ما اقترن ركنان من أركان الإيمان في القرآن كما اقترن ركن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالله يحملك على طاعته، والإيمان باليوم الآخر يحملك على ألا تؤذي مخلوقاً كائناً من كان، الذي لم يدخل اليوم الآخر في حسابه لم يستقم على أمر الله. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾ هذه الحياة الدنيا هي مزرعة الآخرة، والحياة الدنيا جنة إذا عرفت الله، لأنه عن طريق الحياة الدنيا تكتسب آلية دخول الجنة، بعباداتك، بطاعاتك، بإنفاقك، بتربية أولادك، بالدعوة إلى الله، بخدمة الفقراء، برعاية المساكين، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لذلك ربنا عز وجل أمرنا أن نكون مع المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
قال تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً﴾ اللعب عمل لا غاية له، عمل عابث، شأن الصغار أن يلعبوا، وكأن الذي خلقهم رسم لهم هذا اللعب لتنمو أجسامهم، لكن طبيعة اللعب عمل لا هدف له ولا جدوى منه، وعمل عابث، هذا الأمر يقودنا إلى شيء دقيق في العقيدة، نحن لماذا خُلقنا؟ لو أن الإنسان غفل عن غاية وجوده يظن أن المال كل شيء، فكل شيء يفعله من أجل تحصيل المال، وكل شيء يفعله بالمال يأتي ملك الموت وينهي حياته في ثانية، فكل الذي حصَّله تركه وراءه. إذاً: من دون أن تؤمن أن هناك حياةً أبدية، من دون أن تؤمن أنك مخلوق للجنة، فكل النشاط في الأرض مهما بدا عظيماً، ما دام قاصراً على الحياة الدنيا فهو لعب، لو وصلت إلى قمة الغنى، ثم ماذا؟ الموت، لو وصلت إلى قمة السلطة، ثم ماذا؟ الموت، لو انغمست في متع حسية تفوق حد الخيال، ثم ماذا؟ الموت، لو جُبت أطراف الدنيا، واطّلعت على القارات الخمس، ونزلت في أفخر الفنادق، وحققت كل الأهداف السياحية في الحياة، ثم ماذا؟ الموت، لو بنيت أجمل قصر، ثم ماذا؟ الموت. ما لم تؤمن أنك مخلوق لغاية ما بعدها غاية، فكل شيء بعد شيء وسيلة، بعد الغنى الموت، بعد القوة الموت، بعد الصحة الموت، بعد الوسامة والجمال الموت، بعد المتع الحسية الموت، إذاً الدنيا بأكملها بالنسبة للعقلاء ليست غاية، بل هي وسيلة، فمن جعلها غاية كان يلعب وكان عمله لعباً، الذي يؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿ ٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا ۖ وَفِى ٱلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ ۚ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ ﴾ هذه حقيقة الدنيا من عند خالق الدنيا، من عند خالق الكون، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ أنت حينما تؤمن أنك مخلوق للآخرة تأتي حركاتك في الدنيا متناسقة مع هذا الهدف، تصور أنه قد جاء إنسان إلى باريس، أو إلى لندن لينال الدكتوراه، حينما يكون هدفه واضحاً تماماً تأتي حركته اليومية بجزئيات حركته، بتفاصيل حركاته وسكناته متسقة مع هذا الهدف، يمكن أن يعمل في هاتين المدينتين مليون عمل لا تتصل بهدف مجيئه لهذه المدينة ، أما لو أن الهدف واضح فأول شيء: يستأجر بيتاً قريباً من الجامعة، ليوفر المال والوقت والجهد، الشيء الثاني: يصاحب صديقاً يتقن اللغة الفرنسية، يتعلم منه النطق، الشيء الثالث: يأكل طعاماً يعينه على الدراسة، يشتري مجلة من جنس اختصاصه، يمكن أن أذكر لك مئة تصرف لهذا الإنسان الذي هدفه واضح، كل هذه التصرفات نابعة من إيمانه أنه جاء إلى هذه البلدة كي ينال الدكتوراه . لكن إنساناً ذهب إلى هناك، ونسي الهدف، مرة بالمسرح، مرة بالسينما، مرة في سباق الخيل، مرة يتنزه في الغابات، مرة تسقط قدمه في الفواحش والموبقات، ضائع. نحن في الدنيا، أنت حينما تعرف أنك فيها لوقت محدود، وأن هذه الدنيا سماها الله حياةً دنيا تهيئة لحياة عليا، وأن الحياة العليا التي فيها إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وأن أصل الحياة الآخرة هي التكريم: لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وأنها إلى أبد الآبدين، وأن هذه الحياة ليس فيها مرض، ولا فقر، ولا قهر، ولا اجتياح، ولا نقص مواد، ولا نقص مياه، ولا ابن عاق، ولا زوجة سيئة، ولا دخل قليل، ولا اغتصاب، ما فيها شيء سيء ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ لكن هذا الثمن الباهظ يُدفع في الدنيا، فأنت حينما تؤمن هذا الإيمان تختار زوجتك لتعينك على هذا الهدف، تختار حرفتك لتعينك على هذا الهدف، تعتني بصحتك لتعينك على هذا الهدف، تربي أولادك لتكون أعمالهم في صحيفتك يوم القيامة، يمكن أن ينشأ من هذا الاعتقاد ولا أبالغ مليون تصرف كلها نابعة من إيمانك بالآخرة.
الآية ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً﴾ تقول: الناس رجلان، مؤمن وغير مؤمن، المؤمن له أن يلتقي مع غير المؤمن بنية هدايته، بنية إقناعه، بنية الأخذ بيده إلى الله، أما حينما يرى أن الأمل معدوم دعه وشأنه والتفت إلى ربك ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ﴾ معنى دينهم ؛ أنت تدين لهذا الشيء تخضع له ، كل إنسان له دين ، لكن دين الله يعني الخضوع لله ، هذا يحب المرأة ، يقال عنه عند الناس: هو زير النساء، دينه المرأة ، وهذا دينه المال، وهذا دينه العلو في الأرض، وهذا دينه السيطرة، وهذا دينه المتعة، كل إنسان الشيء الذي يتوجه إليه حقيقة هو دينه، فهناك من يتخذ اللهو ديناً، يعني عنده ميل للمغنيات بحيث أنه يعرف كل أغنية متى أُلقيت، وفي أي مكان، والفرق الدقيق بين المغنيين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، دينه الغناء، دينه الجنس، دينه المال، دينه السيطرة ، دينه العلو في الأرض، دينه المديح ، دينه أن يظهر أمام الناس بمظهر كبير ، هذا الدين، والمؤمن دينه الله، أن يخضعوا لله، دينه أي الجهة التي يتجه إليها، لذلك الله عز وجل عدّ هذا ديناً ، والدليل لكم أيها الكفار : ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ اتجاه الكافر إلى الدنيا هذا دين، ينطلق من فلسفة ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً﴾ يعني جعل الدنيا همه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناء في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) الإنسان في البدايات الدنيا كبيرة جداً أمامه، المال، النساء، البيت الفخم، المركبة، المنصب، في منتصف العمر يرى هذه الأشياء جيدة، لكنها ليست كل شيء، عنده فراغ، هذا الفراغ ما ملأه المال، ولا ملأه المنصب، ولا ملأته الزوجة، بل ما ملأته المرأة أصلاً، لكن قبل أن يغادر الدنيا يرى أن الدنيا ليست بشيء، هي جيفة، طلابها كلابها. هي هينة على الله، مر النبي الكريم مع أصحابه، في أحد طرق المدينة رأى النبي شاة ميتة، فقال: أترون هذه هانت على أهلها؟ فقالوا: من هوانها ألقوها هنا، قال: والذي نفسي بيده للدنيا على الله عز وجل أهون من هذه على أهلها . قال الله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ يعني أن تغتر أي أن تظن هذه قطعة ذهب فإذا هي قطعة نحاس، أن تظن أن هذه ألماس فإذا هي في الحقيقة بلور، أن تظن أن هذا الشيك فيه مبلغ كبير وهو في الحقيقة مزور، هذا غرور أن تعطي الشيء حجماً لا يملكه، والشيطان دائماً مهمته أن يدفع الإنسان ليغتر بالحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ هكذا الإنسان حينما يكون على فراش الموت، يرى أنه خسر كل شيء، وليس أمامه شيء يسعده إلا حساب دقيق.
بمنظور الآخرة ليس على وجه الأرض أناسٌ أغبى من الطغاة كيف؟ قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قتل ملايين من البشر، هؤلاء البشر لا قيمة لهم؟، يقتلهم ويقول: هم تحرشوا بنا، الآن كلما تحصل إبادة جماعية يقولون: أطلقوا النار، إعلامياً تُغطَّى بإطلاق النار، لكن تأكدوا أنه ما من قطرة دم تراق إلا ويتحملها إنسان يوم القيامة، ويظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً، الآلاف تموت كل يوم بلا سبب وبلا جريمة. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.
المؤمن صدق أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ فا لمؤمن همه الأول أن يعطي لا أن يأخذ، لأنه يُعِد نفسه للآخرة، لأنه يعد عملاً صالحاً يلقى الله به، تجد عطاءه عجيباً يعطي كل شيء، يقابله غير المؤمن يأخذ كل شيء، لأنه أيقن أنه مخلوق للدنيا لا للآخرة. ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ لأنه كذب بالحسنى وهي الجنة وآمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ.