بحث

لا قسوة في الإسلام بل رحمة وتسامح

لا قسوة في الإسلام بل رحمة وتسامح

بسم الله الرحمن الرحيم

     موضوعنا مستوحى مما يجري في العالم كله من قسوة وعنف، وقمع وقهر، وما في الإسلام من الرحمة والعدل.  

     وردت كلمة القسوة في القرآن الكريم في سبعة مواضع، كلها سيقت في معرض الذم، قال تعالى:  ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾   وقال تعالى:  ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾  وقال صلى الله عليه وسلم:   ((لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقيٍّ))  والشاة إن رحمْتَها رحمك الله. وإنما بعث النبي عليه الصلاة والسلام، رحمةً للعالمين. 

     هناك عدوان لفظي، أصوات عالية، صراخ، وقد أورد الفقهاء أنه تجرح عدالة الإنسان إذا علا صوته في بيته، شتائم، تهديد. أضرب لكم بعض الأمثلة: امرأة قدمت لزوجها ساعة كهدية، قال: كم ثمنها؟ أخبرته، قال: مضحوكٌ عليكِ بهذا الثمن، غالٍ جداً، لا تستأهل هذا الثمن، هذا ردةُ فعلِه لمن قدمت له هدية. رجل قدم لزوجته وردة، فشمتها، ثم ألقتها، قالت: ما لها رائحة. قال صلى الله عليه وسلم:  ((الكلمة الطيبة صدقة))  معظم الناس يحمِّرون الوجوه، يحرجون بعضهم بعضاً، يسفهون أقوال بعضِهم بعضاً، يحجّمون بعضهم بعضاً، في شؤون الحياة التافهة، همّه أن يقتنص، همّه أن يصغّر الإنسان، همّه أن يحمِّر وجهَه، هذا كله ينضوي تحت بند العنف، عنف في الملامح، تقطيب، تجهّم، عنف في الألفاظ. في البيوت، أحياناً تجد زوجاً لا يعرف نعمة الزوجة، وتجد امرأة لا تعرف نعمة الزوج، وتجد أباً لا يعرف نعمة الابن، وتجد ابناً لا يعرف نعمة الأب. 

     قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:  ((إني لأقومُ في الصلاة أريدُ أن أطوِّل فيها، فأسمعُ بكاءَ الصَّبيِّ فأتجوَّزُ في صلاتي، كراهية أن أشقَّ على أُمِّه))  نبيُّ الأمة في صلاة الفجر ينبغي أن يقرأ الصفحات من القرآن، يقرأ أقصر سورة رحمةً بالأم التي يناديها ابنها ببكائه. 

     أما المدارس فهي أشبه بالثكنات العسكرية، تعتمد على حشو المعلومات، وحقنها، وتنحاز إلى الجانب المعرفي على حساب التربية وبناء الشخصية، يقول عليه الصلاة والسلام:  ((علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف)). 

     قال تعالى:  ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾  احترام الآخرين والتزام الذوق السليم، اختيار الأحسن من القول، الأحسن، يعني لو أن هناك ألف قول حسن، فينبغي أن تختار الأحسن، قال تعالى:  ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ أما إذا جادلت، فقال تعالى:  ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فرق بين أن تدعو بالموعظة الحسنة، وبين أن تجادل، لأنك إذا جادلت فهناك تحدٍّ، هناك نفوس، هناك إنسان ربط كرامته مع فكرته، لذلك إذا جادلت فجادلهم بالتي هي أحسن، قال تعالى:  ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ليس هناك تعالٍ إطلاقاً، أنا على حق، وقد أكون مخطئاً، والطرف الآخر على باطل، وقد يكون مصيباً، قال تعالى:  ﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هذه أخلاق القرآن، هذه أخلاق المحاورين. قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:  ((إِنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ))  رجل أخلاقه حسنة، يدرك بأخلاقه الحسنة درجة الصائم القائم. 

     ماذا فعل النبي حينما ساق له أحد أصحابه رجلاً دخل على بستانه، وأكل من دون إذنه، ووصمه بالسرقة؟ قال عليه الصلاة والسلام:  ((ما علمته إذا كان جاهلاً، ولا أطعمته إذا كان ساغباً أو جائعاً))  من أين عالج المشكلة؟ من أسبابها لا من نتائجها، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟  ((هل تُنصَرون وتُرزَقون إِلا بضعفائكم؟))  الضعيف، الفقير، إن أطعمته إن كان جائعاً، إن كسوته إن كان عارياً، إن علمته إن كان جاهلاً، إن داويته إن كان مريضاً، إن علمته إن كان يحتاج إلى المعرفة، هذا الضعيف يتماسك معك، ويصبح المجتمع حصناً حصيناً لا يمكن أن يخترق. 

     حاور النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وما استعمل العنف حتى لو كان منحرفاً حاوره، تصوروا إنساناً يطلب من رسول الله أن يزني، يطلب ذلك أمام أصحابه، كلام غير مقبول ومستهجن:   ((أن فتى من قريش أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه، فقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريباً فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))     

     قال تعالى:  ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ وقال أيضا جلا جلاله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.  لمَ لا تجعل النبي قدوة لك؟ ضربوه فقال:  ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمونَ)) 

     أحد الذين أشاعوا حديث الإفك عن ابنة سيدنا الصديق رضي الله عنه، إنسان يحسن إليه باستمرار، فأخذه ألمُ البشر، فقرر ألا يتابع إحسانه إليه، فعاتبه الله عز وجل فقال:  ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾  فبكى الصديق، وقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي . وعاد إلى الإحسان إليه، مع أنه أساء إليه إساءة كبيرة جداً. 

     قال رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:  ((كان فيمَنْ كان قبلَكم تاجر يُدايِنُ الناسَ، فإِن رَأى مُعْسِراً قال لفتيانه: تَجَاوزُوا عنه، لعلَّ الله يتجاوزُ عنَّا، فتجاوَزَ الله عنه)) 

     العنف الذي في العالم سبب ما يجري في العالم، لأن العنف لا يلد إلا العنف، أعطيكم صور هذا العنف وملامحه القاسية من خلال تعاظم حالة نفسية لها آثار خطيرة يتوهمها صاحبها هي صناعة الرعب، ويظن أنه حالما يظهر يتجمد الآخرون أمامه وأن هذا من قوة الشخصية، لا، هذا من ضعف الشخصية، هذا من أمراض نفسية، هذا من إحساس بالنقص، هذا من شعور بالذنب، هذا من اختلال في التوازن. مدير شركة، مدير مدرسة، مدير مستشفى، كل من كان مقطّب الجبين، وكل من بثَّ الرعبَ فيمن حوله وهو يعدّ نفسه قائداً حكيماً، وشخصيةً قوية، لا، قوتك في تواضعك، قوتك في أن يلتفَّ الناسُ حولك، قوتك في أن تملأ قلوبَ من حولِك بمحبتك، يقول الصحابي الجليل جرير بن عبد الله رضي الله عنه:  ((ما حَجَبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسملتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم في وجهي))  هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام.  

     هذا النبي الكريم أوتي الوحي، أوتي المعجزات، كان سيد ولد آدم، هو سيد الأنبياء والمرسلين، أوتي الفصاحة، أوتي الجمال، كان كالبدر، قال له: أنت أنتَ يا محمد، مع كل هذه الخصائص، قال الله تعالى له:  ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾  معادلة رياضية:  ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾  أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك انعكست ليناً في تعاملك مع أصحابك، فالتفوا حولك، ولو لم تكن هذه الرحمة في قلبك لانعكست غلظةً فانفضَّ الناسُ من حولك: رحمة لين التفاف. قسوة غلظة تنافر. 

     في كل أمر نفعله نقول: بسم الله الرحمن الرحيم، في الصلاة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، عندما ننهي الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، كلمات الرحمة في ديننا، في قرآننا نقرؤها كل يوم. 



المصدر: الخطبة : 0958 - القسوة والرحمة.