بحث

القوة من منظور إسلامي

القوة من منظور إسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

     الإنسان هو المخلوق الأول عند الله رتبة، لقوله تعالى:  ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ فلما قَبِل هذا الإنسان حمل الأمانة أعطاه مقوماتها، أعطاه عقلاً، وأعطاه نفساً، أعطاه منهجاً، أعطاه شهوة، أعطاه حرية، أعطاه أشياء كثيرة، هذه الأشياء مقومات هذا الاختيار، الشيء الواقع أنه لحكمة بالغة جعل الله من عباده من هو قوي ومن هو ضعيف، ومن هو غني ومن هو فقير، ومن هو وسيم ومن هو غير وسيم، تفاوت الحظوظ له حكمة بالغة، هذا التفاوت يعني أن الإنسان ممتحن بحظوظه التي آتاه الله إياها سلباً أو إيجاباً، أعطاه المال ممتحن بالمال، حرمه المال ممتحن بحرمانه من المال، أعطاه القوة ممتحن بالقوة، لم يعطه القوة ممتحن بخلافها، فهذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، لذلك:  ((اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ)) . 

     بحياتنا أناس أقوياء وأناس ضعفاء، والقوي ممتحن بالقوة، هل ضبطها؟ هل جعلها وفق منهج الله؟ هل استعان بها على عمل صالح تمتد آثاره إلى أبد الآبدين أم استغل هذه القوة بشهواته ومآربه الشخصية؟ يمتحن الإنسان بالقوة،   لو تحدثنا عن موضوع القوة، الله جلّ جلاله وحده هو القوي، ولا قوي سواه، وكل قوة في الأرض في الذوات والأشياء مستمدة من قوة الله وحده، تأييداً، أو استدراجاً، أو تسخيراً لحكمة بالغة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، في اللحظة التي تتوهم أنك قوي، وهذه القوة من صنعك، وقعت في شرك كبير، وأيها الضعيف حينما تتوهم أنك ضعيف، ولا تملك شيئاً، أنت قوي بالله، وأنت غني بالله، وأنت حكيم بالله، لذلك قد نستنبط من الأحداث أن الذي يتوهم أنه قوي، ومعه كل أوراق القوة، يفقدها في يوم واحد، والذي يتوهم أنه ضعيف، ولا يملك من أسباب القوة شيئاً، قد يتملكها في يوم واحد، فلذلك الله هو القوي، وكل إنسان أراد أن يكون قوياً ينبغي أن يستمد قوته من الله عز وجل، قال تعالى:  ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ . 

     القوة كلمة واسعة جداً، هناك قوة بالمال، وقوة بالمكانة، وقوة بالمنصب، وقوة بالجمال، والقوة لله جميعاً، لذلك إن أردت قوة حقيقية لا تتحول عنك فابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها، إنها قوة الله عز وجل، إن أردت أن تكون قوياً طوال حياتك فابحث عن قوة ليست مرتبطة بإنسان فلو أزيح هذا الإنسان فقدت كل القوة، إن أردت القوة الحقيقة فابحث عنها عند الله لأن هذه القوة لا تزول أبداً.  لذلك إن الجبن والخور، والاستكانة والاستسلام، والانهزامية والذل، وجميع هذه المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة المؤمنين، فأنت كائن لم تخلق إلا لتكون قوياً، قوياً بالله، عزيزاً بالله، حكيماً بالله، عالماً بالله، هذا أعظم ما في الدين، أنت إنسان ضعيف لا تعلم، لا تقوى، لست حكيماً، لست قوياً، لست غنياً، لكنك إذا أقبلت على الله أنت قوي به، أنت حكيم به، أنت عليم به، أنت رحيم به، لذلك من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام:  ((... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ)) .

     الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف، أو السكوت عليه، بل هو دعوة لاستشعار القوة حتى في حالة الضعف، أنتم لو تابعتم هذه الأحداث ترون أن الذي يملك كل أسباب القوة فقدها في يوم، والذي لا يملكها أمسكها في يوم، معنى ذلك أن الله هو القوي، قد يعطيك القوة فتمتحن بها، وقد يأخذها منك فتمتحن بأخذها. ما هي أسباب القوة؟ نحن كمؤمنين أنت مسلم، ما هي أسباب القوة عندك؟ 

  • التوحيد أحد أكبر أسباب القوة: التوحيد تحرير الإنسان من كل عبودية إلا لربه الواحد الديان، إذا كنت تابعاً لإنسان فقوتك منوطة بقوته، فإذا أزيح عن مكانه فقدت كل القوة، أما إذا كنت تابعاً للواحد الديان، فأنت قوي إلى كل الحياة، لذلك الله عز وجل خلق الإنسان فسواه، وكرمه وأعطاه، وجعل التوحيد تحريراً لعقله من كل الخرافات والأوهام، والتوحيد تحرير لضميرك من الخضوع والاستسلام، والتوحيد تحرير لحياتك من تسلط الأرباب والمتألهين، التوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي توضحت في الحياة وجهتها، وتوحدت غايتها، وتحدد طريقها، فليس لها إلا إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يلد ولم يولد، هذه الذات الإلهية الكاملة، يتجه المؤمن إليه في الخلوة والجلوة، يدعوه في السراء والضراء، يرضيه في الصغيرة والكبيرة، قال تعالى:  ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أنت لله، من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها. التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، التوحيد يملأ النفس إيماناً، وأمناً، وطمأنينة، فلا تستبد بالنفس المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك، فقد سدّ الموحد منافذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم، الخوف على الرزق، و الخوف على الأجل، و الخوف على النفس، والخوف على الأهل والأولاد، والخوف من الإنس، والخوف من الجن، والخوف من الموت، والخوف مما بعد الموت، أما المؤمن الصادق الموحد فلا يخاف إلا الله، ولا يخشى إلا الله، لهذا تراه آمناً إذا خاف الناس، مطمئناً إذا قلق الناس، هادئاً إذا اضطرب الناس، دقق في هذه الآية:  ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ . التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، يمنح النفس قوة هائلة تمتلئ هذه النفس بالرجاء بالله تعالى، وبالثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر على بلائه، والاستغناء به عن خلقه، فالمؤمن الموحد راسخ كالجبل، لا تزحزحه الحوادث، ولا تزعزعه الكوارث.  
  • العلم قوة: بل هو قوة هائلة، فالعلم يعطيك طاقة لا تتقيد بحدود الزمان والمكان، وتكسب صاحبها علواً ومنزلة، وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة، والدليل:  ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.  دخل سليمان بن عبد الملك الحرم المكي، ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، وقادة الجيش، وكان حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ ورداءه، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ محرم من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولدان وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نضارةً وطيباً، وما إن انتهى خليفة المسلمين وهو أعظمُ مُلوك الأرض، من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال مَن عالم مكة؟ هذا خليفة المسلمين كان يحكم ثلث الأرض ومع ذلك سأل من عالم مكة، فقالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فالتقى به، فوجده شَيْخٌاً حبَشِيّاً، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر، أفْطَسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد، كأن رأسه زبيبة، مشلولاً نصفه، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: هكذا يقولون، وحدث بعد اللقاء الأول أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: خذوني إلى عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس متحلقون حوله، فأراد سليمان أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس، فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد، لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبداً حبشيًّاً، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف، ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ! تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل، ويَعْلو الأرِقَّاء إلى مراتب المُلوك. 
  • العبادة قوة: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، اسمه جُليبيب، رجل فقير معدوم، عليه أسمال بالية، جائع البطن، حافي القدمين، مغمور النسب، لا جاه، ولا مال، ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث، ولا متاع، وينام في المسجد، وسادته ذراعه، وفراشه الأرض، هل هناك أقل من هذا؟ وكان في وجهه دمامة، لكنه صاحب ذكر لربه، وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات، ولا في كل الغزوات، ويكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم،  قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم : يا جُليبيب ألا تتزوج؟ فقال : يا رسول الله ومن يزوجني؟ فقال رسول الله: أنا أزوجك يا جُليبيب، فالتفت جُليبيب إلى الرسول فقال: إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله.. فقال الرسول الكريم: غير أنك عند الله لست بكاسد دخل شخص على النبي فقال له: أهلاً بمن خبرني به جبريل، قال له: أو مثلي؟! قال له: نعم يا أخي، خامل في الأرض علم في السماء، وكل واحد منكم ولو كان شاباً صغيراً بإمكانه أن يكون علماً في السماء، لأن طاعة الله بين يديه، والطريق إلى الله سالك، اطلب العلم واعمل به. العبرة بالطاعة ((سلمان منَّا أهل البيت)) سلمان إنسان فقير وكذلك صهيب  ((نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه)) .

هذا هو الامتحان، هؤلاء الصحابة وصلوا إلى ما وصلوا إليه لأن القيم المادية كانت تحت أقدامهم.  

 



المصدر: الخطبة : 1185 - القوة لله - قصة جليبيب.