بحث

مكانة الأخلاق في الإسلام

مكانة الأخلاق في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

     أول شيء أبدأ به، كلمة جامعة مانعة، لِعَلَمٍ من كبار أعلام العلماء، قال هذا العالم الجليل: " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان " هذا هو الدين لكن من البديهي أنه يقصد المسلمَ الذي صحت عقيدته، وأدى عباداته على تمامها، ثم بعد ذلك، الشيء الذي يميزه، ويكون صارخاً، ويبعث الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً، هو أخلاقه. لو أردنا أن نأخذ دليلاً واضحاً قطعياً من السنة.. يقول عليه الصلاة والسلام:  ((إِن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّراً)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا:  ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))  ولا يخفى عليكم أن (إنما) تفيد القصر والحصر. أي أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر مفهوم ومضامين بعثته بالقيم الأخلاقية. 

     الله سبحانه وتعالى أعطى هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صفاتٍ لا تعد ولا تحصى من الكمالات، أعطاه ما أعطاه، أما حينما أثنى عليه، فبماذا أثنى عليه؟ قال تعالى:  ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ السيد المسيح في القرآن الكريم قال:  ﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾  وكأن هذه الآية تضغط الإسلام في حركتين: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق: الاتجاه إلى الخالق اتجاه العبادة والتوكل والمحبة والثقة بالله والاعتماد عليه، والالتجاء إليه.. والحركة نحو المخلوق هي الإحسان، أي الانضباط معه، والإحسان إليه. إذاً، يكاد يكون الموقع الأول في الدين هو الخلق، بعد صحة العقيدة، وأداء العبادات، ولا يخفى عليكم أن من تعريفات الدين، أنه: (عقائد وعبادات وأخلاق)، فالأخلاق تأتي بعد العقائد والعبادات.  

     إن الإسلام دين الفطرة، أي الذي أمرك الله به، نفسك تحبه، والذي نهاك عنه، نفسك تمجُّه:  ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾  قواعد الفطرة رائعة جداً، هي متطابقة تطابقاً تاماً مع أوامر الله عز وجل، فالأمر سيان بين أن تبحث عن أمر الله عز وجل فترتاح لتطبيقه، وبين أن تبحث عن راحة نفسك، فإذا استجبت إلى نداء الفطرة وجدت هذا النداء ينطبق تماماً مع أمر الله عز وجل، قال تعالى:  ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾  وهذا من أعظم النعم أن الأمر والنهي الذي ورد في القرآن، وفي السنة النبوية، ينطبق انطباقاً تاماً مع طبيعة النفس، ومع حبها للرحمة، والعدل، والإنصاف، والإحسان، والعفو، والحلم، فما أمرك الله بأمر إلا وجُبلتَ على تطبيقه، وما نهاك عن شيءٍ، إلا وجبلت على تركه، فلذلك الذي يستقيم على أمر الله يشعر براحة تفوق حد الخيال، ما سبب هذه الراحة؟ أن جبلة النفس متوافقة تماماً مع الشرع العظيم، الذي ورد في القرآن الكريم، وبَيّنه سيد المرسلين. لذلك، الصحابة الكرام كانوا يفرحون بما أنزل إليهم، لأن الذي أنزل إليهم يتوافق مع فطرهم، وأقوى دليل على ذلك أن الله سمى الشيء الذي ترتاح له النفس (المعروف)، وسمى الذي تمجه النفس (المنكر)، ما معنى ذلك؟ معناه أن الفطر السليمة تعرف الحق بفطرتها، وأن الفطر السليمة تنكر الباطل بفطرتها، فسمى الله المعروف معروفاً، لأن كل البشر يعرفونه، وسمى المنكر منكراً، لأن كل البشر يبغضونه. إذا تحدثنا عن نوع من الفطر، عن نوع واحد، كمثال أن الإنسان جبل على حب المرأة، وتلك الغريزة، وهذه الشهوة يمكن أن تتحرك في تطبيقاتها مئة وثمانين درجة، ولكن الشرع الحنيف سمح لك بتسعين درجة، اشتهيت المرأة فتزوجت، لك أن تملأ عينيك من محاسن زوجتك دون أن تشعر بأنك خرجت عن منهج الله، لكن أن تقيم علاقة آثمة تبدأ بنظرة، وتنتهي بالفاحشة مع امرأة لا تحل لك، فهذا هو الجانب المحظور مما فطرت عليه، وهذا الحظر هو ثمن الجنة:  ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.  الإنسان معه تكليف، وقد فطر فطرة عظيمة سليمة، ومعه طبع، الطبع أقرب إلى جسمه، والفطرة أقرب إلى نفسه، والتكليف موضوعي، ولحكمة أرادها الله جعل التكليف مناقضاً للطبع: أنت تحب أن تطلق البصر، والتكليف يأمرك أن تغض البصر. علاقة التكليف بالطبع علاقة تناقض، لكن علاقة التكليف بالفطرة علاقة توافق. أنت حينما تؤدي واجبك، حينما تعطي كل ذي حق حقه، حينما تكون محسناً، حينما تؤثر سعادة الآخرين على راحتك، تشعر براحة نفسية لا توصف. لابد من التفريق بين شيئين، بين الفطرة والصبغة، قال تعالى:  ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾  الصبغة أن تصطبغ بالكمال، من خلال اتصالك برب الأرض والسماوات. أما الفطرة، فخُلقتَ محباً للعدل، خلقت محباً للرحمة، خلقت محباً للإحسان، فالفطرة أن تحب الكمال، لكن الصبغة أن تكون كاملاً.  

     هناك من يقول: إن العقل مصدر الالتزام الخلقي، أي الضمير أو المنفعة أو اللذة، وبعضهم يقول: الواجب، والذي أراه، أن مصدر الالتزام الخلقي الحقيقي هو الله عز وجل، فأنت إما أن تخاف من عقابه، وإما أن ترجو ما عنده، هذان المحركان الحقيقيان الفعالان الواقعيان لكل سلوك أخلاقي كامل، ما سوى ذلك كله دعاوى، قد تدعي أنك على خلق إذا كان الإغراء ضعيفاً، لو عرض عليك مبلغ يسير مقابل أن تخالف قناعتك ترفض أشد الرفض، وتقول: معاذ الله، أنا لا أبيع ضميري، فإذا كان المبلغ بمئات الملايين؟! ربما.. تفكر، وقد تقبل، فمعنى ذلك أن تقول: ضمير، وعقل، وتربية بيتية، وانضباط اجتماعي، ولذة، ومنفعة، هذا كله غير حقيقي، والشيء الحقيقي، هو أنك حينما تخاف الله، أو حينما ترجو رحمته تنضبط، ولا سبب للانضباط إلا هذا السبب، لماذا؟ لأنك تجد من يدَّعي يقظة الضمير أحياناً ثم يبيع ضميره، ومن يدعي أنه عاقل، ثم تجده غير عاقل، ما كل ذكي عاقل، الذكي من كان متفوقاً فيما هو فيه، في اختصاصه، أما حينما ينسى ربه، وينسى الآخرة، وينسى الموت، لا يعد هذا الذكي عاقلاً.  أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطريق مجنوناً، فقال: من هذا؟ قالوا: هذا مجنون، قال: وما مجنون؟ أجابوه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((المجنون من عصى الله))  الذي يعصي الله هو المجنون، فلذلك لا نسمي الذكي عاقلاً إلا إذا عرف الله، وعرف سر وجوده، وغاية وجوده. 

     الأخلاق متنوعة، فمن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بنفسه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بربه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بأسرته، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمجتمعه، ومن أخلاق تنظم علاقة الإنسان بمن يحب، وبمن يكره... 

     أخلاق ربانية: الإخلاص لله، الرضا بقضاء الله وقدره، الشكر على نعم الله، نعم الإيجاد والإمداد، والهدى والرشاد، الحياء من الله، رجاء رحمة الله، خشية عقاب الله، التوكل على الله، هذه أخلاق، ولكنها أخلاق تنظم علاقتك بالله عز وجل. 

     أما في تعاملك مع الناس، فهناك أخلاق إنسانية، الصدق، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والكرم، والتضحية.  

     ويوجد أخلاق فردية: أن تحاسب نفسك، أن تتواضع، أن يكون سرك كعلانيتك، خلوتك كجلوتك، وظاهرك كباطنك، هذه أخلاق شخصية. 

     ويوجد أخلاق اجتماعية: أن تفي بالوعد، أن تفي بالعهد، وأن تنجز الوعد، وأن تكون صادقاً فيما تقول، وأن ترحم من حولك، وأن تحلم عليهم، وأن تعفوَ عنهم. 

     إذا ألغيت الأخلاق من حياة الإنسان صار الإنسان وحشاً، ألا ترون وحشية الإنسان؟ أيعقل أن تتلف المحاصيل من أجل الحفاظ على السعر؟ وشعوب بأكملها تموت من الجوع؟ الإنسان إذا تخلى عن أخلاقه، وتخلى عن إيمانه، أصبح وحشاً لا كالوحوش، يستحي الإنسان أحياناً أن ينتمي إلى الجنس البشري لكثرة ما ترى من الجرائم.. موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لمَ يقتل، ولا المقتول فيمَ قتل. 

     حقيقة خطيرة لابد أن ندركها، أن الأخلاق يظنونها قيماً متبدلة متغيرة، وحينما تنطلق من أن القيم الأخلاقية متبدلة وقعت في خطأ كبير جداً ينهي تقدم الأمة. من صفات الأخلاق الإسلامية الأصيلة الثبات والشمول، أي يوجد قيم ثابتة، يوجد ثوابت لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تعدل، ولا تطوَّر، كما أن الإنسان ثابت في خصائصه، وثابت في أجهزته، كذلك هناك قيم ثابتة في حياته، ما لم نؤمن بهذه القيم الثابتة فلن تقوم لمجتمعٍ قائمة. وهذا الذي لا تجد في خلقه سمواً، وهو يدعي أنه متدين، هذا عنده خلل خطير في حياته، اختلَّ ميزانه، فأهمل الأخلاق، وهي ركن أساسي من هذا الدين. 



المصدر: الخطبة : 0973 - مكانة الأخلاق في الدين - الدعوة الصامتة.