بحث

الإيمان باليوم الآخر حاجة عقلية ونفسية واجتماعية

الإيمان باليوم الآخر حاجة عقلية ونفسية واجتماعية

بسم الله الرحمن الرحيم

     لو استعرضنا أركان الإيمان: الإيمان بالله ،  الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل، الإيمان بالقدر خيره وشره من الله. هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان, فما من ركنين تلازما في القرآن الكريم تلازما يثير الدهشة, كركني الإيمان بالله واليوم الآخر.  

     الإيمان بالله وحده لا يحملك على طاعة الله, أما إذا آمنت أن الله موجود, ويعلم, وسيحاسب, فلا يمكن أن تعصيه. حينما قال الله عز وجل:﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا....﴾ أن خلق السموات والأرض علته؛ أي سببه، أن تعلموا، ﴿....أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ اختار الله من كل أسمائه اسمين, اسم العليم, واسم القدير, علمه يطولك، وقدرته تطولك، وأنت لو أيقنت فلا يمكن أن تعصيه.

     إذا آمنت باليوم الآخر، آمنت أنه لا بد أن تقف بين يدي الله عز وجل، لتُسأَل عن أي شيء فعلته، لمَ فعلته؟عن أي شيء لم تفعله لمَ لمْ تفعله؟ عن أي طلاق تعسفي، عن أيّ علاقة مشبوهة, عن أي عطاء لغير الله، عن أي منع لغير الله، عن أي رضاً لغير الله، عن أي غضبٍ لغير الله، حينما تعلم أن الله سيسأل، وسيحاسب، وسيعاقب، حينئذٍ لا بد أن تستقيم على أمر الله. عقيدة أهل الكفر,  ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين*﴾ هذه عقيدة أهل الكفر، سواءً صرحوا بها أو لم يصرحوا، أعلنوها أو لم يعلنوها، الكافر يعتقد أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، فمن كان بها غنياً كان بها سعيداً، ومن كان فيها فقيراً كان فيها شقياً، من كان فيها قوياً أخذ ما له وما ليس له، ومن كان فيها ضعيفاً أُخذ مما في يديه، فإن جعلت الدنيا أكبر همك، ومبلغ علمك، ومنتهى أملك، همك الأول الدرهم والدينار، والعلو في الأرض، فأنت مما يعتقد هذا، ولو لم تنطق به. مثلاً جامعة كلَّفتْ عند إنشائها الملايين مخابر, وقاعات تدريس، وبيوت طلبة، وحدائق، وملاعب، وقاعات محاضرات، ومكتبة ضخمة، فهل مِن المعقول ألاّ يكون في آخر العام امتحان؟ أو يكون كل واحد دخل إلى هذه الجامعة متنزهاً ينال الشهادة من دون دراسة, وهذه عقيدة أهل الكفر:  ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين﴾ رد الله عليهم: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى*﴾. نحن جميعا، حكم علينا بالموت مع وقف التنفيذ. كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً يقول:  ((‏الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي رَدَ عَلَيّ رُوحِي، وَعافانِي في جَسَدِي، وأذِن لي بذِكْرِهِ)) ما لم تعتقد أن الله سيبعثك ليوم لا ريب فيه، وسيسألك عن أي عمل مهما بدا لك صغيراً فأنت لست مؤمنا. أعرابي قال يا رسول الله - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عظني ولا تطل، قال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ قال: كفيت، قال عليه الصلاة والسلام: فَقُه الرجل . يقول الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ هكذا، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالمطر، كذلك يحيي هذه الأجساد الفانية بقدرته العظيمة.   

     دليل اليوم الآخر دليل نقلي، فالله عز وجل أخبرنا أن هناك حياة بعد هذه الحياة، يُحاسَب فيها الإنسان عن أعماله. دليل اليوم الآخر دليلٌ عقلي، كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فهل يقبل هذا العقل السليم أن هذا الإله العظيم خَلَق قوياً، وخَلَق ضعيفاً، وأن الموت ينهي كل شيء، فالقوي استعلى, وتغطرس، واستكبر، وظلم، وأخذ ما ليس له، والضعيف أُخذ منه كل شيء، وانتهت الحياة على هذا؟ لا بد من يوم تسوى فيه الحسابات. لولا الإيمان بهذا اليوم لانهار الإنسان، لكن العبرة بوجود اليوم الآخر، الغنى والفقر بعد العرض على الله، والعز والذل بعد العرض على الله، العلو والدنو بعد العرض على الله. الذي خلق هذه الأكوان لا يعقل أن يترك الإنسان سدى، بل لا بد أن يُحاسَب، ويقف بين يديه ليحقَّ الحق والعدلَ.  ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.  أي قانون يصدر في أي بلد في العالم إلاّ وله مؤيد قانوني. تصور قانون السير بلا عقوبات عليك أن تمشي على اليمين، أن تقود مركبة مع إجازة، وليس هناك عقاب، فمَن يطبق؟ لكن هناك مخالفة، وبهذه المخالفة تُسحَب منك الإجازة، هذه المخالفة فيها حجز مركبة، وهذه المخالفة تؤدِّي إلى السجن، لا يمكن أن يطبق نظام على وجه الأرض إلا بمؤيد قانوني. كذلك الايمان بالله هو العقيدة والمؤيد القانوني لهذا الإيمان هو اليوم الآخر. لن تستقيم على أمر الله إلا إذا آمنت أن الله يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب  ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ . الإيمان باليوم الآخر أساس عقيدتنا, بل إن الركنين المتلازمين من أركان الإيمان هما أن تؤمن بالله واليوم الآخر، تطرح على نفسك سؤالاً في أيِّ موقف: ماذا سأجيب الله يوم القيامة؟ قال سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏: ((والله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟)) لأنه مؤمن باليوم الآخر.  

     إن آمنت باليوم الآخر يجب أن تنعكس مقاييسك، فتصبح سعادتك بالعطاء لا بالأخذ، إن آمنت باليوم الآخر تنقلب كلَّ المفاهيم، تستيقظ صباحاً تبحث عن عمل صالح يرضي الله، يا رب هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك.   

     إن آمنت باليوم الآخر هيأت نفسك لهذا اليوم، لأنّك آمنت بالامتحان فتدرس له، لأنه عندك يقين قطعي أن هناك امتحانًا، وعقب هذا الامتحان يعز المرء أو يهان، وإذا نجحت نلتَ شهادة عليا، وعيِّنتَ في منصب رفيع، بدخل كبير. تصور إنسانًا ـ وهذا مثل افتراضي ـ فقيرًا جداً، قيل له: اذهب إلى بلد غربي، واحصل على الدكتوراه، وسوف تعود إلى بلدك، وتستلم أعلى منصب في وزارة الصحة، يُقدَّم لك أجمل بيت في أرقى الأحياء، وتركب أجمل مركبة، ولك أكبر دخل ـ افتراض ـ وهذا الإنسان فقير، فماذا يفعل؟ يذهب إلى بلد غربي، ويعمل في جلي الصحون في مطعم، ويعمل حارسًا ليليًا، ويدرس ويثابر، وهو يعلق أهمية على هذه الشهادة لا حدود لها، نال هذه الشهادة، وأخذ وثيقة عنها، وصدقها من الجامعة, وصدقها من الخارجية والسفارة، واشترى بطاقة طائرة، وذهب إلى المطار، وأخذ بطاقة صعود للطائرة، ووضع رجله في أول سلم الطائرة. هل تعتقدون أن في الأرض من هو أسعد منه؟ انتهى عهد الحراسة، والعمل في المطعم، والدراسة حتى الساعة الثانية ليلاً، ودخول الامتحان كله انتهى. ولما وضع رجله على الطائرة كان أسعدَ إنسان، هذا مَثَلٌ تقريبي. المؤمن الصادق حينما يأتيه ملك الموت، ووصل إلى الدار الآخرة فهو أسعد إنسان على الإطلاق, لذلك قالوا: الموت تحفة المؤمن.ثلاثين سنة يغض بصره، ويضبط لسانه، وينفق ماله، ويخدم الناس، يرجو رحمة الله في هذا اليوم، ثم جاء هذا اليوم ونفسه مطمئنة.  

     الإيمان باليوم الآخر مريح للقلب وللنفس، بينما حالات قهر تصيب من لم يؤمن بهذا اليوم. ليس بيده شيء، وهناك إنسانٌ أمْره بيده، وهو لا يحبه. إذا لم تؤمن باليوم الآخر تشعر بخلل كبير في الحياة، وتشعر بحقد شديد، وبضغط نفسي لا يُحتمَل. أنا مهمتي أن أرضي هذا الإله، وأن الأمر كله بيده. فالعمل الصالح يعود عليك بالسعادة الأبدية, ويريحك راحة كبرى فالمؤمن متوازن، والعبرة بعد الموت. ذات مرة أحبَّ شخصٌ أنْ يداعبني مداعبة فكرية، قال لي: تقول إنّ المؤمن سعيد، وأنا أقول: لا، هو مثل الناس لا ميزة له عنهم. إذا كان ثمة غلاء أسعار يكتوي بغلاء الأسعار مثلهم، إذا اشتدّ الحر ناله منه نصيب ما ينال غيرَه، فهذا الشخص لا يرى للمؤمن ولا ميزة. غير أنّ الله ألهمني مثلاً فضربتُه له، قلت: لو افترضنا فقيرًا دخله أربعة آلاف، وعنده ثمانية أولاد، فهذا المبلغ مع هذه الأسرة لا يكفي، وبيته بالأجرة، وعليه دعوى إخلاء، وأولاده مرضى، ودخله لا يكاد يكفيه، وهموم بعضها فوق بعض، له عم يملك خمسمئة مليون، وليس له أولاد، وتوفي في حادث، هذه الخمسمئة مليون لمن؟ لهذا الفقير. لكنه لن يقبض منها درهمًا واحدًا قبل سنتين بحسب الإجراءات المالية. لماذا هو أسعدُ الناس؟ ما قبض شيئًا، وما أكل لقمة زائدة على عادته، وما سكن بيتًا جديدًا، وما ارتدى ثيابًا جديدة، لكنه دَخَلَ في الوعد. قال تعالى:  ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ وكون الله سبحانه وعدك بالجنة، فوعدُ الله حق، قال تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ﴾.



المصدر: الإيمان باليوم الآخر - الدرس : 1 - أهمية الإيمان باليوم الآخر وأسبابه