قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
البركة مفهوم إسلامي واضح جداً، لكن في عصر المادة، وعصر البُعد عن الله يضعف هذا المفهوم. بكل الآلات الحاسبة، حينما أشتري آلة حاسبة هل أبحث عن زر للبركة؟ هناك جمع، وضرب، وطرح، وتقسيم، ونسبة مئوية، وذاكرة ... لكن ليس فيها زر للبركة، إذا بارك الله لك بوقتك تفعل في هذا الوقت المحدودِ المستحيلَ، إذا بارك الله لك بمالك، والله تفعل في هذا المال الشيءَ المدهشَ، إذا بارك الله بصحتك تعيش حياة مديدة، وأنت معافىً في جسمك، لا تشكو شيئاً، الله عنده عطاء كبير.
- الإنسان عنده رزق إيجابي، وعنده رزق سلبي، فإذا منّ الله على عبده بالعافية التامة، عاش عمراً مديداً بلا أمراض وبيلة، بلا أمراض تجعل حياة الإنسان جحيماً، بلا أمراض تكلف مئات الألوف بل بعض الملايين، كفشل كلوي، وخثره بالدماغ، وشلل، وتشمع كبد، هناك أمراض لا تعد ولا تحصى، وأيٌّ من هذه الأمراض يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق. حينما تؤمن وتستقيم يعافي الله بدنك، وتكون قد وفَّرت مبالغ طائلة ينبغي أن تدفعها شئت أم أبيت، قضايا الطب، والعمليات الجراحية، والتصوير، والمرنان، لا خيار لك فيها، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ هناك رزق سلبي؛ أن يعافيك الله، أن يعافيك، ويعافي أهلك معك وأولادك، فقد تجد أسرة تنعم بالصحة التامة، في بيت متواضع، لكن فيه طمأنينة، فيه حب، فيه ود، الأكل متواضع، لكن فيه محبة، فانتبه للرزق السلبي. قد يُمنع المريض من تناول الطعام، فيعطى (السيروم)، بعد شهر يرى أنه إذا أكل الطعام مباشرة كأنه في الجنة، أن تأكل ما تشتهي، أن تشرب ما تشتهي، أن تنام قرير العين، آمناً في سربك، معافىً في جسمك، هذه كلها أرزاق سلبية، لكنها مهمة جداً. هناك رزق الإيجاب: الدخل الشهري، ورزق السلب: إذا الله عافاك.
- وإذا أنعم الله عليك براحة البال فهي لا تُقَدّر بثمن الله قال: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ صلاح البال، تنام قرير العين، تنام ملء جفونك، لأنك وأنت نائم لم يتعلق عليك حق، فما أكلت حقاً، ما آذيت إنساناً، ما أضللت مخلوقاً، ما كنت سبب شقاء أسرة، ما بنيت مجدك على أنقاض الناس، ما بنيت غناك على إفقارهم، ما بنيت عزك على إذلالهم، ما بنيت أمنك على إخافتهم، ما بثثت الرعب في قلوب الناس، ولا ابتززت أموالهم، ولا انتهكت أعراضهم، ولا فرّقت بينهم، ولا أورثت بينهم العداوة والبغضاء، وكنت إنساناً معطاء، إنساناً مصدر أمن للناس، مصدر سلام.
- إذا كان اسمك عطرًا، يملأ القلوب محبة لك، فهذه نعمة كبيرة جداً، نعمة أن الناس يحبونك، قال تعالى: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ﴾ إذا الله أحب عبداً ألقى محبته في قلوب الخلق، فمحبة الناس، وثقة الناس، بركة من الله.
- فكلمة بركة يعني الله عز وجل يبارك لك في مالك، وأنا لا أبالغ والله، هناك أشخاص كثيرون دخْلهم محدود، لكن ما عندهم مشكلة، يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، لكن من غير بذخ، ولا إتلاف للمال، ولا هدر، ولا استعلاء على الناس، بل فيهم تواضع. (الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة).
- المؤمن في رعاية الله، في حفظ الله، في توفيق الله، في تجليات الله، في سكينة الله، المؤمن يتلقى من الله أرزاقاً لا تعد ولا تحصى، الرضا رزق أن ترضى عن الله، يا رب لك الحمد، من أعماقك، الصبر رزق، الحكمة رزق، الطمأنينة رزق، الإحساس بالأمن رزق، فحينما تكون مع الله فأمامك أرزاق لا تعد ولا تحصى، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
- تأتينا خيرات السماء، والأرض تنبت النبات الطيب، لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ مع النبات الطيب راحة نفسية، مع النبات الطيب ثقة بالله، مع النبات الطيب رضا عن الله، مع النبات الطيب ود بين الناس. إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً وداً بينهم وبينه، ووداً فيما بينهم .
- البركة تعني أن يبارك الله لك: بوقتك، تجد علماء كباراً تركوا مؤلفات يكاد العقل لا يصدقها، 380 مؤلفاً، متى كتبها؟ متى قرأ؟ متى تعلم؟ متى ألّف؟ متى نقّح؟ متى درّس؟
- الآن لاحظ المفارقة، معك ألف ليرة، زكاة هذا الألف 25 ليرة، نقص من ألف ليرة 25، ماذا يسمى هذا العمل؟ زكاة، الزكاة النمو، يا أخي المبلغ نقص، كيف نما؟ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ينمو المال، وقد نقص! ينمو، يبارك الله فيه، هذه البركة. ما نَقَصَ مال من صدقة عبدي أًنفق أُنفق عليك، المال لما ينقص يسمى المال الناقص زكاة، أُدِّيت زكاته يعني نما.أقرض قرضاً ربوياً، أقرضت ألفاً فرجعت 1050، قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ الزيادة بخلاف منهج الله تُمحَق، والنقص وفق منهج الله تعني زيادة، والزيادة بمعصية الله تعني المحق، والنقص بطاعة الله تعني الزيادة .
- أحياناً الله يبارك لك بزوجتك. والله لا أنسى مرة عزّيت صديقاً لي بوفاة والدته، كان عمرها ثمانين عامًا، والده في سن التسعين، بكي الزوج بكاء غير معقول، أردت أن أسليه قليلاً، أن أخفف عنه، قال لي: والله منذ 55 سنة ما نمت يومًا غضبان عليها. التقيت بعالم قرآن كريم عالم جليل، قال لي: أنا عندي 38 حفيداً، منهم 13 طبيباً، ما شاء الله! أساسه زواج، زوجة مباركة، أنجبت أولاداً أبراراً، وبنات طائعات وأصهاراً مؤمنين. الدين جميل والحياة جميلة بالدين، حياة فيها بركة، فيها محبة، فيها موآثرة، فيها ود. يجب أن تنتبه إلى الرزق السلبي، معك مأوى، إنسان له زوجة صالحة فهناك نعمة لا ينتبه لها، لأنه يغيب شهراً عن البيت وهو يعلم علم اليقين أن له زوجة عفيفة أطهر من ماء السماء، هذه نعمة لا تقدر بثمن، هناك مليون نعمة ينعم بها المؤمنون، وقد لا ينتبهون إليها، الذي عنده زوجة صالحة، الذي عنده أولاد أبرار، محترم، يحترمونه، يخجلون منه، يخدمونه، الذي عنده أصهار طيبون، كل هذه نعم لا تقدَّر بثمن، فحينما تصطلح مع الله يتولاك.
ليس هناك مصيبة على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به. قضية منهج الله ليس الموضوع موضوع جبروت، يجب أن تطيعني يا عبدي وإلا سأسحقك، ليس هذا المعنى إطلاقاً، الله عز وجل رحمن رحيم، رب كريم، أعطاك تعليمات لسلامتك. قد تجد خط توتر عالٍ، كُتِب: ممنوع الاقتراب، خطر الموت، يا ترى مَن وضع هذه اللوحة وضعها ليتسلط عليك؟ ليقيد حريتك؟ ليقهرك؟ لا والله، وضعها من أجلك، سلامةً لك، فحينما تفهم أن هذه الأوامر والنواهي إنما وُضعَت من أجل سلامتك تكون فقيهاً، ليس من أجل تقييد حريتك، لكنها ضمان لسلامتك. شيء آخر، أنت كمعلم، أعطيت وظيفة متعِبة للطلاب، في اليوم التالي جاء الطلاب المجتهدون وقد كتبوها في أربع ساعات، وطلاب ما كتبوا، فإن لم تعاقب الذي لم يكتب فلا أحد يكتب في اليوم التالي، هل هذا الكلام صحيح؟ وحينما تسوي بين الفاسد والصالح، والمجتهد والكسول ألغيتَ الاجتهاد، ويتوهم المجتهد أنه أحمق، تعب، واستوى مع من لم يتعب. فالله عز وجل من لوازم تربيته، من لوازم حكمته، أن يعامل كل مخلوق بحسب عمله إنْ تستقِم تسلم، إنْ تبذل من وقتك، من مالك، من علمك تسعد، إنْ تنضبط تكن في بحبوحة، إنْ تتفلت تكن في ضياع. أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الهدى رفعهم. هذا هو التوجه إلى الله، وهذه الطاعة لله تورثك طمأنينة، وأمناً، وسعادة، وراحة ورضىً يفتقده معظم الناس، وإن لم يكن هناك فرق كبير بين أهل الإيمان، وأهل الكفران ففي الإيمان خلل. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ الإيمان وحده من دون عمل لا قيمة له إطلاقاً: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. لا يكفي أن تؤمن، لا بد من أن تتقي إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ فالله عز وجل يبين أن نربط بين ما نعانيه من ضائقة، وبين استقامتنا وتقوانا وصلاحنا، وطاعتنا لله عز وجل.