بحث

الإيمان باليوم الآخر حاجة عقلية ونفسية واجتماعية

الإيمان باليوم الآخر حاجة عقلية ونفسية واجتماعية

بسم الله الرحمن الرحيم

      قال الله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ  

الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان:  

      لو استعرضنا أركان الإيمان:  

  1. الإيمان بالله.  
  2. الإيمان باليوم الآخر.   
  3. الإيمان بالملائكة.   
  4. الإيمان بالكتب.  
  5. الإيمان بالرسل.  
  6. الإيمان بالقدر خيره وشره من الله.  

التلازم بين الإيمان بالله واليوم الآخر:  

      هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان، فما من ركنين تلازما في القرآن الكريم تلازما يثير الدهشة، كركني الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الإيمان بالله وحده لايحملك على طاعة الله، أما إذا آمنت أن الله موجود، ويعلم، وسيحاسب، فلا يمكن أن تعصيه.  

      حينما قال الله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا  

      كأن خلق السموات والأرض علته ؛ أي سببه، أن تعلموا.  

       لِتَعْلَمُوا  

       أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً  

      إذا آمنت باليوم الآخر، آمنت أنه لا بد أن تقف بين يدي الله عز وجل، لتُسأَل عن أي شيء فعلته، لمَ فعلته؟ عن أي شيء لم تفعله لمَ لمْ تفعله؟ عن أي طلاق تعسفي، عن أيّ علاقة مشبوهة، عن أي عطاء لغير الله، عن أي منع لغير الله، عن أي رضاً لغير الله، عن أي غضبٍ لغير الله.  

      حينما تعلم أن الله سيسأل، وسيحاسب، وسيعاقب، حينئذٍ لا بد أن تستقيم على أمر الله.  

الكفر باليوم الآخر ليس فقط بالتصريح:  

      أيها الأخوة الكرام، أعرض لكم عقيدة أهل الكفر، مبينا ماذا يعتقد هؤلاء في كتاب الله؟   

       أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين*  

      هذه عقيدة أهل الكفر، سواءً صرحوا بها أو لم يصرحوا، أعلنوها أو لم يعلنوها، الكافر يعتقد أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، فمن كان بها غنياً كان بها سعيداً، ومن كان فيها فقيراً كان فيها شقياً، من كان فيها قوياً أخذ  ما له  وما ليس له، ومن كان فيها ضعيفاً أُخذ مما في يديه، هكذا لا يجرؤ مؤمن أن يقول هذا الكلام،لكن إذا دققت في أعمال بعض ممن يدعي الإيمان تجد أعمالهم تنطق بهذه العقيدة، فهو لا يرى إلا الدنيا  ولا يرى إلا المال، ولا يرى إلا المادة، ولا يرى إلا العز، لذلك إذا دعي من فقير ضعيف لا يلبي الدعوة، ويدَّعي أنّ وقته مزدحم، أما إنْ دعاه غني أو قوي يكن أول الحاضرين. يقول الله تعالى في كتابه العزيز مبينا عقيدة أهل الكفر: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين*  

      فإن جعلت الدنيا أكبر همك، ومبلغ علمك، ومنتهى أملك، همك الأول جمع المال، والعلو في الأرض، فأنت مما يعتقد هذا، ولو لم تنطق به.   

      العبرة أيها الأخوة، الفعل الذي ينطلق من قناعة ومن رؤية، فلا قيمة للفظ إلا بالمعنى.  

      في هذا العصر اختلطت المفاهيم قد تعبر عن أسوأ النوايا بأحلى الألفاظ، قد يكون بينك وبين إنسان عداوة عميقة، فتبتسم له، وتبش في وجهه، وتثني عليه، هكذا طبيعة العصر، طبيعة أساسها النفاق، أساسها الازدواجية. موقف معلن، وموقف مبطن، شيء ظاهر، وشيء باطن، والعجيب أن سلوك بعض من يدعي الإيمان ينطلق من هذه العقيدة، الدنيا هي كل شيء، رد الله على هذه العقيدة فقال: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى  

الدليل العقلي على اليوم الآخر:  

      إن لوجود اليوم الآخر دليلٌ عقلي، كما أن له دليل نقلي، فالله عز وجل أخبرنا أن هناك حياة بعد هذه الحياة، يُحاسَب فيها الإنسان عن أعماله.  

      أما الدليل العقلي فهو أن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، فهل يقبل هذا العقل السليم أن هذا الإله العظيم خَلَق قوياً، وخَلَق ضعيفاً، وأن الموت ينهي كل شيء، فالقوي استعلى، وتغطرس، واستكبر، وظلم، وأخذ ما ليس له، والضعيف أُخذ منه كل شيء، وانتهت الحياة على هذا؟  

      كمال الخلق يدل على كمال التصرف. العقل لا يرضى أن تنتهي الحياة هكذا، خَلَق غنيًا يكاد يتمزق من شدة التخمة، وخلق فقيراً يكاد يموت من الجوع، وتنتهي الحياة.  

      خلق إنسانًا وسيمًا ترنو إليه الأبصار، وخلق إنسانًا دميمًا تتفاداه الأبصار، وتنتهي الحياة هكذا، لا بد من يوم تسوى فيه الحسابات.  

      مثلاً جامعة كلَّفتْ عند إنشائها الملايين مخابر، وقاعات تدريس، وبيوت طلبة، وحدائق، وملاعب، وقاعات محاضرات، ومكتبة ضخمة، فهل مِن المعقول ألاّ  يكون في آخر العام امتحان؟ أو يكون كل واحد دخل إلى هذه الجامعة متنزهاً ينال الشهادة من دون دراسة،يقول الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى  

      هكذا.  

       أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى  

      أنت مكوَّن من حوين، من خمسمئة مليون حوين، قذَفها الرجل، واختارت البويضة حويناً واحداً، دخل إليها، ولقحها، وانقسمت، ثم أصبحت إنساناً بعد تسعة أشهر وعشرة أيام، هذا الذي خلق الإنسان من حوين، من ماء مهين، تستحي به لو كان على ثيابك.  

      خرجت من عورة، ودخلت إلى عورة، ثم خرجت من عورة، ثلاث مرات، مرة خرجت، ثم دخلت، ثم خرجت، ثلاث عورات يستحي أشد الناس وقاحة أن يظهر عورته، وهذا معنى الآية يقول الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *  أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى*  

      بلى.   

      وهذه عقيدة أهل الكفر: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين  

      رد الله عليهم   

       أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يكن نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى   

      وقالوا: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً*   

      فالعظم مع الأيام يتلف، ويصبح كالرميم، أما قطعة حديد فمستحيل.  

       قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً  

       أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً  

       وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ  

الإيمان باليوم الآخر والعمل له شرط الإيمان:  

      ما لم تعتقد أن الله سيبعثك ليوم لا ريب فيه، وسيسألك عن أي عمل مهما بدا لك صغيراً فأنت لست مؤمنا.   

      أعرابي لا يحمل شهادةً عالية، وليس عنده مكتبة ضخمة، وما حضر مجالس علم، ولا حضر مؤتمرًا إسلاميا ، ولا عنده مكتبة صوتيه،   

       قال أعرابي يا رسول الله - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –  عظني ولا تطل،  

       قال:  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ  

       قال: كفيت  

       قال عليه الصلاة والسلام: فَقُه الرجل.  

      يقول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  

      هكذا، فكما أن الله يحيي الأرض الميتة بالمطر، كذلك يحيي هذه الأجساد الفانية بقدرته العظيمة.  

      أيها الأخوة، ربنا يقسم ويقول: وَالطُّورِ*  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ*  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ*   

      أيها الأخوة، لولا الإيمان بهذا اليوم لانهار الإنسان، لكن العبرة بوجود اليوم الآخر، الغنى والفقر بعد العرض على الله، والعز والذل بعد العرض على الله، العلو والدنو بعد العرض على الله.  

هذه الدنيا دارُ امتحان، فلذلك  وَالطُّورِ*  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ*  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ  

       إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع .  

      الذي خلق هذه الأكوان لا يعقل أن يترك الإنسان سدى، بل لا بد أن يُحاسَب، ويقف بين يديه ليحقَّ الحق والعدلَ.  

       أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ  

      تعالى أن يخلق الناس عبثاً   

آثار الإيمان باليوم الآخر:  

أولا: الإيمان باليوم الآخر دافع للاستقامة:    

      أيها الأخوة، لن تستطيع أن تستقيم على أمر الله إلا بكتاب الله، وهدي رسوله، لا تقل  ضمير، ولا تقل: مراقبة ذاتية، لا تقل: فلان تربَّى تربية منزلية راقية، فهذا غير واقعي. إن لم تؤمن أن هناك يوماً تُحاسَب فيه عن كل شيء فلن تستقيم.   

      أي قانون يصدر في أي بلد في العالم إلاّ وله مؤيد قانوني. تصور قانون السير بلا عقوبات  عليك أن تمشي على اليمين، أن تقود مركبة مع إجازة، وليس هناك عقاب، فمَن يطبق؟ لكن هناك مخالفة بخمسة آلاف ليرة، وبهذه المخالفة تُسحَب منك الإجازة، هذه المخالفة فيها حجز مركبة، وهذه المخالفة تؤدِّي إلى السجن، لا يمكن أن يطبق نظام على وجه الأرض إلا بمؤيد قانوني.  

      كذلك الايمان بالله هو العقيدة والمؤيد القانوني لهذا الإيمان هو اليوم الآخر.  

      لذلك عليكم بالكلام الواقعي، ودعونا من كلام غير واقعي، دعونا من كلام محالٍ. قولهم أنه يجب أنْ نربي الإنسان تربية يتحمل المسؤولية من غير دين، لكن ما وجدناها أبداً.   

      إذا لم يكن مؤمنًا باليوم الآخر، وأن الله يراقبه، وسيحاسبه، وسيعاقبه، لن يستقيم على أمره، فهذا هو الكلام الواقعي، والعلم ما طابق الواقع، العلم هو الوصف المطابق للواقع مع الدليل.  

      لن تستقيم على أمر الله إلا إذا آمنت أن الله يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب   

       ولتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما   

       وأنت منضبط أشد الانضباط مع إنسان دونك، لكن علمه يطولك، وقدرته تطولك، قد يكون أقل منك بكثير، لكن آتاه الله قدرة عليك و يستطيع أن يكشف مخالفتك له، وأنت تقود مركبة، والإشارة حمراء، والشرطي واقف وأنت مواطن عادي. فهل مِن الممكن أنْ تتجاوز الإشارة الحمراء؟ مستحيل مع إنسان، فمع شخص ربما لا تحبه، وربما لا تعتبره، ومع ذلك تطيعه، فكيف بخالق الأكوان، وواهب الحياة للإنسان.  

      الإيمان باليوم الآخر أساس عقيدتنا، بل إن الركنين المتلازمين من أركان الإيمان هما أن تؤمن بالله واليوم الآخر، تطرح على نفسك سؤالاً في أيِّ موقف: ماذا سأجيب الله يوم القيامة؟  

ثانيا: تتغير كل المفاهيم والمقاييس لديك:  

      إن آمنت باليوم الآخر يجب أن تنعكس مقاييسك، فتصبح سعادتك بالعطاء لا بالأخذ، أما معظم الناس اليوم فسعادته بالأخذ لا بالعطاء، وسعادته أن يعيش على أنقاض الناس، أن يعيش وحده، أن يأكل وحده ما لذَّ وطاب، أن يسكن وحده في بيت فخم، أن يركب أجمل مركبة أن يستمتع بأية امرأة، دون أن يعبأ بالناس، ولا بمصير الشباب، ولا بمصير الفقراء.  

      فلذلك إن آمنت باليوم الآخر تنقلب كلَّ المفاهيم، تستيقظ صباحاً تبحث عن عمل صالح يرضي الله، يا رب هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. لأن الإيمان باليوم الآخر جزء من عقيدة المسلم.  

      فأنت عليك أنْ تؤمن باليوم الآخر إيمانًا حقيقيًّا، وحينئذٍ ستنعكس موازينك 180 درجة، إذا آمنت باليوم الآخر ترى كل سعادتك بالعطاء لا بالأخذ، كي يرضى الله عنك، وكي ترقى في جنة عرضها السموات والأرض، تعد للمليار قبل أن تؤذي قطة.  

      إذا آمنت باليوم الآخر تبحث عن عمل صالح، تبحث عن حرفة تخدم فيها عباد الله، تبحث عن شيءٍ ترضي الله به، تبذل وقتك، مالك، جهدك، ساعات قيلولتك، ساعات راحتك، في سبيل الله، وتسخِّر فكرك، ولسانك، ويدك، ووقتك، وجهدك  وعضلاتك  في سبيل الله.  

      أما إذا لم تؤمن فإنّك تستخدم جهود الآخرين، وتعيش على أنقاضهم، وتتمنى أن تعيش وحدك، وأن تأكل وحدك، وأن تستمتع وحدك.  

ثالثا: الاستعداد لذلك اليوم:  

      إذا آمنت باليوم الآخر هيأت نفسك لهذا اليوم، لأنّك آمنت بالامتحان فتدرس له، لأنه عندك يقين قطعي أن هناك امتحانًا، وعقب هذا الامتحان يعز المرء أو يهان، وإذا نجحت نلتَ شهادة عليا، وعيِّنتَ في منصب رفيع، بدخل كبير، فتزوجت، فإذا بنيت الدخل، والرزق، والزواج، والجاهَ، وعلو الشأن على هذا النجاح، وأنت موقن أن هذا الامتحان واقع لا محالة تدرس بلا كلَلٍ وملَلٍ.  

      سألوا مرة طالبًا نال الدرجة الأولى في امتحان شهادة مرموق، سألوه في صحيفة يومية  بمَ نلت هذا التفوق؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تغادر مخيلتي، ولا ساعة في أثناء العام الدراسي.  

      انظر لأيِّ إنسان لماذا المؤمن متوازن؟ لأنه منذ أنْ آمن فهذه حرام يتجنبُها، هذه ترضي الله فيقبِل عليها، ينفق ماله عن طيبِ نفسه، يترك الحرام رغم إغرائه، يغضب لله عز وجل، فهو يهيئ نفسه للموت قبل ثلاثين سنة، إذا جاء ملك الموت فهو جاهز، مِن ثلاثين أو أربعين سنة. كل دقيقة يحاسِب نفسه فيها حسابًا دقيقًا، هذه لا ترضي الله، هذه ترضي الله، هذا العمل يحبه الله، وذاك لا يحبه، فهو منسجم مع اليوم الآخر من ثلاثين سنة.  

      تصور إنسانًا ـ وهذا مثل افتراضي ـ فقيرًا جداً، قيل له: اذهب إلى بلد ما، واحصل على الدكتوراه، وسوف تعود إلى بلدك، وتستلم أعلى منصب في وزارة الصحة، يُقدَّم لك أجمل بيت في أرقى أحياء دمشق، وتقترن بأجمل زوجة، وتركب أجمل مركبة، ولك أكبر دخل ـ افتراض ـ وهذا الإنسان فقير، فماذا يفعل؟ يذهب إلى البلد، ويعمل في جلي الصحون في مطعم، ويعمل حارسًا ليليًا، ويدرس ويثابر، وهو يعلق أهمية على هذه الشهادة لا حدود لها، نال هذه الشهادة، وأخذ وثيقة عنها، وصدقها من الجامعة، وصدقها من الخارجية والسفارة، واشترى بطاقة طائرة، وذهب إلى المطار، وأخذ بطاقة صعود للطائرة، ووضع رجله في أول سلم الطائرة. هل تعتقدون أن في الأرض من هو أسعد منه؟ انتهى عهد الحراسة، والعمل في المطعم، والدراسة حتى الساعة الثانية ليلاً، ودخول الامتحان  كله انتهى.  

      ولما وضع رجله على الطائرة كان أسعدَ إنسان، هذا مَثَلٌ تقريبي. المؤمن الصادق حينما يأتيه ملك الموت، ووصل إلى الدار الآخرة فهو أسعد إنسان على الإطلاق، لذلك قالوا: الموت تحفة المؤمن.ثلاثين سنة يغض بصره، ويضبط لسانه، وينفق ماله، ويخدم الناس، يرجو رحمة الله في هذا اليوم، ثم جاء هذا اليوم ونفسه مطمئنة.  

      أيها الأخوة، الإيمان باليوم الآخر  يحملك على الاستعداد له، و أن يكون لك هدف في الحياة. فما دمت قد آمنت باليوم الآخر منذ أن تستيقظ، وحتى تنام، كان همك أن تعمل أعمالاً صالحة ترضي الله عز وجل، حققت الهدف من وجودك.  

رابعا: التوازن النفسي:  

      الإيمان باليوم الآخر مريح  للقلب وللنفس، بينما حالات قهر تصيب من لم يؤمن بهذا اليوم. ليس بيده شيء، وهناك إنسانٌ أمْره بيده، وهو لا يحبه.إذا لم تؤمن باليوم الآخر تشعر بخلل كبير في الحياة، وتشعر بحقد شديد، وبضغط نفسي لا يُحتمَل. أنا مهمتي أن أرضي هذا الإله، وأن الأمر كله بيده.  

      فالعمل الصالح يعود عليك بالسعادة الأبدية، ويريحك راحة كبرى فالمؤمن متوازن، والعبرة بعد الموت.  

      وذات مرة أحبَّ شخصٌ أنْ يداعبني مداعبة فكرية، هو غير ملتزم كثيراً، قال لي: تقول إنّ المؤمن سعيد، وأنا أقول: لا، هو مثل الناس لا ميزة له عنهم. إذا كان ثمة غلاء أسعار يكتوي بغلاء الأسعار مثلهم، إذا اشتدّ الحر ناله منه نصيب ما ينال غيرَه، فهذا الشخص لا يرى للمؤمن ولا ميزة.   

      قلت: لو افترضنا فقيرًا دخله أربعة آلاف، وعنده ثمانية أولاد، فهذا المبلغ مع هذه الأسرة لا يكفي، وبيته بالأجرة، وعليه دعوى إخلاء، وأولاده مرضى، ودخله لا يكاد يكفيه، وهموم بعضها فوق بعض، له عم يملك خمسمئة مليون، وليس له أولاد، وتوفي في حادث، هذه الخمسمئة مليون لمن؟ لهذا الفقير . لكنه لن يقبض منها درهمًا واحدًا قبل سنتين بحسب الإجراءات المالية.  

      لماذا هو أسعدُ الناس؟ ما قبض شيئًا، وما أكل لقمة زائدة على عادته، وما سكن بيتًا جديدًا، وما ارتدى ثيابًا جديدة، لكنه دَخَلَ في الوعد.  

      قال تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ  

      وكون الله سبحانه وعدك بالجنة، فوعدُ الله حق، قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ  

      ( أَتَى)  

      هو لم يأتِ بعد، والدليل ( فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)  

      لكن ( أَتَى)  

      لأن الله وعدك بالجنة.إذا كنت مؤمنًا صادقاً مستقيماً مخلصاً، يغلب على ظنك أنك من أهل الجنة. فهذا الوعد بالجنة يمتص كل همومِك الدنيوية مِن دون أن يترك همًّا، فأنت موعود بالجنة.  

      الإيمان باليوم الآخر يملأ قلبك طمأنينة، ويملأ قلبك سعادة، ويملأ قلبك توازناً، فلا تحقد، ولا تنافق، ولا تخاف، ولا تتألم، الأمر بيد الله، وإلى الله المصير، وإليه المنتهى.  

      وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى  

خامسا:  الوازع الداخلي:  

      أكاد أقول لكم: إن مجتمع المسلمين منضبطٌ ذاتيا بما يسمى بالوازع الداخلي،  بينما مجتمع غير المسلمين منضبطٌ خارجياً بما يسمى بالرادع.  

      فقد ارتكب في إحدى المدن غير المسلمة في ليلة واحدة مئتا ألف سرقة، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي لسلعات قليلة وكانت الخسائر ملايين من الدولارات، في ليلة واحدة.   

      فالإيمان بالآخرة ينمي الوازع الداخلي، وعدم الإيمان بالآخرة يجعل الإنسان وحشاً، ولولا روادع خارجية من المراقبة الإلكترونية وغيرها لما كان مجتمع ما مستقيمًا،  لكنه استقام أمنُه بفضل تكنولوجيا عالية جداً من المراقبة الخارجية، أما لو تعطلت هذه المراقبة لرأيت العجب العجاب.  

      أما مجتمع المؤمنين الصادقين، لا مجتمع الذين هم محسوبون على المؤمنين فهو مجتمع منضبطٌ ذاتياً، ولدينا أمثلة كثيرة جداً.  

       قال للراعي: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها،  قال: ليست لي،  قال: قل لصاحبها ماتت، قال: ليست لي،  قال: خذ ثمنها،  قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها،  ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين،  ولكن أين الله؟.  

      أساس الإيمان باليوم الآخر هذه الآية الكريمة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى  

      تقتل،  وتعتدي،  وتغتصب،  وتزني،  تدمر امرأة،  تطلقها طلاقاً تعسفياً،  تأخذ الاسم التجاري من شريكك عدواناً واغتصاباً،  تسخر الناس لمصلحتك،  تعصر الناس عصراً، وتنتهي الحياة ولا شيء بعد ذلك.  

       أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى  

      تعمل كل شيءٍ لصالحك،  تسخِّر كل شيءٍ لصالحك،  وتنتهي الحياة ولا شيء بعد الموت هذا هو العبث ،  تعالى الله عن العبث.  

       أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً  

      العبث لا يتناسب مع كمال الله ،  الله عز وجل عدل،  أنت بالإيمان بالله واليوم الآخر ترتدع،  تقف عند حدودك،  تأخذ ما لك،  وتدع ما ليس لك.  

      الآن دعك من الدين ،  لولا أن هناك شرطة،  لولا أن هناك سجونًا،  لولا أن هناك مراكز تحقيق،  لولا أن هناك سجنًا مؤبدًا، أو إعدامًا، لولا أن هناك أشغالاً شاقة مؤبدة، ولو لم يكن هناك إيمان رادع لأَكَلَ الناس بعضهم بعضاً.  

      فالناس يعيشون إما بنظام، أو  قانونٍ، أو رادعٍ خارجي،  وهذا مطبق في العالم،  أو أن يعيش الناس في مجتمعٍ نما فيه الوازع الداخلي.  

سادسا: الثقة المتبادلة في العلاقات الشخصية والعامة:  

      عندما يدخل شخصٌ مؤمن بيتَ أخٍ ليجري بعض الإصلاحات فيه،  ألا يطمئن له؟ هل تخشى أن يفتح خزانة ويأخذ ما فيها؟ غير ممكن، أنت راقب نفسك مع إخوانك المؤمنين، تعطيه مركبتك وأنت مطمئن،  لن يغدر بك، ولن يكذب عليك، ولن يضع قطعة قديمة ويقول لك اشتريتها لك جديدة،  لن يكبر عليك المشكلة.  

      لمّا نهاك ربنا عز وجل عن الكذبِ،  فقد نهى ألف مليون مسلم أن يكذبوا عليك، نهاك أن تسرق،  نهى ألف مليون مسلم عن أن يسرقوك،  نهاك عن أن تحتال،  نهى ألف مليون مسلم أن يحتالوا عليك،  وما تنعم به في مجتمع المسلمين من الراحة النفسية والأمن إنما يعود إلى الإيمان باليوم الآخر.  

      قلت مرة: عظمة الزواج الإسلامي أن الله أنصف الزوجين،  دائماً في المجتمعات غير المؤمنة العلاقات مباشرة،  القوي يأكل الضعيف،  الغني يستغل الفقير،  العالم يحتقر الجاهل،  علاقة مباشرة .  

      أما في مجتمع المؤمنين فإنّ الله أنصف الأشخاص،  فكل شخص مؤمن يخشى الله فلا يظلم الطرف الآخر ، يخشى الله فلا يغشّه،  يخشى الله فلا يحتال عليه، يخشى الله فلا يكذب عليه،  بل يرجو رحمة الله بالعفو عنه، وبالتجاوز عن سلبياته،  يرجو رحمة الله بخدمته .  

أفعال من آمن باليوم الآخر:  

      دخلت زوجة سيدنا عمر بن عبد العزيز عليه في غرفته فرأته في مصلاه يبكي، سيدنا عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، قالت له ما يبكيك؟ قال: دعيني وشأني، فألَّحتْ عليه ثانية وثالثة، فقال: دعيني وشأني، فلما ألحت عليه قال: فكرتُ في المريض، والفقير، والأرملة، والمسكين، والشيخ الفاني، وذي العيال الكثير، وذَكَر لها أكثر من ثلاثين نوعًا من حالات مأساوية اجتماعية، فعلمت أن الله سيحاسبني عنهم جميعاً، وأن خصمي دونهم رسول الله، فخفت ألا  تثبت حجتي، ولهذا أبكي.  

      قال سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏:  والله لو تعثرت شاةٌ في العراق لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟  

      لأنه مؤمن باليوم الآخر،   

      ولما قال سيدنا عمر لعبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما: امضِ بنا نحرس هذه القافلة، مَن هما؟لأنه عمل صالح، له ثوابه عند الله تعالى. وحين بكى طفل صغير، قام عمر إلى أمه، وقال لها: أرضعيه، فأرضعته، وبعد حين بكى، فقال أرضعيه، فأرضعته،ثم بكى، فذهب وقال لها: يا أَمَةَ السوء أرضعيه، قالت: ما شأنك بنا ! إنني أفطمه، قال: ولمَ، قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام ـ تعويض  العائلي ـ يروى أن عمر بن الخطاب ضرب جبهته، وقال: ويحك يا ابن الخطاب، كم قتلت مِن أطفال المسلمين؟‍ لأنه جعل التعويض العائلي عقب الفطام، لا عقب الولادة.  

فكل أم تتمنى أن تأخذ التعويض العائلي فتحمل ابنها على الفطام قبل أوانه، فقال: ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين؟ وصلى الفجر بأصحابه، ولم يعرف أصحابه ماذا قرأ من شدة بكائه؟ كان يقول عقِب صلاته: يا رب هل قَبلتَ توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها،   

      لقد فعَل هذا كلَّه لأنه مؤمن باليوم الآخر .  

الخلاصة:  

      فأنت إذا آمنت تنفق مالك، تنفق وقتك،  تنفق خبرتك، تنفق علمك، تنفق كل ما تملك، لعل الله يرضى، الإيمان باليوم الآخر يقين، وله حلاوة يعكسها قولُ الشاعر:  

فليتك تحلو والحياة مريــــرة       وليتك ترضى والأنام غضـاب  

وليت الذي بيني وبينك عامـــر      وبيني وبين العالمين خــراب  

إذا صح منك الوصل فالكل هيِّـن      وكل الذي فوق التراب تــراب  

      أنت حينما تؤمن بالله، فخالق الكون معك.  

إذا كنتَ في كل حال معي      فعن حملِ زادي أنا في غنى  

إذا كان الله معك فمن عليك     وإذا كان الله عليك فمن معك  

      إذا وصلت إلى الله وصلت إلى كل شيء، وإذا فاتك الله عز وجل فاتك كل شيء. الإيمان باليوم الآخر مِن أجل أن تنقل اهتماماتك كلها إلى الدار الآخرة، تعيش، تدرس، تتاجر، تتزوج، تنجب، لأن هدفك الأول إرضاء الله عز وجل، كلها وسائل.  

      أما غير المؤمن باليوم الآخر هدفه الدنيا، هدفه المتعة الرخيصة، هدفه الانغماس في ملاذ الحياة الدنيا، وشتان بين المؤمن، وبين غير المؤمن، المؤمن مقدس لأنه يحمل هموم الناس، لأنه يسعى لرضوان الله عز وجل، وإنّ أعلى مقام يطمح إليه المؤمن أن يرضى الله عنه.   

       يقول تعالى:إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً   

      هل من السهل أن تكون لك مودة مع خالق الكون؟ الوسيلة بيدك، مودة الله في متناول يديك  خالق الكون يرضى عنك.الخلق كلهم عباده أخدمهم، أصدق معهم، كن عفيفًا، كن أمينًا، انصحهم. قدِّم لهم خدمات  يرضى الله عنك، فاللهُ وفيٌّ، واللهُ عز وجل شكور حليم، فإذا أنفقت من وقتك في خدمة عباده، منحك الله عز وجل ثوابًا وعطاءً لا ينتهي عند الموت، بل يستمر إلى ما بعد الموت.  



المصدر: العقيدة - الإيمان باليوم الآخر - الدرس (1-9) : أهمية الإيمان باليوم الآخر وأسبابه