بحث

الإيمان ينبوع الحب

الإيمان ينبوع الحب

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة الكرام: 

      إن من ثمار الإيمان في النفس أنه يفجر في النفس الإنسانية ينابيع الحب،  

      يقول عليه الصلاة والسلام:  والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا..  

      النبي عليه الصلاة والسلام علَّق دخول الجنة على الإيمان، وعلَّق الإيمان على المحبَّة. 

الحب هو... 

      الحب ـ أيها الإخوة ـ روح الوجود، وقوت القلوب، وصمام الأمان لبني الإنسان، لو ساد الحب ما احتاج الناس إلى العدل.. 

      الحب يحول المرَّ حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاءً، والألم شفاءً، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، هو الذي يلين الحديد، ويذيب الجليد، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة. 

      الحب هو الجناح الذي يطير به الإنسان في الأجواء ويصل به إلى السماء. 

      الحب هو الذي ينقل الإنسان من الثرى إلى الثريا.. 

      يا رب إذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك. 

      وازن أحد العلماء بين جوانب النشاط البشري فقال: ماذا تعطينا الحكمة غير المنطق الجاف، وماذا يعطينا الحذر غير الخوف الدائم وماذا يعطينا العمل غير العرق المتصبب، والحقد المتأجج.. 

      والمال ماذا يعطينا غير الخوف والحذر، والعرق والعقد، لكن الحب هو جوهر الحياة الذي يعطينا الأمن والأمان والاستقرار والسلام. 

المؤمن هو الذي يحب كل شيء: 

      نحب كل شيء، نحب كل إنسان، نحب المنع كما نحب العطاء المنع يوقظ فينا القوة على المقاومة، فتتوهج النفس وتتحفز والعطاء نسيم يلطف حرَّ المعركة، نحب الوجود كله بدايته ونهايته، لكن الذي يستطيع أن يحب هذا الحب الكبير صنف واحد من بني البشر، إنه الصنف الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان، الإيمان وحده ينبوع الحب المصفى الخالد، المؤمن وحده يحب كل شيء، يحب حتى مكروه القضاء، يحب الوجود كله بدايته ونهايته، يحب الموت كما يحب الحياة. 

      أصل كل هذا الحب محبة الله عز وجل. 

      المؤمن نفذ إلى سرَّ الوجود، الكافر بقي في النعمة، لكن المؤمن وصل إلى المنعم، الكافر بقي في الحكمة، لكن المؤمن وصل إلى الحكيم، الكافر بقي في العطاء، لكن المؤمن وصل إلى المعطي المؤمن نفذ إلى سر الوجود، فأحب الله واهب الوجود، وواهب الحياة ومصدر الإمداد والإنعام. 

      نعم ثلاث نتقلب بها، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد. 

      الإنسان مجبول على حب الجمال، وحب الكمال، وحب النوال، لأن الله جل جلاله مصدر كل جمال، كل ما في الكون من جمال مسحة من جمال الله عز وجل، فهؤلاء الذين عرفوا الله وأقبلوا عليه ذابت نفوسهم من محبته. 

      لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف.. 

فلو شاهدت عيناك من حسننا      الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــا 
ولو سمعت أذناك حسن خطابنــا      خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا 
ولو ذقت من طعم المحبــــة      عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـا 
ولو نسمت من قربنا لك نـسمـة     تركت جميع الكائنات لأجلنـــا 

الله هو مصدر الجمال: 

      أيها الإخوة الكرام: 

      يحب الإنسان ربه، لأنه مصدر الجمال، فكل ما في الكون يشهد بجمال الله، وإبداعه وإتقان صنعته، قال تعالى:  

      (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3))  

      (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88))  

      (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)) 

      ألا ترى إلى الورود ؟.. ألا ترى إلى البساتين ؟.. ألا ترى إلى الغابات ؟.. 

      هذا كله من جمال الله عز وجل، والإنسان أحب الله، لأنه مصدر الكمال، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً.. 

      لا كمال إلا كمال الله، ما نرى من الكمال البشري النسبي ما هو إلا ذرة مستمدة ومفتقرة إلى كمال الله عز وجل، وأحب الإنسان الإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. 

      يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، 

      وأي إحسان كإحسان الله لنا منحنا نعمة الوجود، منحنا نعمة الجوارح والأعضاء، منحنا أهلاً وأولاداً وزوجة، منحنا كوناً فسيحاً وجمالاً رائعاً. 

      ما من إحسان إلا منسوب إلى الله عز وجل. 

      أيها الإخوة الكرام: 

      شيء آخر في الموضوع: الله عز وجل سخّر لنا الكون كله قال تعالى:  

      (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))  

      (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20))  

      المؤمن أحب الله لكل هذا أحبه، لأنه مصدر الجمال، وأحبه لأنه منبع الكمال، وأحبه، لأنه أصل كل إحسان.. 

      حقيقة المؤمن يحب الله عز وجل حباً يفوق حبه لأبويه، يفوق حبه لأولاده، يفوق حبه لنفسه.. 

      قال والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي وولدي ومالي والناس أجمعين، إلا نفسي التي بين جنبي، قال كلا يا عمر لما يكمل إيمانك، إلى أن قال والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي وولدي والناس أجمعين، فقال عليه الصلاة والسلام الآن يا عمر.. 

نظرة المؤمن للكون ونظرة غير المؤمن له: 

      أيها الإخوة الكرام: 

      المؤمن أحب الله من كل قلبه، وأحب كل ما يجيء من قبل الله وأحب ما يحبه الله، أحب كتابه الذي أنزله على نبيه، أحب أنبياءه ورسله، أحب النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم، أحب كل إنسان من أهل الخير والصلاح، أحب الذين يحبهم الله عز وجل، في الدعاء الشريف:  اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب كل من ينفعني حبه عندك، وحب كل عمل صالح يبلغني حبك.  

      هذا العداء للطبيعة الذي نجده في الفلسفات الغربية، يقول غزونا الفضاء وقهرنا الطبيعة، وسخرنا الطبيعة، هذا كلام لا معنى له المؤمن أحب الذي خلقه الله، أحب الطبيعة والوجود كله، لأنه أثر من آثار الله: 

      (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) )

      (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) )

      (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) )

      (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)) 

      الطبيعة ـ أيها الإخوة ـ ليست كما هي في الفلسفات الغربية عدواً للإنسان ولكنها مسخرة لخدمته، ولكي تساعده على القيام بمهمته في خلافته في الأرض، وكل ما في الكون ألسنة صدق تمجد الله وتسبحه بلغة قد لا نفهمها، قال تعالى:  

      (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً(44) )

      أيكون هذا الإنسان المخلوق الأول الذي سُخرت له السماوات والأرض غافلاً وهي تسبح، أيكون المسخر له غافلاً والكون يسبح.. 

الكون ينطق بوجود الله، وينطق بكماله، وينطق بوحدانيته: 

      أيها الإخوة الكرام:  

      الكون كتاب مفتوح يقرأه كل إنسان قارئاً كان أو أمياً، الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، الكون أيها الإخوة، ينطق بوجود الله، وينطق بكماله، وينطق بوحدانيته، لقد أفرغ الله على هذا الكون وحدة وانسجاماً جعلته في أرضه وسمائه، وحيوانه ونباته، كأجزاء الجسد الواحد تعاوناً واتساقاً وإتلافاً. 

      يدرس الطبيب في أمريكا، ويصنع الدواء في أستراليا، ويصفه الطبيب في آسيا، ويشفي مريضاً في إفريقيا، كيف نفسر هذا ؟.. نفسر هذا بالوحدة البنية بين بني البشر، يتعلم الطبيب التشريح أن هذا العصب بعد هذا الوريد، وأن هذا الوريد بعد هذا الشريان، في أي مكان في العالم بنية واحدة تدل على خالق واحد، وتنوع عجيب يدل على وسعة لا نهاية لها، حتى قال بعض العارفين: 

      والله يا رب لو تشابهت ورقتا زيتون لما سُميت الواسع.. 

      بالمناسبة أيها الإخوة ـ في الإنسان صفة منحها الله إياها صفة الفردية، فقزحية العين لا تشبه قزحية أخرى في الكون، ونبرة الصوت، ورائحة الجلد، وتركيب الدم، والزمرة النسيجية، وبصمة الإصبع، هذه كلها هويات للإنسان. 

      (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40))  

      في الفلسفات الوضعية، في الأديان القديمة، الظلم عدو الإنسان، الإنسان يكره الظلام، لكن الله سبحانه وتعالى يبين في القرآن الكريم أن الظلام نعمة من نعم الله، قال تعالى:  

      (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) )

      (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11)) 

      (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47))  

      (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164) )

      أيها الإخوة الكرام: 

      من الآثار التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ عليه الصلاة والسلام بجبل أحد، وفي أحد لم يحقق المسلمون النصر الذي أرادوه، فبدلاً من أن يتشاءم أصحاب النبي من هذا الجبل قال عليه الصلاة والسلام: أحد جبل يحبنا ونحبه   

      يعني النبي عليه الصلاة والسلام أحب الجبل الذي لم يحرز فيه النصر، كان يقول عليه الصلاة السلام: أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي وأسلم عليه   

      شفافية النبي بلغت حداً لا يُتصور، كان يخطب على جزع نخلة فلما صنع له أصحابه منبراً حنت إليه النخلة، فكان عليه الصلاة والسلام: يقف على المنبر ويضع يده عليها تكريماً لها.. 

      دخل بستان أنصاري، فرأى جملاً، فلما رآه الجمل حن، ذرفت عيناه،  

      قال من أصحاب هذا الجمل، جاؤوا بفتى من الأنصار  

      قالوا هذا صاحبه،  

      قال: ألا تتق الله بهذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه..  

      المؤمن يحب كل شيء خلقه الله عز وجل. 

المؤمن يحب الحياة ولا يخاف الموت: 

      هناك من يسخط على الحياة، هناك من يلعن الساعة التي وجد فيها هذا من آثار البعد عن الله، هذا الشاعر الذي قال: 

      هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد.. لم يصب الحقيقة نعمة الوجود نعمة عظمى، يقول عليه الصلاة والسلام: خير الناس من طال عمره وحسن عمله، لا يتمنى أحدكم الموت  

      كما قال عليه الصلاة والسلام: ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، وإنه إذا مات انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً.. 

      لا يتمنى أحدكم الموت، هذا ليس من كمال الإيمان، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ   

      يعني الزمن في صالح الفريقين، وكان عليه الصلاة والسلام من أدعيته الشريفة: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي   

      بل إن الذي يخافه الناس جميعاً من دون استثناء هو الموت إلا أن الإنسان المؤمن يتميز بهذا، قال تعالى:  

      (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) )

      المؤمن لا يحب الحياة حب الحريص على متاعها الأدنى، حب المتهافت على لذائذها، حباً يخيفه من الموت ويلصقه بتراب الأرض بل أحب المؤمن الحياة، لأنه يزاد بها عملاً صالحاً، لأنه أحب الحياة لأن ثروته من العمل الصالح قد تزيد، وأحب الموت، لأنه يعجل له لقائه مع الله عز وجل، 

      قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَتْ..   

      وحينما خير النبي عليه الصلاة والسلام بين أن يبقى في الدنيا وبين أن يكون مع الرفيق الأعلى قال:  بل الرفيق الأعلى، 

      وحينما أصاب علي بن أبي طالب ضربة من قاتله قال سيدنا علي حين أدرك أنه قتل قال : فزت ورب الكعبة.. 

      وحينما سئل خبيب بن عدي قبيل أن يقتل، وقبيل أن يصلب سأله أحد الكفار: أتحب أن تكون في أهلك وولدك ويكون محمد مكانك، قال:  والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة.. 

      فلما اقتيد ليصلب صلى ركعتين لله عز وجل وقال هذين البيتين: 

ولست أبالي حين أقتل مسلما على      أي جنب كان في الله مصرعي 
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك      على أوصال شلو ممــزع 

      أحد قواد المسلمين خاطب قائد الطرف الآخر، قال جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.. 

      لأن المؤمن إذا أدركته المنية كالغائب رُد إلى أهله، الموت كما قال عليه الصلاة والسلام: عرس المؤمن، تحفة المؤمن   

      من كان عمله صالحاً، ومن ابتغى الله في كل شيء كان الموت أحب إليه من كل شيء، على عكس أهل الدنيا، إن مظاهر الموت تملأ قلبهم خوفاً.. 

المؤمن يحب كل الناس: 

      أيها الإخوة الكرام: 

      ومن فروع محبة الله عز وجل أن المؤمن يحب كل الناس، لأنه يشترك معهم في رحم واحدة، ونسب واحد، وهدف واحد، وعدو مشترك.. أما النسب قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) )

      كلكم لآدم وآدم من تراب   

      وأما الهدف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33))  

      وأما العدو المشترك، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6))  

      رحم واحدة، ونسب واحد، وهدف واحد، وعدو مشترك لذلك يحب الإنسان المؤمن كل الناس. 

      عقيدة المسلم أيها الإخوة ـ وقيمه لا تسمح ولا ترضى بنزعات عنصرية، ولا نعرات جنسية، هذا ما نسمعه في الأخبار عن التطهير العرقي في البلاد التي غابت عن منهج الله، وغفلت عن حقيقة التوحيد هذا ليس في الدين من شيء.. 

      اختلاف اللغات والألسنة دليل قدرة الله عز وجل، وليس أداة تفريق بين الشعوب أو الأمم، قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22))  

      في الحديث الصحيح: اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك وحدك لا شريك لك، الله ربنا ورب كل شيء ومليكة، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا أشهد أن العباد كله أخوة   

      وفي بعض إرشادات حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:  إنما المؤمنون أخوة   

      إن أوسع دائرة تجمعك مع أخيك هي دائرة الإنسانية، فلذلك المؤمن انطلاقاً من حبه لله عز وجل يحب الخلق كلهم، يستنبط من هذا كله أن المؤمن سليم الصدر لا يحقد ولا يحسد، بل يحب ويؤثر، ربنا. 

      (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) )

      الحاسد جاحد، لأنه لم يرض بقضاء الله الواحد. 

      المؤمن لا يمكن أن يفرح بمصيبة تنزل في غيره، ولا يحزن لنعمة يسوقها الله إلى أحد من خلقه، قال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120) )

      هذه من علامات المنافقين، المؤمن لا يمكن أن يفرح بمصيبة تنزل في غيره، ولا بنعمة يسوقها الله إلى أحد من عباده، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول:  

      قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ 

      كما أن المؤمن لا يمكن على أن يحسد على الدنيا، لأنها فانية من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء.. 
      قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا   

      وقد قال الله عز وجل: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26))  

      (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21))  

      (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61))  

      (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58))  

      وفضلاً عن أنه يحب أنه يؤثر، قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)  

      ولذلك وصف الله المؤمنين وصف الحب الذي بينهم، قال: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63))  

      أيها الإخوة الكرام: 

      إذا لم نكن هكذا فلسنا مؤمنين، عود على بدء: فو الذي نفس محمد بيده، لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا   

      ليفحص كل منا علاقته بإخوانه، لذلك قال الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)  

      أصلح علاقتك مع الله أولاً، وأصلح علاقتك مع الخلق ثانياً، ثم أصلح العلاقات بين الناس حتى يرضى الله عنك. 



المصدر: خطبة الجمعة - الخطبة 0597 : الإيمان ينبوع الحب.