بحث

البناء النبوي للدولة الإسلامية

البناء النبوي للدولة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

     ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة؟ بنى الإيمان في نفوس أصحابه، قوى الإيمان، لذلك الإيمان كلمة كبيرة جداً، فمنهج النبي أن الإيمان قوي وتمكن وتعزز في مكة المكرمة، لكنهم ضعاف، بعض الأصحاب كان يعذب أمام النبي عليه الصلاة والسلام, ولا يملك شيئاً إلا أن يقول لهم: ((صبراً آل يل سر فإن موعدكم الجنة)) وقد جاء توجيه الله لهم ألا يقاتلوا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ . لكن هذا الحق القوي يحتاج إلى قوة، قوة الحق تحتاج إلى حق القوة، لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، دخل في مرحلة أخرى، في مرحلة ثانية، دخل في مرحلة تأسيس كيان إسلامي، تأسيس دولة إسلامية، وحارب قريشاً حروباً ثلاثة، وبعض الغزوات إلى أن انتزع منهم اعترافاً بالكيان الإسلامي في صلح الحديبية، كنا في مرحلة تقوية الإيمان في مكة المكرمة، أما في المدينة فصار لهم كيان، وتشريع، وقوة. 

     الآن لماذا قتل قابيل هابيل؟ قابيل معه قوة، الأخ الأقوى، وهابيل معه الحق لكنه الأخ الأضعف، لكنه قُتل، ماذا كان ينقص هابيل، إضافة أنه على حق، وقدم قرباناً وتقبله الله منه، وأطاع الله وتزوج أخت قابيل، ينقص هابيل قوة قابيل، وماذا ينقص قابيل؟ إيمان هابيل، فقابيل ملك حق القوة، وهابيل ملك قوة الحق. لذلك النبي جمع بين قوة الحق في مكة، وبين حق القوة في المدينة، يعني كيف حق القوة؟ الدول العظمى اخترعوا حقا لهم لأنهم أقوياء، اسمه "الفيتو"، أيّ قرار لا يعجبهم يستخدمون الفيتو فيلغى، هذا ما أنزل الله به من سلطان، هذا من اختراعهم، هذا من حق القوة، فالقوي يملي الشروط، والضعيف يقبلها. لذلك النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن قوة الحق لا تكفي، كان في مكة يملك قوة الحق، لكن كان يرى أصحابه يُعذبون أمامه، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، أما في المدينة بنى كياناً إسلامياً، امتلك حق القوة. 

     لذلك عند الغربيين، الحق عندهم يعني القوة، القوة تصنع الحق، لذلك يكيلون بألف مكيال ومكيال، معهم حق القوة، لكن الحق عند المؤمنين ما جاء في وحي السماء هذا الحق، ما جاء بالوحيين، الكتاب والسنة، ولكن هذا الحق يحتاج إلى قوة.لذلك أنت كمؤمن لا يكفي أن تكون مؤمنًا، صافي النفس، سليم الصدر، لا حول ولا قوة إلا بالله، ضعيف، مستسلم، يقبل الضغط، يقبل الذل، ما بيدنا شيء، نحن ضعاف، ماذا نفعل ؟ هكذا كان أصحاب رسول الله ؟ لا. 

     لما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أسس كيانًا، وامتلك حق القوة، لذلك حارب قريشًا في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، وفي الغزوات إلى أن انتزع من قريش القبيلة القوية المتغطرسة، المستكبرة، الجامحة، الطاغية، المنحلة، ربا على خمر، على زنا، على فوضى جنسية، هذه الفوضى العاتية المتكبرة انتزع منها اعترافاً بالكيان الإسلامي. والعالم الإسلامي الآن ما لم يقتد برسول الله في انتزاع حق القوة فلن يستطيع أن يقيم الإسلام في بلاده، في الأرض هبابلة، وقبابلة، هبابلة أمثال هابيل، وقبابلة أمثال قابيل، الهبابلة مؤمنون والحمد لله، إن شاء الله مصيرهم إلى الجنة، لكن مذبوحون، أما القبابلة فكفار، وقتلة، ومجرمون، لكنهم أقوياء، فليت الهبابلة يأخذون من خصائص القبابلة، وليت القبابلة يأخذون من خصائص الهبابلة. 

     انطلق من الحب، أتحب أخاك ؟ كان أصحاب رسول الله يصلون العشاء في المسجد النبوي، فإذا انطلقوا إلى البيت عانق الأخ أخاه وودعه، العشاء بالشتاء الساعة العاشرة، الفجر الساعة الرابعة، أو الثالثة، لما يلتقي الصحابي مع أخيه الذي ودعه قبل خمس ساعات يعانقه ويقول: وا شوقاه، غاب عنه خمس ساعات، هناك حب بينهم، وكان الصحابة الكرام إذا مشى الأول مع الآخر، وافترقا لشجرة بينهما، فإذا التقيا بعد الشجرة يقول الأول للثاني: السلام عليكم، نريد حباً كهذا الحب، نريد أن يكون المؤمنون أخوة. ((قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتحابون فيّ، على منابر من نور يغبطهم عليها النبيون والصديقون والشهداء يوم القيامة))، لأن الإسلام من دون حب جسد من دون روح، جثة، إذا أفرغت الإسلام من الحب، من الود، من خفقان القلب. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾((أولياء الله تعالى الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى)) لاتصالهم بالله عز وجل، الإيمان اتصال، الإيمان حال، الإيمان حب، الإيمان تضحية، الإيمان انضباط. فلذلك كان أصحاب النبي رضوان الله عليهم في أعلى درجات الحب، وحينما يزول الحب بيننا وتبقى المساجد الضخمة، وتبقى المكتبات العامرة، والمؤتمرات الباذخة وتبقى المظاهر الصارخة. الدين كله يضغط في كلمة واحدة الاتصال بالله، فإن لم يكن هناك اتصال بالله كل هذه المظاهر لا قيمة لها، كلام دقيق. فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام بنى الإيمان في مكة، وبنى كيان، مدني قوي في المدينة، فامتلك قوة الحق وحق القوة 



المصدر: فقه السيرة النبوية - الدرس : 41 - الوصول إلى المدينة المنورة وبناء جامع بقباء