بحث

الإنسان والشهوة

الإنسان والشهوة

بسم الله الرحمن الرحيم

     بادئ ذي بدء: قد يتوهم واحد من الناس أنه لولا الشهوات لما كانت المعاصي والآثام، وبالتالي لما كانت النار عقاباً لمن عصى لله في الدنيا، والحقيقة الصحيحة أنه لولا الشهوات ما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، كيف نرتقي إلى رب الأرض والسماوات؟ كيف نقبل عليه؟ كيف نثق أنه يحبنا؟ كيف نطمع برحمته؟ كيف نناجيه إن لم ننضبط؟ أعطانا شهوات، أعطانا معها حرية الاختيار، فأيّ شهوة يمكن أن تتحرك بسببها 180 درجة سمح لك بمئة درجة، الدين كله، الانضباط كله، الصبر كله، أن توقع حركتك مع هذه الشهوة ضمن الحيز الذي سمح الله به، هذا إن أردت أن تضغط الدين كله 

 

لكلُّ شهوة قناة نظيفة:   

     الإنسان يحب المرأة، في أعماقِ أعماقه أودع الله في الإنسان حب الأنثى، وفي أعماق الأنثى أودع الله فيها حب الرجل، وهيأ قناة نظيفة طاهرة، ترقى بالإنسان، هي قناة الزواج، فهذه الشهوة تلبَّى في هذه القناة. والإنسان أودع الله فيه حب المال بكل إنسان، رسم له طريق لكسب المال الحلال طريق العمل، طريق التجارة، الصناعة، الزراعة، الوظيفة، الخدمات، الإرث، الهبة، الصدقة، إنها طرائق عديدة لاكتساب المال، كلها شرعية، لكن هناك سرقة، وغش، واحتيال، وتدليس، وكذب، هناك طرائق عديدة لكسب المال الحرام، ما هو الدين؟ أن توقع حركتك في الحيز الذي سمح الله به، هذا المعنى أشارت إليه آية كريمة، قال سيدنا شعيب:  ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ الذي تبقى لكم من كل شهوة الحيز الذي أباحه الله لنا من كل شهوة هو الذي يسعدنا ويسلمنا 

 

الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه: 

     فلذلك قال الله عز وجل:  ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾ الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه. أدق مثل أرويه: أن هذا البنزين في السيارة، الوقود السائل إذا وضع في المستودع المحكَم، وسال في الأنبوب المحكم، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة، أقلّتك هذه السيارة أنت وأهلك في يوم جميل من أيام الربيع إلى الحدائق، وسعدتَ بهذه النزهة، ما الذي يجري؟ انفجارات، لكنها منضبطة وفق تصميم السيارة، صفيحة البنزين نفسها صبَّها على السيارة، أعطها شرارة، أحرقت المركبة ومن فيها، السائل هوهو، كان حركة دافعة نافعة مسعدة، فأصبح حركة مدمرة محرقة قاتلة، هذه الشهوات، فهي سلم نرقى بها أو دركات نهوي بها. سيدنا يوسف عبدٌ في بيت دعته امرأة ذات منصب وجمال، سيدة القصر دعتْه إلى نفسها.  ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾  أودع في السجن، فصار عزيز مصر. إذاً: لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لم تكن جنة، ولولا الشهوات لم يكن نعيم مقيم. 

 

بالشهوات ترقى إلى الله صابرً وشاكرا:

     الشهوات فيها شيء رائع جداً، فيها رقي إلى الله مرتين. مثلاً: إذا كان المسلم يمشي في الطريق، ومر على نساء كاسيات عاريات، فقال:  ﴿مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ 

     غض بصره عنهن، يرقى إلى الله صابراً، تزوج، واختار فتاة ضمن طموحه، جلس معها، سعد بها، ملأ عينيه من محاسنها، يرقى إلى الله. فأنت ترقى إلى الله صابراً، وترقى إلى الله شاكراً. 

 

الشهوات محرك الحياة: 

     الشهوات لا بد منها، الشهوة هي كالمحرك في السيارة. هذه الطاولة اتركها مئة سنة هنا، لا تتحرك، لأنه ما فيها شهوات، أما الإنسان فقد أودع الله فيه حاجة إلى الطعام والشراب، فهل تبقى جالسا في مكان واحد؟ نريد أن نأكل، يبحث عن عمل، يدرس، يتعين بوظيفة، يداوم، يعمل، يأكل، الشهوة قوة محركة، ولولا الشهوات ما رأيت على وجه الأرض شيئا، لا جسرا، ولا جامعة، ولا بناء، ولا بستانا، ولا زراعة، ولا معملا، ولا باخرة، ولا سيارة، لماذا تعمل؟ لأنك مضطر أن تعمل من أجل أن تكسب المال، من أجل أن تأكل. فهذه الشهوات هي قوى محركة، تصور مركبة فيها محرك هي الشهوات، فيها مِقود هو العقل، فيها الشرع هو الطريق، مهمة المحرك أن ينطلق بالسيارة، مهمة العقل أن يبقيها على الطريق. 

 

التفوق أساسه شهوة: 

     فتأكيد الذات، أن تشعر بأهميتك، أن تتوق إلى العلو، إلى التفوق، هذا حيادي، هناك طريق مشروع للتفوق، وطريق مشروع للسقوط. التفوق أساسه شهوة، لكن هذه الشهوات حيادية، يمكن أن نرقى بها إلى أعلى عليين، ويمكن أن نهوي بها إلى أسفل سافلين، لا أحد يتألم من كلمة شهوة، طريقنا إلى الله، تعمل لتكسب مالا حلالا، تشتري بذلة للعيد، تدخل إلى البيت لتزور أقرباءك، ما هذه الأناقة! هذه شهوة، لكنها مشروعة.  ((أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس))  قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ)). 

 

الشهوة حيادية: 

     لأنك مخير فكل شيء في حياتك حيادي، كيف؟ شهواتك حيادية، وحب المال حيادي، يمكن أن تكسبه من طريق مشروع، وأن تنفقه في طريق مشروع، فترقى به إلى أعلى عليين، بالمال، ويمكن أن تكسبه من طريق غير مشروع، وأن تنفقه إنفاقا غير مشروع، فتهوي به إلى أسفل سافلين، والمال هو هُو. إنسان يبني مسجدا، أو ميتما، أو معهدا شرعيا، أو مؤسسة خيرية، يموت وهذا الخير يستمر إلى يوم القيامة، وهو في صحيفته، وقد يبني ملهى أحياناً، أيضاً صدقة جارية، لكن من نوع ثانٍ، يموت ويمضى مئة سنة على موته، كلما دخل واحد إلى الملهى كان وزرُه في صحيفته. واحد يرقى إلى أعلى عليين، وواحد يهوي به إلى أسفل سافلين، والعمليتين عملية شهوة، والمال محبوب، لكن أُنفق المال فيه بخلاف طبع الإنسان، هذه الشهوات.  

 

ضبط الشهوة أساس حضارة المسلمين :   

     ما من شهوة أودعت فيك إلا لها قناة نظيفة تسري خلالها، لذلك مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، أنت معك منهج، ما هو الدين؟ الدين هو الضبط، أن تضبط حركتك بدافع شهواتك وفق منهج الله، وفق الحيز الذي سمح الله لك به، هذا هو الدين، هذه هي الاستقامة، هذا هو العمل الصالح، أن تأتي الحركة وفق منهج الله. لذلك قال تعالى:  ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.  الجنة كلها لمن ضبط شهواته، يقولون: حضارة المسلمين أساسها ضبط الذات، وحضارة الغربيين أساسها السيطرة وضبط الطبيعة.   حينما تفهم الشهوات قوى دافعة، ولا ينبغي أن تكون قوى مدمرة تكون فقيهاً. لما تجد في القرآن تحريما كيف تفهم التحريم؟ حقل واسع مكتوب على لوحة: حقل ألغام، ممنوع التجاوز، أنت كإنسان مدني، وحضاري، هل تشعر بحقد على من وضع هذه اللوحة؟ أبداً، بالعكس، تكون ممتنا لمن وضعها، لأن واضع اللوحة حريص على سلامتك، لمجرد أن تراها حداً لحريتك فأنت لست بفقيه، أما إذا علمت علم اليقين أنها وضعت ضماناً لسلامتك فأنت فقيه. فالله سبحانه وتعالى جعل هذه الشهوات سلماً نرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، ولكن مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يكون في الإسلام حرمان. 

     الشهوة أحد أهم مقومات التكليف، من أجل أن تصل إلى الله، أن تصل إلى الجنة، أودع الله فيك الشهوات، لترقى بها مرتين مرة صابراً، ومرة شاكراً إلى رب الأرض والسماوات، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها. 



المصدر: العقيدة والإعجاز - مقومات التكليف - الدرس : 15 - الشهوة -1- يمكن أن نقلب شهواتنا إلى عبادات ونرقى بها صابرين وشاكرين