بحث

الوسطية من أبرز خصائص الإسلام

الوسطية من أبرز خصائص الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

     من خصائص هذا الدين الحنيف أنه رباني المنهج، رباني الغاية، رباني الوجهة، وأن هذا الدين الحنيف إنسـاني الطابع، يشمل كل مكان وكل زمان، ويصلح لكل مكان وكل زمان، وأن هذا الدين الحنيف واقعـي، بمعنى أنه لا يقبل الواقع السيئ، لكنه يطوره بأدوات واقعية، وأنه يجمع بشكل معجز بين الثبات والتطور، ومن أبرز خصائص هذا الدين الحنيف الوسطية أو التوازن. فالإسلام وسط بين المادية المقيتة والروحية الحالمة، بين الواقعية المرة والمثالية التخيلية، بين الفردية الطاغية والجماعية الساحقة، بين الثبات الرتيب والتغير المضطرب، بين العقلانية الباردة والعاطفية المتقدة، بين نوازع الجسد ومتطلبات الروح. والوسطية في الإسلام تنطلق من قوله تعالى:  

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ 

     من حكمة الله تعالى أنه اختار الوسطية أو التوازن شعاراً مميزاً لهذه الأمة،  مظاهر الوسطية في الإسلام: 

1. الوسطية في العقيدة: 

     الإسلام وسط بين اعتقاد الخرافيين واعتقاد الماديين: في العقيدة الإسلام وسط بين اعتقاد الخرافيين الذين يصدقون كل شيء، وبين الماديين الذين ينكرون كل شيء وراء الحس، فالإسلام الحق يدعو إلى الإيمان، والاعتقاد بما قام عليه الدليل القطعي، والبرهان اليقيني، ويعد اليقين الحسي، واليقين الاستدلالي، واليقين الإخباري مسالك يقينية للتلقي، ويرفض كل ما وراء ذلك من الأوهام، قال تعالى:  ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ 

     الإسلام وسط بين الذين يعدون الكون هو الوجود الحق وبين الذين يعدونه وهماً: فالإسلام يعد الكون حقيقة، ولكنه يعبر من هذه الحقيقة إلى حقيقة أكبر منها، يعبر من الكون إلى المكون، ومن الخلق إلى الخالق، ومن النظام إلى المنظم، فالكون حقيقة ينقلنا إلى حقيقة أكبر، وهي أن لهذا الكون خالقاً، ومربياً، ومسيراً، موجوداً، وواحداً، وكاملاً. 

     الإسلام وسط في نظرته إلى الأنبيـاء: فهم بشر مثلنا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ولكنهم قمم في معرفة ربهم، وطاعتهم له، وإخلاصهم إليه، اصطفاهم، وطهرهم، وعصمهم، وامتن عليهم بالوحي، وأيدهم بالمعجزات. 

 

2. الوسطية في منهج التلقي: 

     الإسلام وسط بين الذين يؤمنون بالعقل وحده أداة لمعرفة حقائق الوجود، وبين الذين لا يؤمنون إلا عن طريق الإلهام، أو الأوهام، ولا يعترفون للعقل بدور في نفي أو إثبات، إن الإسلام يقرر أن الدين في الأصل وحي ونقل، وبما أن أخطر ما في النقل صحته فللعقل مهمتان حيال النقل، مهمة إثبات صحة النقل، ومهمة فهم النقل تمهيداً لتطبيقه، فبالعقل تصل إلى الإيمان بالله يقيناً، وبالعقل تؤمن بكتابه يقيناً عن طريق إعجازه، وبالعقل تؤمن برسوله يقيناً عن طريق الكتاب، وهنا ينتهي دور العقل في البحث ليبدأ دوره في التلقي إثباتاً وفهماً، فالحقائق التي عجز العقل عن إدراكها لافتقارها إلى آثار تدل عليها يتلقاها العقل عن الوحي دون أن يكون حكماً عليها. 

 

3. الوسطية في العبادات: 

     فالعبادات الشعائرية في الإسلام محدودة ومعقولة ومعللة بمصالح الخلق، وهي فضلاً عن هذا فهي مرتبطة بالعبادات التعاملية فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا يعد مصلياً، ومن لم يدع قول الزور والعمل به لا يعد صائماً، والإنفاق مع الفسق غير متقبل لقوله تعالى:  ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾  فالإسلام عبادة وعمل، عبادة متقبلة أساسها عمل صالح، وعمل صالح ينطلق من عبادة صحيحة. 

 

4. الوسطية في المعاملات:  

     الإسلام وسط بين أن تدير خدك الأيسر لمن ضربك على خدك الأيمن، وبين أن تكيل له الصاع عشرة أصوع، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾  على المسيء أن يدفع ثمن إساءته ملزماً، وأن لصاحب الحق أن يعفو عنه مختاراً، فالعدل قسري، والعفو والإحسان طوعي. 

 

5. الوسطية في نظرته إلى الإنسان :   

     الإسلام وسط بين غلاة المثاليين الذين تصوروا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك ليس غير، فرسموا له مستوى لم يستطع أن يصل إليه، وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوا أن الإنسان حيوان أو كالحيوان يعيش لشهوة، ولكن الإسلام ينطلق من أن الإنسان ركب من عقل وشهوة، فإن قاده عقله إلى معرفة ربه، وضبط شهوته وفق منهج خالقه سما وسما حتى تجاوز في سموه الملائكة المقربين، وإن عطل عقله، أو أساء استخدامه فنسي سرّ وجوده، وجهل منهج ربه، وتحكمت به شهواته ونزواته سقط حتى صار أدنى من الحيوان. 

 

6. الوسطية في نظرته إلى الحياة :   

     فهو بين الذين عدّوا الحياة الدنيا هي كل شيء، وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين، فعبدوا شهواتهم ومصالحهم المادية، وبين الذين عدّوا وجودهم في الدنيا شراً فانسحبوا من الحياة، وحرموا أنفسهم من زينتها المشروعة، لقد عدّ الإسلام الحياتين الدنيا والآخرة متكاملتين، فالأولى مطية للثانية، وقد ورد في الحديث الشريف:  ((ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً))  وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لربِّكَ عليك حقًا، وإنَّ لِنَفسكَ عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ)) فالنب ي صلى الله عليه وسلم يحرص على الوسطية والتوازن بين الدنيا والآخرة، وكان يتمثل الدعاء القرآني: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ 

 

7. الوسطية بين الروحية والمادية :   

     الإسلام يحقق توازناً بين الروحية والمادية، وهو وسط بينهما، بين الدين والدنيا، بين القيم والحاجات، بين الغريزة والعقل، بين الشهوة وبين المبدأ، الإنسان كما أراده الله عز وجل ليس الذي ينقطع عن العالم، وينسحب من الحياة، ويتفرغ للعبادة، ويتبتل فلا يعمل، ويتقشف فلا يتمتع، ويتبتل فلا يتزوج، ويتعبد فلا يفتر، ليله قائم، ونهاره صائم، يده من الدنيا صفر، وحظه من الحياة خبز الشعير، ولبس المرقع، ليس هذا هو الإنسان الذي أراده الله، كما أنه ليس كصاحب الجنتين يفخر على صاحبه منتفخاً بثروته، مختالاً بجنته قائلاً: أنا أكثر منك مالاً، وأعز نفراً، قال تعالى:  ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾.  الإنسان في نظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة، يقوم كيانه على قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، قال تعالى:  ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾  الإنسان بعنصره الطيني المادي قادر على أن يسعى في الأرض، وعلى أن يعمرها، وعلى أن يسخر قواها لمنفعته، وهو بعنصره الروحي مهيأ للتحليق في أفق أعلى، والتطلع إلى عالم أرقى، والسعي إلى حياة هي خير وأبقى، وبهذا يسخر المسلم المادة، ولا تسخره، ودون أن تستعبده، وهذا ما يؤكده البيان الإلهي: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ 

 

8. الوسطية في حرية الفرد والحقوق والواجبات ومصلحة الجماعة:

     فبالإسلام تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة، تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم، إن المشرع في الإسلام هو خالق الإنسان، فمن المستحيل أن يشرع الخالق الحكيم من الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان، أو يصادمها، وقد خلق الله الإنسان على طبيعة مزدوجة فردية واجتماعية في آن واحد، فالفردية جزء أصيل في كيان الإنسان، ومع ذلك نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره، لذلك تضطرب نفسه، ويختل توازنه لو عزل نفسه عن المجتمع، والنظام الأكمل لهذا الإنسان هو الذي يرعى فيه هذين الجانبين الفردية والجماعية، فلا يطغى أحدهما على الآخر، لذلك فلا عجب أن يكون الإسلام، وهو دين الفطرة نظاماً وسطاً عدلاً، فلا يجور على الفرد لحساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد، ولا يدلل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له، ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه، وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وسعه من دون حرج. والإسلام بوسطيته يقرر للإنسان من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبي حاجاته، ويحفظ له كرامته، ويصون له إنسانيته، لهذا ومراعاة للجانب الفردي في الإنسان: 

  • قرر الإسلام حرمة الدم: فحفظ للفرد حق الحياة، وأعلن القرآن أنه:  ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾  لذلك أوجبت الشريعة القصاص في القتل، وأكدت أن في القصاص حياةً للفرد والمجتمع.  
  • قرر الإسلام حرية الاعتقاد: فلا يجوز أن يكره الإنسان على ترك دينه، واعتناق دين آخر، قال تعالى:  ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ 
  • قرر الإسلام حرمة العرض، أي سمعة الإنسان: فصان للفرد حق الكرامة فلا يجوز أن يهان في حضرته، ولا أن يؤذى في غيبته، قال تعالى:  ﴿لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ 
  • أكد الإسلام حرمة المال: فصان للفرد حق التملك، فلا يجوز أخذ ماله إلا بطيب نفس منه، قال تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ 
  • أكد الإسلام حرمة البيت: فصان بذلك للفرد حق الاستقلال الشخصي، فلا يجوز لأحد أن يقتحم عليه بيته بغير إذنه، قال تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ 
  • أكد الإسلام حرية النقد البناء المخلص، قال تعلى:  ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ 
  • أكد الإسلام المسؤولية الفردية التي هي ثمرة التكليف، وحرية الكسب، وحتمية الجزاء، قال تعالى:  ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ 

     ثم إن الإسلام مراعاة للجانب الاجتماعي للإنسان، فقد فرض عليه للمجتمع واجبات تكافئ حقوقه عليه، وقيد هذه الحقوق والحريات والفردية بأن تكون في حدود مصلحة الجماعة، وألاّ يكون فيها مضرة للغير، وليس للفرد في مجتمع المسلمين أن يستخدم حقه فيما يؤذي الجماعة، ويضرها، كما أن حق الفرد إذا تعارض مع حقوق الجماعة، فإن حق الجماعة أولى بالتقديم. 



المصدر: الخطب الإذاعية - الخطبة : 31 - الوسطية في الإسلام - الوسطية في الآفاق و الأنفس.