بحث

الإنسانية في الإسلام

الإنسانية في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

     إنّ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، إنها تشغل حيزاً كبيراً في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية، وقد ربطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطاً محكماً؛ فالإنسانية في الإسلام ليست مجرد أُمْنية شاعرية تهفو إليها بعضُ النفوس، وليست فكرة مثاليةً تتخيَّلها بعضُ الرؤوس، وليست حِبراً على ورق سطّرته بعضُ الأقلام، إنها ركنٌ عقدي، وواقع تطبيقي، وثمار يانعة. مِن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة:  

     مبدأُ الإخاء الإنساني: إنه مبدأ قرَّره الإسلامُ بناءً على أنّ البشرَ جميعاً أبناءُ رجُلٍ واحد وامرأة واحدة، ضمَّتهم هذه البنوّةُ الواحدةُ المشتركة، والرحمُ الواصلة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾  ولعل كلمة: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ ، وكلمة [ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ   [ تلزمنا أن نفهم كلمة [الْأَرْحَامَ [ في هذه الآية على أنها الرحم الإنسانية العامة التي تسع البشر جميعاً. و   النبي صلى الله عليه وسلم يقرِّر هذا الإخاء ويؤكِّده كل يوم أبلغ تأكيد حيث يدعو فيَقُولُ: ((...اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ...))    النبي صلى الله عليه وسلم يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً، لا بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين وحدهم، بل هي أخوة بين بني البشر جميعاً، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وطبقاتهم ومللهم ونحلهم. ويزداد هذا الإخاء توثقاً وتأكداً إذا أضيف إليه عنصر الإيمان فتجتمع الأخوة الدينية إلى الأخوة الإنسانية فتزيدها قوة إلى قوة، ولما كان باب الإيمان مفتوحاً لكل الناس بلا قيد، ولا شرط، ولا تحفظ على جنس أو لون أو إقليم أو طبقة، فإنّ الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان والعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام بل يشده ويقويه، فلا تناقض بين الإخاء البشري العام وبين الإخاء الديني الذي تشير إليه الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾    ويشير إليه الحديث قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). و النبي صلى الله عليه وسلم ربط ربطاً محكماً بين الأخوة الإنسانية وبين الإيمان، قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).  لقد طبَّق الإسلامُ هذا الإخاء الرفيع، وأقام على أساسه مجتمعاً ربانياً إنسانياً فريداً اضمحلَّتْ فيه فوارق الجنس واللون والقبيلة والطبقة. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلمان منا أهل البيت)) 

     مبدأ المساواة الإنسانية: من ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة مبدأ المساواة الإنسانية، فقد قرره الإسلام ونادى به، وهو ينطلق من أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان لا من أي حيثية أخرى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾  و لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية  ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى...)) 

     حرمة الدماء والأموال والأعراض: النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها مؤمنة بوعده ووعيده مؤمنة بأنه يعلم سرَّها وجهرها، لأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها، ولا تُبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بنت مجدها على أنقاض الآخرين، وبنت غناها على فقرهم، وبنت عزها على ذلهم، بل ربما بنت حياتها على موتهم، لذلك قال الرسول الكريم في حجة الوداع: ((… قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ … )) 

     المال ينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس: المال قوام الحياة، وأنه إذا ولد المالُ المال من دون جهد حقيقي يسهم في إعمار الأرض، وإغناء الحياة، تجمَّع في أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويُلجأ إلى العنف، والربا يُسْهِم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، لهذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((... أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِباً كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ...لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)) 

     المرأة مساوية للرجل تماماً:  النساء شقائق الرجال، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث أنها مكلفة كالرجل بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، ومساوية له من حيث استحقاقُها الثواب والعقاب، وأنها مساوية له تماماً في التشريف والتكريم، لهذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: ((أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً، إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً ...))

     الاعتداء على أية نفس اعتداء على الإنسانية كلها:  النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة رجل وصفه القرآن بأنه من أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك  قال: أليس إنساناً، لذلك عدّ الإسلام الاعتداء على أية نفس اعتداء على الإنسانية كلها، كما عدّ إنقاذَ أية نفس إحياء للناس جميعاً، وهذا ما قرره القرآن الكريم بوضوح جلي، قال الحكيم الخبير: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ 

     الحرام في شريعة الإسلام يَتَّسِم بالشمول والاطِّراد:   فليس هناك شيء حرام على الأعجمي حلال على العربي، وليس هناك شيء محظور على الملون مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لفئة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له، كلا إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة. ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وأيمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) 

     الدعوة إلى السلام بأوسع معاني هذه الكلمة:  بمعانيها الفردية والجماعية، والمادية والروحية، والدنيوية والأخروية. قال تعالى:   ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾   إنّ الإنسان ـ أيَّ إنسان ـ في أي زمان ومكان، مفطور على حبِّ وجوده، وعلى حبِّ سلامة وجوده، وعلى حبِّ استمرار وجوده، وعلى حب كمال وجوده؛ وبكلمة موجزة: مفطور على حب سلامته وسعادته، وهذان المطلبان الثابتان لدى أي إنسان لا يتحققان إلا حينما يطبق منهج الذي خلقه، فهو خبير بأسباب سلامته وسعادته، قال تعالى:   ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾    أين نجد منهج الذي خلقنا، وهو الخبير بأسباب سلامتنا وسعادتنا؟ إننا نجده في كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم، في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي يهدي للتي هي أقوم، وهو هدىً وبيان، وموعظة وبرهان، ونور وشفاء، وذِكْر وبلاغ، ووعد ووعيد، وبشرى ونذير، يهدي إلى الحق وإلى الرشد، وإلى صراط مستقيم، يُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيه تبيان لكل شيء وهو شفاء لما في الصدور، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم ؛ من ابتغى الهدى في غيره أضله الله فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، لا يشبع منه العلماء، ولا يَخلق عن كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، مَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. 



المصدر: الخطب الإذاعية - الخطبة : 49 - النزعة الإنسانية في الإسلام - ظاهرة الزلازل .