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا .
بينما الذي ركب رأسه، وتحكمت به شهوته، وعبد شهواته من دون الله فهذا عبد القهر، هو عبد لله، لأنه مقهور، لأنه في قبضة الله، ففي أية ثانية ينتهي عند الله، فهذا عبد القهر جمعه عبيد.
قال الله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ .
الشهوة لا تبني مستقبلاً:
بالمناسبة في الإنسان سلامة وسعادة، بالاستقامة على أمر الله يسلم، لكن بالعمل الصالح يسعد، والفرق كبير بين السلامة والسعادة، أما الإنسان لو انكب على الشهوات وحدها،
يقول بعض الفلاسفة: إذا اتخذت الشهوة مبدأ انقلبت إلى ألم
والذين يحرصون على شهواتهم دون غيرها، ولا يلتفتون إلى شيء آخر هؤلاء أشقى الناس، وإنّ أشقى الناس في الدنيا أرغبهم فيها، وأسعد الناس في الدنيا أبعدهم عنها، الإنسان له هدف كبير، له هدف نبيل، هدف عظيم أن يعرف الله، أن يقدم عملا صالحا لأمته، هذا الهدف، وهذا العمل يَسْمُوَان به، فيشعر نفسه إنسانا مقدسا، إنسانا عند الله مقربًا، أما إذا التفت إلى شهواته فالشهوات ليس لها أثر مستقبلي، وإذا غرق الإنسان في الملذات، وفي الطعام الطيب، وفي النزهات، هذه اللذائذ كلها لا تصنع له مكانة، ولا قيمة، ولا مستقبلاً.
ملأ أحدُهم حوض الحمام بماء فاتر، وجلس فيه، سُر به، هل تعلم شيئًا؟ هل يصبح طبيبا؟ هل يصبح تاجرا كبيرا؟ الاستمتاع بالحياة ليس له أثر مستقبلي، أما العمل الطيب فله أثر مستقبلي، فإذا عاش الإنسان لشهوته يشقى بها، وإن أشقى الناس في الدنيا أرغبهم فيها، أسعد الناس في الدنيا أبعدهم عنها،
لذلك قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ
التنعم وحده يفضي بالإنسان إلى الشقاء، لذلك أعلى نسب انتحار في العالم في دخل أصحابها فلكي، وأكاد أقول: مشكلة الإنسان الآن أنه إنسان بلا هدف،
الله عز وجل قال: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
حدِّدْ هدَفك في الحياة:
الذي أتمناه على الإخوة الكرام أنْ حدِّدْ هدفك، واجعل هذا الهدف الله، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، لو اخترت هدفاً آخر أقلّ من إمكاناتك بعد بلوغه تشقى، وتشعر بالفراغ وبالملل، لو اخترت أيّ هدف أرضي، ما دام بعيداً عنك لعلك تحلم به، فإذا وصلت إليه، وأحطت به، واستوعبته انتهى تأثيره، فيبدأ الشقاء.
فلذلك من اختار الله عز وجل اختار الحق الأبدي الأزلي.
فليتك تحلــو والحياة مريرة***وليتك ترضى والأنام غــضاب
ولـيت الذي بيني وبينك عامر***وبيني وبين الـــعالمين خراب
إذا صح منك الوصل فالــكل***هين وكل الذي فوق التراب تراب
طاعة الله تجلب الأمن والسعادة والطمأنينة:
أيها الإخوة، الدنيا جميلة بطاعة الله، الدنيا مسعدة بطاعة الله، هذا الذي يطيع الله عز وجل أعطاه الله عز وجل حقًّا عليه.
عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا...
أنت أيها المؤمن،، إذا أطعت الله فيما أمرك أنشأ الله لك حقاً عليه، ألاّ يعذبك.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا .
والله أيها الإخوة، أنا لا أصدق أن يجتمع في قلب المؤمن خوف، أو قلق، أو إحباط أو سوداوية، الله عز وجل طمأنك في القرآن الكريم قال لك: إنني أدافع عنك، الله في عليائه يدافع عنك. إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا .
وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً .
يؤتيك الرضى، أنت راضٍ عن الله، يؤتيك الأمن، وهي أغلى نعمة على الإطلاق.
أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ .
يؤتيك السعادة، يؤتيك السكينة.
فلذلك أيها الإخوة، الشهوات حيادية، بالعكس لولا الشهوات لم ترقَ إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنة، تصور أن كل شيء مباح، بمَ تتقرب إلى الله؟ فإذا وجِدت محرمات، فبغض البصر تتقرب إلى الله، وبترك دخل مشبوه تتقرب إلى الله، وبضبط اللسان تتقرب إلى الله، الغيبة محرمة، والنميمة كذلك، والإيقاع بين الناس، والكبر، وارتكاب خمسين معصية باللسان، فإذا اجتنبت كل هذه المعاصي، ضبطت سمعك، ضبطت بصرك، ضبطت لسانك، ضبطت حركتك، ضبطت يديك، ترقى إلى الله.
فلذلك أؤكد لكم لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنات، هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
الخاتمة:
الآن مع موازنة سريعة
قال الله تعالى: أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ
إنسان انضبط، غض بصره، ضبط لسانه، ضبط أذنه، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، أوقع حركته ضمن الشرع، مات على هذا الحال، هذا إنسان عند الله مكرم،
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ
كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ .
بينهما بون شاسع
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
فلذلك هذه الشهوات تحقق للإنسان لذائذ، واللذائذ آنية، ومتناقصة، وتعقبها كآبة، أما الإيمان فيحقق سعادة، اللذائذ حسية، تأتيك من الخارج وآنية، ومتناقصة، تتبعها كآبة.
أيها الإخوة، إذاً: حينما يتعرف الإنسان إلى الله عز وجل يوقع حركته انطلاقاً من شهواته وفق الحيز الذي سمح الله به، عندئذٍ يسلم.