بحث

المساواة في الإسلام واقع ملموس

المساواة في الإسلام واقع ملموس

بسم الله الرحمن الرحيم

     ومن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة؛ مبدأ المساواة الإنسانية، فقد قرره الإسلام ونادى به، وهو ينطلق من أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان، لا من أي حيثية أخرى، قال تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى... )). ولم يكتف الإسلام أن يقرر مبدأ المساواة نظرياً بل أكده عملياً بجملة أحكام وتعاليم، نقلته من فكرة مجردة إلى واقع ملموس؛ من ذلك العبادات الشعائرية التي فرضها الإسلام، وجعلها الأركان العملية التي يقوم عليها بناؤه العظيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج. 

 

المساواة في توحيد الصفوف

     وفي مساجد الإسلام حيث تقام صلاة الجمعة والجماعة تأخذ المساواة صورتها العملية، وتزول كل الفوارق التي تميِّز بين الناس، فمَن دخَلَ المسجدَ أَوَّلاً أخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان أقلَّ الناس مالاً، وأضعفَهم جاهاً، ومَن تأخَّر حضورُه تأخّر مكانُه، مهما يكن مركزه، فكل الناس سواسية أمام الله؛ في قيامهم، وقعودهم، وركوعهم، وسجودهم، ربُّهم واحد، وكتابُهم واحد، وقبلتُهم واحدة، وحركاتُهم واحدة، وإمامهم واحد  

 

المساواة في مناسك الحج

     وفي مناسك الحج تتحقق المساواة بشكل أشد ظهوراً، وتتجسد تجسداً تراه العين فشعيرة الإحرام تفرض على الحجاج والمعتمرين أن يتجرَّدوا من ملابسهم العادية، ويلبسوا ثياباً بيضاء بسيطة، غير مخيطة، ولا محيطة، أشبه ما تكون بأكفان الموتى، يستوي فيها القادر والعاجز، والغني والفقير، والملك والمملوك، ثم ينطلق الجميع ملبين بهتاف واحد: لبيك اللهم لبيك،

  

المساواة أمام قانون الإسلام وأحكام الشرع 

     ومن المساواة العملية التي قررها الإسلام قولاً وطبقها فعلاً المساواة أمام قانون الإسلام وأحكام الشرع. الحرام في شريعة الإسلام يَتَّسِم بالشمول والاطِّراد، فليس هناك شيء حرام على الأعجمي، حلال على العربي، وليس هناك شيء محظور على الملون، مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص، ممنوح لفئة من الناس، تقترف باسمه ما طوع لها الهوى، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له، كلا إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة. السرقة مثلاً حرام، سواء أكان السارق ينتمي إلى المسلمين، أمْ لاَ ينتمي، وسواء أكان المسروق ينتمي إلى المسلمين، أم لا ينتمي، والجزاء لازم للسارق، أياً كان نسبه أو مركزه. وكان عمر رضي الله عنه، إذا أراد إنفاذ أمر، جمع أهله وخاصته، وقال لهم: " إني أمرت الناس بكذا ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ الله لا أوتَيَنَّ بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه، إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني " فصارت القرابة من عمر مصيبة.  

     وفي خلافته رضي الله عنه وأرضاه، جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة يعلن إسلامه، فرَحَّب به عمر أشد الترحيب، وفي أثناء طواف هذا الملك حول الكعبة داس بدوي طرف إزار الملك الغساني، فيغضب الملك ويلتفت إلى هذا البدوي فيضربه ويهشم أنفه، فما كان من هذا البدوي من فزاره إلا أن توجه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شاكياً، فيستدعي عمر رضي الله عنه الملك الغساني إلى مجلسه ويجري بينهما حوار صيغ على الشكل التالي:  " قال عمر: جاءني هذا الصباح، مشهد يبعث في النفس المرارة، بدويٌّ من فزارة، بدماء تتظلَّم بجراح تتكلَّم، مقلة غارت وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادِحَ الوزر عليك بيديك، أصحيح ما ادَّعى هذا الفزاري الجريح؟ قال جبلة: لست ممن ينكر، أو يكتم شيئاً، أنا أدَّبتُ الفتى، أدركتُ حقي بيدي، قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم؟ عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم؟ عند غيري جبهة بالإثم والباطل تُلطَم، نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية، قد دفناها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، أرض الفتى، لابد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك، قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟! هو سوقة وأنا صاحب تاج! كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً؟! كان وهماً ما مشى في خلدي، أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني قال عمر: عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف عندك أقوى وأعز، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ".  أما جبلة فلم يستوعب هذا المعنى الكبير في الإسلام، وفَرَّ من المدينة هارباً مرتداً ولم يبالِ عمر ولا الصحابة معه بهذه النتيجة، لأن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه، وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ.



المصدر: موضوعات إسلامية - مقالات في صحيفة دانماركية : 06 - إنسانية الإسلام