عظمة هذا الدين أنه قدم للإنسان تصوراً، أو فلسفة، أو عقيدة، أسماء لمسمى واحد، قدم له تصوراً عن الكون، والحياة، والإنسان، الحياة الدنيا حياة إعداد لحياة أخرى، المسلم عنده تصور صحيح أن الحياة الدنيا هي حياة إعداد لحياة أخرى، لذلك الدنيا دار تكليف بينما الآخرة دار تشريف، الدنيا دار عمل لكن الآخرة دار جزاء. لأن الله رحيم ولأنه خلقنا ليرحمنا، والدليل: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا، خلقنا ليعطينا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض، من مقتضيات رحمته أننا إذا غفلنا في الدنيا، أو قصرنا، أو خالفنا، هناك تدابير تربوية، للتقريب: كيف أن الأب حينما يرى ابنه مقصراً في الدراسة يشدد عليه، يحاسبه أشد المحاسبة، وقد يضربه، فإذا تفوق هذا الابن في مستقبل حياته، وعاش حياة كريمة رغيدة، تذكر فضل أبيه عليه. أعظم شيء في حياة المؤمن أنه يفهم على الله حكمته من المصيبة، المصائب لها خمسة أنواع:
- مصائب الأنبياء مصائب كشف ليس غير، الأنبياء ينطوون على كمال يفوق الشيء المألوف، لذلك مصائبهم مصائب كشف. ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف مشياً على قدميه، ثمانون كيلو متراً، ولما وصل إليها دعاهم إلى الإسلام فكفروا به، وكذبوه، وسخروا منه، وأغروا صبيانهم بضربه، والدماء سالت من قدمه الشريف، جاءه ملك الجبال، وقال له يا محمد: ((إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) مصائب الأنبياء مصائب كشف، أي هناك كمال كبير جداً، هذا الكمال يظهر بشكل صارخ بمصيبة.
- مصائب المؤمنين، مصائب دفعٍ أو رفع: أي سرعته بطيئة، عباداته غير متقنة، عطاؤه قليل، طلبه للعلم غير مقبول، ضعيف، يسوق الله له شدة يدفعه إلى المزيد، إلى أن يطور عبادته، إلى أن يطور طلبه للعلم، إلى أن يزداد ورعاً، مصائب المؤمنين مصائب دفع، سرعة بطيئة يحتاج إلى دفع، أو قبل عملاً صالحاً وبإمكانه أن يفعل عملاً أكبر، مصائب رفع، مركبة الطن بمئة ألف، بإمكانها أن تحمل عشرين طناً، حمّل طناً واحداً، نقول له: لا أنت عندك مركبة عندها إمكانية كبيرة جداً، فلماذا تقبل مبلغاً بسيطاً؟ خذ عشرة أضعافه.
- مصائب الكفار أو المشركين مصائب ردع أو قصم، إذا كان فيه خير واحد بالمليار، يسوق الله له مصيبة ردع، فإن لم يرتدع قصمه الله.
يسوق له مصيبة، للتقريب، إنسان معه التهاب معدة حاد، وإنسان معه ورم خبيث منتشر، فالأول سأل الطبيب ماذا يأكل، فأعطاه حمية شديدة جداً، على الحليب فقط، وتوعده الطبيب أنه إذا خالف هذه الحمية سوف يتفاقم مرضه، وقد يحتاج إلى عمل جراحي، هذه حالة، جاء مريض آخر معه مرض خبيث منتشر، فسأل الطبيب ماذا آكل؟ قال: كُلْ ما شئت، أيهما أفضل؟ هذا الذي خضع لحمية شديدة جداً أم هذا الذي قيل له كُلْ ما شئت؟ دنيا، ومال، وجاه، ومكانة، وبيوت، ومركبات، لذلك لا تنسى هذه الآية: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أما المؤمنون: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
لذلك نحن في دار ابتلاء، نحن في دار التواء لا دار استواء، وفي منزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، لأنه مؤقت، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي. يجب أن نؤمن أن الله عز وجل إذا ساق لعبد مؤمن مصيبة فليكون عطاؤه على صبره لهذه المصيبة بغير حساب، الصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، الصبر ليس جبناً، ولا يأساً، ولا ذلاً، بل الصبر حبس النفس عن الوقوع في سخط الله عز وجل، وتحمل الأمور بحزم وتدبر، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، هذه الآية الأولى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ما معنى بغير حساب؟ أحياناً يعطيك إنسان سنداً، هذا السند مضبوط بمبلغ معين، لك عندي مئة ألف، لك عندي مليون، لكن ما قولك أن تأخذ سنداً موقعاً و اكتب أي مبلغ تريد، إن كتبت ألف مليون تأخذهم، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ هذه الآية الوحيدة بغير حساب، هذا الذي ساق الله له مصيبة فصبر، النبي عليه الصلاة والسلام عنده صحابي جليل، له ابن جميل الصورة، كان يحبه حباً لا حدود له، من شدة تعلقه بابنه كان يضعه على كتفه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي الكريم سأله مرة أتحبه؟ فهذا الصحابي قال له كلمة رائعة، قال له: أحبك الله كما أحبه، بعد أيام افتقد النبي هذا الصحابي، فسأل عنه، فقيل له: لقد مات ابنه، فاستدعاه وعزاه، لكن الذي يلفت النظر أنه قال له: أيهما أحب إليك أن تمتع به عمرك- معك دائماً كظلك، في خدمتك، ولد بار، لم يفارقك، مطواع لك، بار بك- أم أن يسبقك إلى الجنة، فأي أبوابها فتحها لك؟ قال له: بل الثانية، قال له: هي لك. الصبر عادة الأنبياء، والمتقين، وحلية أولياء الله المخلصين، وهو من أهم ما نحتاج إليه في هذا العصر، الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقل معها صبر الناس عليها. وعن أهل الجنة قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾.
إذا تفضل الله علينا وعالجنا في الدنيا، وانتهى بنا الأمر إلى أننا إذا وصلنا إلى شفير القبر ليس علينا شيء، هذا أكبر كسب للمؤمن، أن تنتهي به الدنيا وقد غفر الله كل ذنوبه، طاهر من الذنوب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) وقال صلى اله عليه وسلم: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبة وأخلفه خيراً منها)) وليعلم المؤمن الصادق أنه كما قال الله عز وجل: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ وطن نفسك واعلم يقيناً أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله، وقضائه وقدره، فإن الأمر له وحده، لذلك استعن على الصبر باعتقادك أن هذا الشيء ساقه الله إليك رحمة منه، وعدلاً: ((لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)). ((فلاَ تَقُلْ: لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ فإنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ))
أحياناً تأني مصيبة يضجر وقد يشتم وقد وقد وقد، لكن بعد ذلك يصبر، ليس هذا هو الصبر، إنما الصبر عند الصدمة الأولى، الصبر عند تلقي الخبر أول مرة، الحمد لله، مرّ النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، هي لا تعرفه، قالت له إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، لكنها بعد أن عرفت أنه النبي عليه الصلاة والسلام، قال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى . لذلك من أروع ما قاله سيدنا عمر، كان إذا أصابته مصيبة، قال: الحمد لله ثلاث مرات، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها . لذلك قال الإمام علي رضي الله عنه: الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له )) وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ))
لذلك الصبر من صفات المؤمن، المؤمن صابر شاكر، في الرخاء شكور، وفي البلاء صبور، هذه حالة مهمة جداً، لكن أنت حينما تصبر ابتغاءً لمرضاة الله يلقي الله في قلبك حلاوة لا تقل عن الذي فاتك مما لو لم تكن صابراً. الله عز وجل على كل شيء قدير، قادر أن يسعدك وأنت في أصعب الحالات، وقادر وأنت في أقوى درجة في الدنيا أن تكون أشقى الناس. إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال، للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين.
الصبر على ماذا؟ العلماء أجمعوا على أن الصبر ثلاثة أنواع، صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على المصيبة، قد تكون صلاة الفجر في أيام الصيف، الساعة الثالثة، وأنت متأخر حتى نمت، والنهوض من الفراش صعب جداً، لكنك آثرت طاعة الله، فقمت إلى الصلاة، هذا صبر على الطاعة، وأحياناً تمر فتاة بارعة الجمال، وأنت شاب في مقتبل حياتك، ولك أن تنظر إليها ولا أحد على وجه الأرض يحاسبك، لكنك خوفاً من الله غضضت بصرك عن محارم الله، وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، هذا صبر عن المعصية، وأحياناً يسوق الله للإنسان مرضاً، فيصبر عليه، صبر على البلاء، فللصبر ثلاثة أنواع، صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قضاء الله وقدره.