بحث

الحج عبادة شاملة وبرهان

الحج عبادة شاملة وبرهان

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحج له من بين العبادات مكانة متميزة، فهو عبادة بدنية يحتاج الإنسان إلى سعي وطواف وسفر وانتقال وصلاة وعبادة، وعبادة مالية، يحتاج إلى نفقات كثيرة، عبادة بدنية ومالية وزمانية وروحية. هذه العبادة جمعت بين حركات الجسم وبين إنفاق المال وبين المكان المحدد والزمان المحدد، لكن الأجر الذي أعدّه الله للحاج لا يعلمه إلى الله، وأقله أنه ليس له جزاء إلا الجنة. إن الحج المبرور برهان على أن في قلب المؤمن محبة لله عز وجل تطغى على حبه لماله وأهله وأولاده وعمله وجيرانه، إنه برهان عملي على الإيمان الصحيح، من كان في قلبه إيمان صحيح كان أداء الحج برهاناً على هذا الإيمان الصحيح. إن هذه العبادة المكثفة قد تصلي ونفسك مشغولة بأمور الدنيا، قد تصوم ونفسك معلقة بهذا المحل التجاري، ولكن الحج ينتزعك من بلدتك وفي بلدتك الهموم والمشكلات والمتاعب والرغبات والصراعات، إن من حكم الحج أنه تفرغ لله عز وجل، لذلك كان الحج رحلة إلى الله عز وجل، إني مسافر إلى ربي، إني أحج بيت الله الحرام أي أنك ذاهب إلى الله عز وجل ليهديك سواء السبيل 

     فالإنسان حينما يحج البيت ينخلع عن مرتبته الاجتماعية، الحجاج سواسية لا فرق بين وزير وغفير، ولا بين أمير وأجير، ولا بين غني وفقير، ولا بين قوي وضعيف، الكل حاسر الرأس، يرتدي إزاراً ورداءً، ولا يحق له أن يناله شيء من نعيم الدنيا لا طيب، ولا تقليم أظافر، ولا حلق شعر، ولا شيء من هذا القبيل، الإنسان حينما يحج البيت فكأنما حج البيت رحلة تعطيه حجمه الحقيقي، ألم يقل الله عز وجل:  ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾  فالإنسان إذا ذهب إلى الحج ورأى جموع المسلمين على صعيد واحد في وضع متساو لا فرق بين واحد وواحد، كلهم ضعيف يبتغي وجه الله عز وجل، إن هذا الحاج الذي ترك مكانته الاجتماعية، ورتبته المدنية، ووظيفته العالية، وبيته المريح، إن هذا الحاج يعود إلى حجمه الحقيقي، فكأن رحلة الحج تشبه رحلة الموت.  

     الله سبحانه وتعالى حين أمر الحاج عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام أن يرتدي ثوبين أبيضين كأنه يريد أن يبين للحاج أن مظاهر الدنيا كلها لا قيمة لها عنده، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم أي شيء يتيح لك أن تتزين به فهو محرم في الحج، ليس لك إلا أن ترتدي هذين الثوبين غير المخيطين، ومن ارتدى ثياب الإحرام يعرف نعمة الثياب المخيطة، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ارتفعت مكانته وكثر ماله ونسي المبتدا والمنتهى، إنه تحجيم لهذا الإنسان الذي ربما أدخلت على قلبه وفرة المال شعوراً بالعلو على بقية الناس. 

     يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:  ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ*فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾  هذه الآية الكريمة أصل في فرضية الحج، فالله سبحانه وتعالى يقول:  وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ -على سبيل الفرض-  مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً   وَمَنْ كَفَرَ  أي من كان مستطيعاً أن يحج البيت ولم يحجه إنكاراً لفرضية هذه العبادة فقد كفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه:  ((إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، فأتت عليه خمسة أعوام لم يفد إلي لمحروم))  وقال عليه الصلاة والسلام مخاطباً عمرو بن العاص رضي الله عنه:  ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ))  يقول عليه الصلاة والسلام قَالَ:  ((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ)) وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:  ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)). 

     في الحج سرّ لا يعرفه إلا من ذاقه، في الحج ازدحام، وفي الحج حرارة شديدة، وفي أيام الحج خشونة في المأكل والمشرب والملبس، ومع ذلك من كان حجه صحيحاً ومخلصاً يتمنى أن يحج في كل عام، ما تفسير ذلك؟ أن الله سبحانه وتعالى جعل طعم الإقبال عليه، ولذة القرب منه، وحلاوة التجلي تفوق كل هذه المصاعب، فعلى الرغم من كل هذه المصاعب يتوق من حج البيت حجاً صحيحاً أن يحج في كل عام. إذاً الله سبحانه وتعالى حينما جعل الكعبة البيت الحرام في بلاد حارة، وفي واد غير ذي زرع، لا شجر، ولا نبات، ولا هواء رطب، ولا مناظر خضراء، إنما هي جبال جرداء، وحر شديد، ليبينأن أثمن ما في الحياة أن تكون موصولاً بالله عز وجل، فإذا اتصلت بالله في هذه الديار أنستك هذه الصلة كل هذه المتاعب والمشقات. كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك: تعال يا عبدي، تعال إليّ لأريحك من ذنوب أثقلت ظهرك، تعال إليّ لأريحك من حب الدنيا، تعال إليّ لأذيقك طعم قربي، تعال إليّ لأذيقك حلاوة مناجاتي، تعال إليّ لترى أن الإقبال عليّ أثمن ما في الدنيا، تقول له: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، هذه التلبية تعني أنك استجبت لأمر الله. مهما تحدثنا عن المشاعر التي تنتاب الحاج في الأرض المقدسة فإنه من ذاق عرف، والعيان غير الخبر، ليس المعاين كالمخبر. 



المصدر: الخطبة : 0219 - أصل فريضة الحج - التمر.