أيها الأخوة، هذا الدين الإسلامي الذي من وحي السماء، لو أردنا أن نلخصه بكلمة واحدة، نقول: توحيد، إله واحد، هو الذي خلق الكون، هو المسير، هو الفعال، هو الرزاق، هو المحيي المميت، هو الباسط القابض، هو المعز المذل، هو المعطي المانع، هو المغني المفقر، هو الذي يمنح الصحة، حينما تؤمن أن كل شيء بيد الله تكون قد عرفت حقيقة هذا الدين،هذا الدين دين التوحيد، نزل في بيئة تعبد أصناماً متعددة، أصناماً من صنع البشر، قال تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ في هذه البيئة التي تقوم على عبادة الأصنام، وهي أحجار لا تنفع ولا تضر، ولا تميت ولا تحيي، نزلت آيات القرآن الكريم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله عز وجل ينبغي أن يعبد وحده، وينبغي ألا يعبد معه إله آخر، إن كان ظاهراً، وإن كان باطناً، الوحدانية المطلقة هي القضية الأساسية التي قامت عليها دعوة الأنبياء، هذا الدين دين التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، بل إن فحوى دعوة الأنبياء جميعاً هو التوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾. لا يمكن أن تسعد إلا إذا كنت موحداً، لا يمكن أن تكون عزيزاً إلا إذا كنت موحداً، لا يمكن أن تكون جريئاً إلا إذا كنت موحداً، لا يمكن أن تشعر بقيمتك الإنسانية إلا إذا كنت موحداً.
أيها الأخوة، قريش تعبد اللات والعزى، تعبد آلهة منتصبة في الحرم المكي، والكعبة من آثار سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فقوم يعبدون آلهة لا تقدم ولا تؤخر، ولا تنفعهم ولا تضرهم، ولا ترزقهم، ولا تحييهم ولا تميتهم، فيأتي نبي كريم، ويقول: إن هم إلا أوهام في أوهام، وليس إلا الله الواحد الديان، لا إله إلا الله، هؤلاء القوم دهشوا، وصعقوا لهذه الدعوة التوحيدية، عندهم آلهة كثيرون، فإذا فحوى دعوة النبي أن الإله واحد، هم يعتقدون أن هذه الحياة: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ ليس ثمة غيرها، فإذا بهذا النبي الكريم يقول: لا، الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، الحياة الآخرة هي الحياة الأبدية، الحياة الآخرة أساسها التكريم، الحياة الآخرة ليس فيها تعب ولا نصب، ولا فقر ولا مرض، ولا زوجة سيئة ولا ولد عاق، ولا جار مزعج، ولا إنسان ظالم، الحياة الآخرة نعيم مقيم، (( أعددت لعبادي الصالحين ـ دققوا ـ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )) لذلك لم يصدقوا، قالوا:
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾
أيها الأخوة، لو أغفلنا الدار الآخرة لتفجر مليون سؤال، لماذا فلان غني وفلان فقير؟ لماذا فلان بيته أربعمئة متر، وفلان لا يجد غرفة في رأس الجبل يتزوج فيها؟ لماذا إنسان يأمر بقتل شعوب بأكملها، ويتصدر في المجالس، ويتبجح ويتغطرس، وأناس يموتون قهراً؟ إذا لم يوجد آخرة، يتفجر مليون سؤال. فلذلك ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن الكريم كركني التوحيد واليوم الآخر، في اليوم الآخر تسوى الحسابات، في اليوم الآخر يؤخذ للمظلوم من الظالم، وللمغتصب ماله من المغتصب، في اليوم الآخر يؤخذ كل ذي حق حقه.
حياة أهل قريش ما فيها قيد أو شرط، شرب الخمر، زنا، أنواع الزنا لا تعد ولا تحصى، أنواع الإباحية في الجاهلية لا توصف، ربا مخيف، فإذا بهذا الدين الجديد يحرم عليهم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. لذلك طار صوابهم، واختل توازنهم، إله واحد، وهناك آخرة، وهناك محرمات، لكن طبقية مجتمع مكة لا تحتمل، هناك سادة وعبيد، العبد ليس له أي شيء إلا القهر والقتل، والعمل بلا مقابل، فإذا بهذا الدين يساوي السادة مع العبيد، كلكم من آدم وآدم من تراب، الناس سواء كأسنان المشط. غير معقول، إله واحد، وهناك آخرة، ومحرمات، وما لنا ميزة على هؤلاء، محرمات، ومساواة، لا، هؤلاء الضعفاء لهم حق في أموالكم.
عندئذ طار صواب قريش، ما تحملوا ذلك، راودتهم فكرة أن يأتوا مجلس النبي، ولكن هناك سوقة عنده، وضعفاء، وعبيد، وفقراء، هم علية القوم، هم الأغنياء، هم الأقوياء، هم الآمرون، هم الناهون، فقالوا: إن لم يكن من بقائهم بد فليكونوا في مؤخرة الصفوف، لنا يوم ولهم يوم. فإذا بالوحي العظيم، يقول: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ديننا دين المساواة،دين الفطرة، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى. هذا الدين، ليس فيه طبقية، ما من إنسان أحسن من إنسان إلا بالتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
أيها الأخوة، الذي ينبغي أن نعلمه جميعاً أن هذه الدعوة التي أساسها التوحيد، وأساسها الإيمان باليوم الآخر، وأساسها افعل ولا تفعل، عندنا أمر، عندنا فرض، واجب، سنة مؤكدة، سنة غير مؤكدة، مستحب، مباح، شيء مكروه تنزيهاً، شيء مكروه تحريماً، حرام، هناك منهج، إله واحد، ويوم آخر، افعل ولا تفعل، والناس سواسية كأسنان المشط، وهناك أموال الأغنياء حق للفقراء، هذه الخطوط الكبيرة للدعوة الإسلامية، وكلها تتناقض مع طبيعة من نزل عليهم الوحي، وكلها تتناقض مع من توجه الوحي إليهم ليهديهم سواء السبيل. فالجاهلية التي رافقت ظهور الإسلام سماها الله الجاهلية الأولى، ما معنى أن يسميها الجاهلية الأولى؟ المعنى أن هناك جاهلية ثانية نعيشها الآن، لذلك: (( بدء الدين غريباً ويعود كما بدء، فطوبى للغرباء، أناس صالحون في قوم سوء كثير )).