البناء الفردي أساس البناء الاجتماعي، بناء الفرد أساس بناء الأسرة، أساس الأسرة أساس بناء المجتمع، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام اعتنى بالفرد، وأول شيء فعله النبي عليه الصلاة والسلام هو البناء الفردي، بنى شخصية الإنسان المؤمن، الشخصية بناء، ترى الإنسان إيمانه ضعيف، نفسه مشتتة، ثقته بالله ليست كما ينبغي، عزيمته خائرة، همته ضعيفة، هذا الإنسان لا يصنع شيئاً، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم الواحد منهم بألف، النبي صلى الله عليه وسلم بنى شخصية المسلم المؤمن، مؤمن بوجود الله، مؤمن بألوهيته، بربوبيته، مؤمن بأسمائه الحسنى، بصفاته الفضلى، مؤمن أن الأمر بيده، مؤمن أن الله لا يتخلى عن المؤمنين. يمكن لإنسان يرتدي ثوبًا أبيض، ويضع سماعة في أذنه، وميزان حرارة في صدره، ونظارة، ويقول لك: أنا طبيب، وقد يكون أمياً، بينه وبين الطبيب الذي يحمل أعلى شهادة، وقد أمضى تسعة وثلاثين عامًا في الدراسة، واختص في اختصاص نادر، هذا طبيب، وذلك يدعي أنه طبيب، الطب عند الأول ثوب أبيض، ونظارة، وسماعة، وميزان حرارة فقط، وهو جاهل، والثاني أمضى 39 سنة يدرس. فكلهم يدعي أنه مؤمن، النبي عليه الصلاة والسلام بنى إيماناً، الإيمان لا يأتي من دون جهد، وما من إنسان ينام ثم يستيقظ وقد أصبح دكتورا، ينام ثم يستيقظ وقد أصبح صاحب أكبر مؤسسة تجارية، هذه المراتب العلمية، والمؤسسات الناجحة جداً وراءها أدمغة، وراءها عقول، وراءها خبرات متراكمة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام بنى إيماناً في نفوس أصحابه، الإيمان أقوى من الجبال، الإيمان أساس الفضائل، وأس العزائم، وبلسم الصبر عند الشدائد، كلمة مؤمن في الميزان الإيماني ككلمة دكتوراه في الميزان العلمي، بالضبط. الإيمان من أين يأتي؟ لا يأتي وأنت في البيت، لا يأتي وأنت مستلق، وأنت مسترخٍ، الإيمان لا يأتي من دون جهد كبير، لذلك كل واحد منا يجب ألا يقنع بإيمانه، الدليل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا﴾، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن إيمانكم لا يكفي، إن ما أنتم عليه من إيمان ليس في المستوى المطلوب، فالنصر نتيجة لآلاف الدروس، وآلاف الجهود، وآلاف العبادات ويتوج هذا كله بالنصر.
الشخصية الإيمانية التي فيها قوة الإيمان فيها محبة، ليس هناك التزام فقط، هناك محبة، والمحبة تجعل الإنسان ينطلق، يضحي، يبذل الغالي والرخيص، النفس والنفيس. امرأة أنصارية بلغها أن النبي قُتل، انطلقت إلى أُحد، تقول: ما فعل رسول الله؟ رأت ابنها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله؟ رأت زوجها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله، رأت أباها مقتولاً، ما فعل رسول الله؟ رأت أخاها مقتولاً، فلما رأته واطمأنت على حياته وسلامته، قالت: يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل، ورأت غباراً على وجهه الشريف، قالت: والله يا رسول الله لهذا الغبار أشد عليّ من موت كل من حولي.
النبي زكى النفس الإنسانية، ليس هناك مؤمن لئيم، ولا مؤمن مخادع، ولا مؤمن بخيل، ولا مؤمن جبان، ولا مؤمن كذاب، ما لم تزك نفسك بمكارم الأخلاق، ما لم تكن أميناً عند التعامل، صادقاً عند التكلم، ما لم تكن عفيفاً عند إثارة الشهوة، ولم تكن متواضعاً، ولم تكن منصفاً، ولم تكن معطاء فلست مؤمناً، ائتني بواحد بهذا البناء، وهذه الأخلاق، عندئذٍ كما قال النبي الكريم: ((لن ـ اسمعوا جميعاً ـ لن تغلب أمتي من اثني عشر ألف من قلة)) . هل من المعقول أن سيدنا الصديق يُطّلب منه خمسين ألف رجل مددًا لسيدنا خالد، فيرسل له واحدًا؟! "القعقاع بن عمرو"، ولما وصل إلى سيدنا خالد قال له: أين المدد؟ قال له: أنا، قال له: أنت؟! قال له: أنا، وهذا الكتاب من خليفة رسول الله، فتحه، يا خالد فوجد فيه: <<والذي بعث محمداً بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يُهزم >>.
بعد التزكية التعلم، رسخ الإيمان، وزكت النفس، ينبغي أن تكون عالماً. في القرآن مرجِّحان فقط، قيمة العلم، وقيمة العمل، وما سوى ذلك لم يعترف القرآن أصلاً، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً. مع أن الحقيقة أنه ما لم تطلب العلم أولاً، وما لم تعمل به ثانياً، وما لم تدع إليه ثالثاً، وما لم تصبر على طلبه والعمل به، والدعوة إليه فأنت خاسر، فالصحابة الكرام بنى النبي عليه الصلاة والسلام فيهم الإيمان أولاً، إيمانا راسخا لا يتزعزع، ثم زكى نفوسهم، فتحلت بالكمالات البشرية، ثم طلبوا العلم علم الكتاب، علم السنة، الأحكام الشرعية، ثم دعوا إلى الله، والدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، والدليل: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ .
لقد ربى النبي أصحابه على الصبر، والإنسان الآن لأقل إغراء يُفتن، ولأقل ضغط ينهار، مع أن المؤمن الصادق لا تسنيه عن عقيدته لا سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة، فربى أصحابه على الصبر، لأن حقيقة الحياة فهيا ابتلاءات، فيها ظروف صعبة، فالذي رُبيّ على الصبر يتحمل، لا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
النبي عليه الصلاة والسلام أول شيء أصلح ذات البين، إزالة الخلافات الفردية، ينتهي الدين بفساد ذات البين، إذا كانت العلاقات فيما بيننا فاسدة، تجد في الأسرة الواحدة الشرخ، الابن مع أمه، والبنت مع أبيها، وخصام دائم، في الشركة الواحدة محوران، ومجتمع واحد فيه اتجاهات، لذلك قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إِيّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَهَا الْحَالِقَةُ لا أقول: حالقة الشعر ولكن أقول: حالقة الدين)) لأن المجتمع المنشق على نفسه ينتهي، إذا كان في بيتك انشقاق انتهى البيت، صار الوقت كله للصراع الداخلي، ليس هناك إنجاز، ولا الطالب يتفوق، ولا الفتاة تتفوق، ولا الأب مرتاح، ولا الزوجة مرتاحة، فحيثما حل الشقاق حل التخلف، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((إِيّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ)). يجب أن تعاهد نفسك، أن توفق بين كل متخاصمين، وأن تزيل خلافاً بين كل شخصين، على مستوى أسرة، على مستوى عائلة، على مستوى حي، على مستوى أصدقاء، جيران، حرفة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار)) ، ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)) .
نحن نعيش في مجتمعات متفسخة، فيها أثرة، وبخل، وقسوة، ليس فيها رحمة، مجتمع المسلمين الذي أسس في المدينة مجتمع القيم الأخلاقية، مجتمع المثل العليا، مجتمع الإنسان، الذي تسود حياته المبادئ والقيم، مجتمع رسالة السماء، رسالة السماء الآن متمثلة في المظاهر الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنما بعثت معلما)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) . كل واحد يحاسب نفسه، إن لم تكن متميزاً في أخلاقك، بضبط لسانك، بضبط جوارحك، إن لم تكن متميزاً في إنفاقك، بعباداتك، فلا: تقل أنا مسلم، ولا تقل: أنا مؤمن، في هذا المجتمع فيه محافظة على كل الفضائل والمكارم، التي عرفتها المجتمعات الإنسانية السابقة، فيه السعي لإتمامها وإكمالها، في هذا المجتمع فيها استبعاد لمفاسد الأخلاق للظلم والعدوان، وللاستغلال والجهل والعبودية لغير الله، فيه إقصاء لرواسب الماضي وانحرافات الناس الخلقية، والاجتماعية، والنفسية. الشيء الدقيق أن هذا المجتمع الإيماني في المدينة، هذا المجتمع تحولت فيه الطاقة المبعثرة للأفراد إلى بناء متكامل يسمو بها جميعاً، ويحقق لها العلم والتقدم، والوحدة الإنسانية، وتوجهها رسالات السماء، وفق المثل العليا الإنسانية، يقول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ﴾ .