لقد أودع الله في مدارك الأفكار، وفي مشاعر الوجدان ما تدرك به فضائل الأخلاق ورذائلها، وهذا ما يجعل الناس يشعرون بقبح العمل القبيح، وينفرون منه، ويشعرون بحسن العمل الحسن، ويرتاحون إليه، وبذلك يمدحون فاعل الخير ويذمون فاعل الشر، لقد أرشدت النصوص الإسلامية إلى وجود الحس الأخلاقي في الضمائر الإنسانية، وأحالت المسلم المؤمن إلى استفتاء قلبه في الحكم على أي سلوك قد تميل النفس إليه، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ فالنفس الإنسانية منذ تكوينها وتسويتها أُلهمت في فطرتها إدراك طريق فجورها، وطريق تقواها، وهذا هو الحس الفطري الذي تدرك به الخير من الشر.
الإنسان لديه بصيرة يستطيع أن يحاسب بها نفسه محاسبةً أخلاقيةً على أعماله ومقاصده، ولو حاول في الجدل اللساني الدفاع عن نفسه وإلقاء معاذيره على غيره، قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((البِرُ حـسن الخـلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) هذا الحديث يدل على أن في النفس الإنسانية حساً خلقياً بالإثم،لذلك يكره فاعل الإثم أن يطلعَ عليه الناس، لأنه يعلم أنهم يشعرون بمثل ما يشعر، وذلك بحسٍ أخلاقي موجودٍ في أعماق النفس، هذا الحس هو ما أسماه الباحثون الأخلاقيون بالضمير، وليس هناك ما يمنع بالضمير الأخلاقي، هذا الضمير إذا كان نقياً صافياً سليماً من العلل والأمراض فإنه يستطيع أن يحس بفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك، وأن يحس برذائل الأخلاق ومساوئ السلوك، وأن يميز بين الصنفين.
البر المفسر في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق، يفعله الإنسان السوي، وهو مطمئن القلب، مطمئن النفس، أما الإثم فإن الإنسان السوي لا يقدم عليه إلا وفي نفسه قلق منه، وفي صدره تردد واضطراب، فالطمأنينة علامة البر، والتردد والاضطراب وخوف إطلاع الناس علامة الإثم، ولكن قد يختلط الأمر في بعض الأعمال على العقل والضمير، ويلتبس عليهما وجه الحق، فيكونان حينئذ في حاجة إلى هداية وتبصير، وقد تطغى الأهواء والشهوات أو العادات والتقاليد، أو يؤثر فيهما الموجهون المضللون أو الشياطين الموسوسون من الجن والإنس، وطريقة المسلم في هذه الحالة هي اتقاء الشبهات، فإذا كان اتقاء الشبهات في جانب الترك لأن الأمر مشتبه بين الحلال والحرام كان الأفضل أن يترك العمل المشتبه فيه خشية الوقوع في الحرام، وإذا كان اتقاء الشبهات في جانب الفعل لأن الأمر مشتبه بين الحلال والواجب كان الأفضل أن يأتي بالعمل المشتبه فيه خشية الوقوع في ترك الواجب، والدليل على هذه الطريقة التي ينبغي أن يتبعها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )) وقد جاءت كلمة الشبهات جمعاً لأنها كثيرة جداً بالنسبة إلى الحلال والحرام، وجاءت جمعاً لأنها متفاوتة في قربها من الحلال، وقربها من الحرام، والأسلم للمسلم الصادق في استسلامه إلى ربه أن يدع هذه الشبهات استبراءً لدينه عند الله، وعرضه عند الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك))
لما كان الإنسان مزوداً في أصل كيانه بعقل إذا أعمله متفكراً في خلق السماوات والأرض أوصله إلى الإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، وموجوداً، وواحداً، وكاملاً. ولما كان الإنسان مزوداً في أصل فطرته بحسٍ أخلاقي كافٍ لإدراك الخير والشر، والحق والباطل من دون معلم، ولا موجه، ولا كتاب منير، إنه مزود بعقل يدله على الله، ومزود بفطرة تدله على خطئه، لذلك بما أنه مزود في أصل كيانه بعقل، وفي أصل فطرته بضمير كافيين لمعرفة عظمة الله، ولمعرفة حال نفسه، يُقال له يوم القيامة عندما يُسلم كتاب عمله في الحياة الدنيا: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ أي إنك ستحاسب نفسك لأنك تملك ميزانين، ميزان العقل وميزان الفطرة.
فضلاً عن الحس الأخلاقي الذي أودعه الله في الإنسان إدراكاً وشعوراً، هنالك قواعد هادية للبصيرة الأخلاقية، نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، من هذه القواعد عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتَأتِه مَنِيَتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه)) كلما اشتبه على الإنسان أمر السلوك، عليه أن يضع نفسه مكان الطرف الآخر ويفترض أن الأمر كان معكوساً، فالأمر الذي يستحسنه لنفسه من الآخرين مما لا معصية فيه هو الأمر الذي ينبغي أن يفعله معهم، لذلك على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ما الهدف من التزام مكارم الأخلاق التي ترتاح إليها الفطرة، والتي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها؟ وما الهدف من اجتناب نقائص الأخلاق والتي تنكرها الفطرة، والتي نهى عنها الإسلام أو رغب في تركها؟ الهدف يحقق الغاية من وجوده، ومن سلامة وجوده، ومن كمال وجوده، ومن استمرار وجوده، ذلك لأن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفي القلب نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه وقدره، والصبر على ذلك إلى يوم لقائه، وفي القلب فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، والإخلاص له.
مجمل القول أن الإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم:
- أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً.
- وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً.
- وأن من أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً.
- وأن خير ما أعطي الإنسان خلق حسن.
- وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن.
- وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الجنة، والخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل .