أول شيء بالبناء الاجتماعي المؤاخاة، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والأنصار، القضية النفسية الحب بين المؤمنين يجعلهم متماسكين، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ، الله عز وجل يبين ما ينبغي أن نكون عليه فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ، هذه الآية منهج، هذه الآية أحد معالم طريق النصر، المؤاخاة بين المؤمنين. ما لم تشعروا بانتمائكم إلى مجموع المؤمنين فلستم مؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ . فالمؤاخاة من منهج النبي عليه الصلاة والسلام.
آخى النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي بين المسلمين الأوائل، آخى بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وآخى بين عبد الله بن مسعود والزبير بن العوام، وآخى بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر، وكان المسلمون الأوائل في مكة يعيشون الأخوة الكاملة بكل أبعداها ومعانيها من خلال دار الأرقم، والهجرتين الأولى والثانية، ومواجهة إيذاء وعدوان قريش. سيدنا الصديق بلغه أن بلالاً يُعذب بلال عبد، وفي السلم الاجتماعي في الدرجة السفلى، وسيدنا الصديق من أرومة قريش، من علية القوم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ، ذهب إلى صفوان ابن أمية سيد بلال، وكان يعذبه يضع على بطنه صخرة في لهيب الظهيرة، ويأمره أن يكفر بمحمد، وكان بلال يقول: أحدٌ أحد . ذهب إليه سيدنا الصديق، قال: بكم تبيعني إياه؟ اتفقا على مبلغ، ونقده إياه، أراد صفوان أن يبالغ بإهانة بلال، قال له: والله لو دفعت لي درهماً لبعتكه، فقال له الصديق: والله لو طلبت به مئة ألف درهم لأعطيتكها، هذا أخي حقاً ، وضع يده تحت إبطه. سيد قريش مع إنسان في الطبقة الدنيا، وقال: هذا أخي حقاً، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم إذا ذكروا الصديق يقولون: << هو سيدنا وأعتق سيدنا >>. وسيدنا عمر كان إذا علم أن بلالاً سيأتي المدينة كان يخرج، وهو عملاق الإسلام، وأمير المؤمنين، يخرج هو لاستقباله. نزوة صغيرة في ساعة غضب، والصحابة ليسوا معصومين، قال بعض الصحابة لبلال: يا ابن السوداء، بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال لهذا الصحابي الجليل القرشي: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) فلم يرضَ هذا الصحابي بعد أن سمع هذا من رسول الله إلا أن وضع رأسه على الأرض، وأمر بلالاً أن يضع قدمه فوق رأسه، هذا هو الإسلام. امرأة تقم المسجد، منظفة، توفيت، الصحابة الكرام اجتهدوا أن هذه المرأة من دنو مكانتها لا ينبغي أن نذكر للنبي أنها ماتت، النبي الكريم تفقدها بعد حين، قالوا: والله ماتت يا رسول الله، فغضب، قال: هلا أعلمتموني؟ لمَ لم تذكروا لي أنها ماتت؟ وذهب إلى قبرها، وصلى عليها صلاة الجنازة استثناء من أحكام صلاة الجنازة، صلاة الجنازة قبل الدفن، صلى عليها صلاة الجنازة بعد الدفن، هذا المجتمع المسلم. لذلك أنا أقول دائماً: المرض الأول في العالم الآن، ما هذا المرض؟ العنصرية، من هو العنصري؟ هو الذي يرى نفسه فوق البشر، يرى أن البشر في خدمته، وأن لحياته قيمة، وليس لحياتهم قيمة، وأن وقته ثمين، وليس وقتهم ثميناً وأنه معفى مما يجب على غيره، وأنه يحق له ما لا يحق لغيره، وأنه يبني مجده على أنقاض الآخرين، ويبني غناه على فقرهم، ويبني حياته على موتهم، ويبني أمنه على خوفهم، ويبني عزه على ذلهم.
أما في المدينة فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المساواة، أضرب لكم مثلا واحدا: أن بعض الذين آخى بينهم النبي عليه الصلاة والسلام هو عبد الرحمن بن عوف، آخى بينه وبين سعد بن الربيع، وقد عرض عليه سعد بن الربيع أحد بيتين، وأحد دكانين، وأحد بستانين، لم يُثبت التاريخ الإسلامي أن مهاجراً أخذ من أنصاري نصف ماله، قال له: بارك الله لك بمالك يا أخي، ولكن دلني على السوق، ما هذه العفة؟ الأنصار بذلوا نصف ما يملكون، والمهاجرون تعففوا عن أموال إخوانهم، قال له: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق، أنا أعمل. فحينما يكون المؤمن سخياً كريماً إلى درجة أن يهب أخاه نصف أملاكه تجد الطرف الآخر عفيفاً جداً جداً، ويقول: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق. قال العلماء: المؤاخاة هي حاجة الأنصار إلى التفكر في الدين، وحاجة المهاجرين إلى مأوى، وإلى مساعدة، وإلى بيت.
ما الذي يمنعنا نحن من تطبيق هذه المؤاخاة؟ إذا تآخيتم في الله تصبح حياتكم جنة، الحياة قاسية جداً، والأخبار سيئة جداً، والأشياء مقلقة، والمستقبل مظلم، لكن الذي يخفف عنك ثقل الحياة ومصائبها والضغوط الاجتماعية والخارجية والداخلية أخ في الله، وليس على وجه الأرض من إنسان يسعدك، وتسعده من أخ في الله. ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ، والمتحابون في جلالي على منابر من نور يغبطهم عليها النبييون يوم القيامة)) .