ظاهرة أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام قبل ألف وأربعمئة عام ((...وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه...)) رأيه هو الدين، فإذا تشبَّث به بحث عن الأدلّة، بحث عن دليلٍ يؤيّده ولو كان ضعيفاً، وردَّ دليلاً يعارضه ولو كان قوياً، آفةٌ خطيرة جداً أن يكون الرأي هو الدين، أن يحتكم الإنسان إلى رأيه وعقله لا إلى وحي ربِّه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن مِن ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)) لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك)) وقد ذكر علماء الحديث أن هذا في عصر الفتن، في عصر إعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، في عصر إذا أنكرت منكراً نشأ عن إنكار المنكر فتنةٌ أكبر مِن المنكر الذي تُنكره لعلها حالةٌ خاصة، ما قال النبي عليه الصلاة والسلام هذا الكلام إلا لأن الله كشف له أن هذا بسبب تغيِّر الزمان وفساد الأحوال.
ربنا عز وجل قَسَّمَ الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما؛ إما الاستجابة لله وللرسول وما جاء به، وإما اتّباع الهوى، طريقان لا ثالث لهما، إن لم تكن على أحدهما فأنت على الآخر قطعاً، ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إما أن تستجيب للوحيين، الكتاب والسنة، وإما أنك مُتَّبع الهوى، ومتبع الهوى وصفه الله عز وجل وقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ ولعل علماء التفسير استنبطوا استنباطاً آخر، هو المعنى المخالف: مَن يتبع هواه وفق منهج الله فلا شيء عليه، اشتهى المرأة فتزوَّج، واشتهى المال فكسب كسباً مشروعاً واشتهى العلو فضاعف جهده في طاعة الله له، وفي خدمة الخلق، فرفع الله له ذكره، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ هذا مطلبٌ أساسيٌ في الإنسان، الإنسان عنده دوافع ثلاث: دافعٌ إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده هو، حفاظاً على الفَرد، ودافعٌ إلى الجِنس، حفاظاً على النوع، ودافعٌ إلى العلو وتأكيد الذَّات حفاظاً على الذِكْر، كل هذه الدوافع تُرَوَّى في حيّز الإيمان، وأنت مع الواحد الديان، وأنت مطمئنٌ إلى رضوان الله وطاعته، هذه الآية الأولى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إن لم تستجب لله وللرسول، أي إن لم تستجب لله في كتابه، وللرسول في سنته فأنت على خط الهوى، خطَّان لا ثالث لهما إن لم تكن على أحدهما فأنت على الآخر.. آيةٌ ثانية: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ قسَّم سبحانه الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه وتعالى عليها، وأوحى إليه العمل بها، وأمر الأمة بها، وبين إتباع أهواء الذين لا يعلمون، فأمَرَ بالأول ونهى عن الثاني.
إذا تنازعتم مع بعضكم بعضاً، ردوه إلى الله في كتابه، وإلى الرسول في سُنَّته، فهل يعقل أن يحيلنا الله عز وجل على شيئين لا نجد فيهما حاجتنا في التشريع؟ قال تعالى : ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ هذه الآية دليل قطعيٌ على أن هذا التشريع كامل وعلى أن هذا التشريع فيه كل حاجات البشر إلى يوم القيامة.. الرد إلى الله والرسول من موجبات الإيمان من لوازم الإيمان، فمن لم يرد الأمر إلى الله في كتابه، وإلى النبي في سنته، فقد أبعد عنه الإيمان وانتفى عنه الإيمان، وخرج مِن الإيمان، مَن فكَّر في حل مشكلةٍ بعيداً عن شرع الله وشرع رسوله فقد انعتق مِن الإيمان، وانسلخ مِن الإيمان، وأكَّد أنه يؤمن بمَن في الأرض ولا يؤمن بإله السماء ولا رسول هذا الإله العظيم. المنافقون يعرضون ولم يستجيبوا لهذه الدعوة، قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي إذا دُعِيَ المسلمون إلى تحكيم كتاب الله وتحكيم سنة رسوله، فأبوا وأرادوا المقاييس الغربية، والحضارة الغربية، إن أرادوا نمط الحياة الذي رأوه في هذه الإعلاميّات، إن أرادوا أن يعيشوا كما يعيش أهل الغرب بعيدين عن سنة نبيهم، فليهيِّئوا أنفسهم لسلسةٍ مِن المصائب لا نهاية لها. المؤمن الحق كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾. كان سيدنا عمر وقَّافاً عند كتاب الله، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها ، في أية قضيةٍ عُد إلى حُكم الله عز وجل، أو إلى سنة رسول الله.. ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.