الإنسان يتوهَّم أن عقله مقياس مُطلق للمعرفة، هذا كلام غير صحيح إطلاقاً، هناك مجموعة حقائق سوف أحاول أن أعالجها، لتكون هذه الحقائق تمهيداً لحقيقة كبرى وهي أن الدين في أصله نقلٌ، والعقل مهمته التأكُّد من صحة النقل، ثم فهم النقل.
الإنسان مخلوق لسعادة أبدية، الإنسان مخلوق للجنة، الإنسان مخلوق ليرحمه الله، في سعادة متنامية إلى أبد الآبدين، الإنسان نفخةٌ من روح الله، وقبضةٌ من تراب الأرض. فالإنسان لا يفنى، يفنى جسده، لكن نفسه باقيةٌ إلى أبد الآبدين، والإنسان يذوق الموت ولا يموت، أول حقيقة أن هذه الجنة ذات السعادة المتنامية المتعاظمة إلى أبد الآبدين لها ثمنٌ في الدنيا واحد، ثمن هذه الجنة أن تطيع الله عزَّ وجل، بأن تطبق منهجه.
الإنسان أودع الله فيه الشهوات، أي إنسان كائنٌ من مكان، حتى الأنبياء، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، يخاف، ويجوع، ويشتهي، هو بشر، حقق غاية الله من خلقه، واصطبغ بالكمال الإلهي، هذا تعريف النبي عليه الصلاة والسلام. ما هو ثمن الجنة؟ تناقض ظاهري بين الطبع وبين التكليف، لو كان هناك توافق بين الطبع والتكليف لما كان هناك جنة، لو كان الأمر أن تأكل المال من أي طريقٍ كان، والأمر أن تقارب أية امرأة، لو كان الأمر كذلك وهذا متوافق مع طبع الإنسان المادي، أين الجنة؟ ماذا فعل الإنسان؟ هذه الجنة التي خلق الإنسان من أجلها، والتي أعدَّها الله له، هذه الجنة ثمنها الضبط، أن تضبط الغرائز، أن تضبط الشهوات، أن تضبط النوازع، فلذلك ورد في الحديث: ((أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ)) أي أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، الملاهي مفتَّحةٌ أبوابها؛ طعام، وشراب، وخمر، وراقصات ومغنيين، كسب المال من أي طريق؟ بالبنوك، بالفوائد، بالاحتيال، بالضغط، بالإكراه، هذه طريقة لكسب المال، اقتناص الشهوات فلا بد من أن تجد في الطريق إلى الله مكاره، وعقبات، المكاره والعقبات هي التناقض بين التكليف وبين الطبع، و إذا أردت أن توفق بين المصالح القريبة العاجلة، وبين نوازع الطبع، وبين رغبات النفس، وبين النصوص انتهى الدين، أفضيت منه، الدين منهج، الدين شيء صُلب، له كيان، لا بد من أن نعود إلى أصول الدين، ولا بد من أن يكون الدين كياناً صُلباً، ولا بد من أن يعبد الله وفق ما شرع الله .
الله عزَّ وجل أعطى الإنسان عيناً، ولكن هذه العين مهما كانت دقيقةً حادة النظر، لا تستطيع أن ترى من دون وسيط وهو الضوء، ضع في غرفةٍ حالكة الظلام إنساناً مبصراً وإنساناً أعمى، هما سواء، إذا لا يوجد ضوء هما سواء، وقياساً على هذا العقل من دون وحي أعمى، وأكبر دليل هذا الذي يجري في العالم الغربي، عقل مُتَّقد بعيد عن الوحي، فارتأوا أن الإنسان عليه أن يمارس كل شهواته بأية طريقةٍ يريد، ومع من يريد، وفي أي وقت يريد، فظهر الشذوذ، وظهر زنا المحارم، وظهر انحلال الأسرة، المخدرات، والجريمة، هذه أخطار كبيرة جداً، فتقريباً الغرب عقل بلا وحي، كل شيء مباح. لكن كل شيء مباح صار الإنسان أشقى كائن، الشقاء تراه بعينك هناك، لأنه لا يوجد منهج، لا يوجد شيء محرم، لا يوجد شيء لا يجوز، لا يوجد صلة بين العبد وربه، لا يوجد عمل تسمو به، إنسان بلا هدف، حياته لا معنى لها. هذا العقل لو أنك أعملته بعيداً عن الوحي، لقال لك لمَ الزواج؟ الطفل عبء تربيته، ومتعب، والزوجة عبء فكل يوم مع امرأة، الآن بالعالم الغربي معظم أنواع الزواج مساكنة فقط، لا يوجد عقد أبداً، لا يوجد زواج مدني، ولا زواج كنسي، ولا زواج ديني، ولا زواج قانوني، في مساكنة، يسكن معها ويعاشرها كزوجة، ولأتفه سببٍ يفترقا، وانتهت الحياة. الحياة الغربية تفوق مادي مذهل، يقابله شقاء نفسي ليس له حدود، إنسان تائه، شارد.
حينما تحكم العقل بالنقل، وحينما تحاول أن تكتشف لماذا أمرنا الله؟ لماذا نهانا؟ وأن ترفض وأن تقبل، هنا دخلنا في منطقة حمراء خطرة هو تحكيم العقل بالنقل والدين في الأصل نقلٌ. فالعقل قاصرٌ عن إدراك حكمة الله عزَّ وجل من أمره، والشيء العظيم في الشرع، أن هناك قاعدة: الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به. أي أنك من الممكن أن تكون ذا اختصاص أدبي ولا تفقه في العلوم شيئاً، وتكره العلوم، وتشتري مُكيف، بكبسة ذر تنعم بالهواء البارد، دون أن تفقه ماذا يجري في هذا المكيف؟ فأنت ممكن أن تطبق الشرع فقط، تقطف كل ثماره، أنت الآن عابد، أما حينما تطبق أحكام الشرع وتفقه الحكم أنت عالم، العالم نفعه كبير، والعابد نفعه محدود، لكن الإنسان حينما يثبت له نص في الشرع صحيح؛ ويقبل على تطبيقه، دون أن يعَلِّق تطبيقه على معرفة حكمته فهذا نوعٌ من العبودية عالٍ جداً، ولكن الله عزَّ وجل يكافئ هذا العابد إذا انصاع إلى الأمر لمجرد أنه أمر يكافئه بكشف الحكمة، فبهذا يجمع بين معرفة الحكم وبين ثواب العبادة. إذاً العقل قاصر عن معرفة الأبعاد الأخيرة لحكمة الشرع، إذاً النزعة الجديدة لعقلنة الدين بشكل ساذج، فأحياناً تقام ندوات يطرح فيها أن قطع اليد غير مناسب الآن، فلتبحث عن حل آخر، أي أن الله عزَّ وجل غاب عنه أن هذا الحل هو غير مناسب وسيأتي عصر يرفض؟! تعجب من عند من جاء هذا الشرع؟ من عند خالق الكون. قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ لأن الإنسان مركب فيه حب التملُّك، والمال شقيق الروح، ولهذا الحب حب التملك له صفات كبيرة جداً، فالشيء كيف يصان، وكيف المال يحفظ؟ بحب التملك، فالإنسان مركب فيه حب التملك، فحينما يعتدى على ملكية الآخرين تختل الحياة، فجاء الشرع ووضع هذه الحدود. من منكم يصدق أن بلداً غير متعلم ـ فهو بالتصنيف متخلف ـ لكن لأن السارق تقطع يده ممكن تنتقل رواتب محافظة بعيدة جداً بشاحنات بسيطة مكشوفة، وأكياس الأموال مكدسة؟ ومع ذلك ممكن صراف بصندوق فيه مئات الألوف من كل العملات، يؤذن الظهر، فيذهب للصلاة ويترك الشيء كما هو عليه، في مشاهدات في بلاد تطبق قطع اليد، شيء لا يصدق إطلاقاً.
العقل له دوران دورٌ قبل النقل، ودورٌ بعد النقل، قبل النقل للتأكد من صحة النقل وبعد النقل لفهم النقل، ولكن العقل محظورٌ عليه أن يُلغي النقل، فإذا تفلَّت عن هذا الدين مُنعت عنه ثماره، فإذا منعت عنه ثماره أصبح هذا الدين طقوساً لا معنى له. فالإنسان إذا استعان بعقله على معرفة حكمة الشرع لا يوجد مانع، أما يستعين بعقله على إلغاء حكم شرعي هنا الخطورة، العقل مسموح له أن يتأكد من صحة النقل، والعقل مسموح له أن يفهم النقل، لكن ليس مسموحاً له أبداً أن يلغي النقل، إذا ألغى النقل صار نداً للمشرع، صار الله عزَّ وجل مشرِّع والعقل مشرع، والعقول متفاوتة ومختلفة، والعقل قاصر.
الإنسان يعجب أحياناً تجد بحوث علمية في غاية الخطورة أساسها حديث شريف، تؤكِّد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، الآن علم المستحاثَّات أكد أن الربع الخالي عبارة عن مدن عامرة، وبساتين، وحدائق، وأنهار كلها مطمورة بالرمال، النبي الكريم يقول: ((لا تقوم الساعة حتى تعود بلاد العرب مروجاً وأنهاراً)).