بحث

الربا أضراره وعقوبته

الربا أضراره وعقوبته

بسم الله الرحمن الرحيم

      المال هو القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان :

      الإنسان في بدايته سَلَكَ إلى تأمين حاجاته مبدأ المُقايضة، يُعطي قمحاً ويأخذ لحماً، ولكن مبدأ المُقايضة لا يصلح، ولا يمكن أن يستمر عليه الإنسان، فلابد من قيمةٍ مطلقةٍ وسيطةٍ بين حاجات الإنسان، كان المال هذه القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان. أي أنا أعالج مريضاً أتقاضى شيئاً، أُعلِّم طالباً أتقاضى شيئاً، أريد أن أشتري ثوباً أدفع شيئاً، فهذا الشيء الذي يُعبِّر عن جهدي وعن جهد الآخرين هذه القيمة المطلقة هي المال، سواء أكان مالاً ذهبياً، أم فضياً، أم إيصالاً لتغطيةٍ مُوْدَعةٍ عند مُصْدِر هذا الإيصال؛ العملة الورقية، هذا المال الذي بين أيدينا تعبيرٌ عن جُهدٍ بشري، فمَن بذل جهداً كبيراً ينبغي أن يتقاضى مالاً كثيراً، ومَن بذل جهداً قليلاً ينبغي أن يتقاضى مالاً قليلاً، ومَن أراد أن يشتري حاجةً ثمينةً ينبغي أن يدفع مالاً كثيراً يُعبُّر عن جهدٍ كبير بذله. إذا هذا الورق الذي بين أيدينا هو المال، قيمة الجُهد البشري، رمز الجهد البشري، وهو مَرِن.  

      حبّ المال رُكِّبَ في أصل الإنسان:  

     رُكِّبَ في أصل الإنسان، في أصل جِبِلَّة الإنسان حُبّ المرأة وحبّ المال، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ﴾، المال كما قال بعضهم مادة الشهوات، لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون مال، لا تستطيع أن تشتري طعاماً تأكله من دون مال، لا تستطيع أن تسكن في بيتٍ مريح من دون مال، لا تستطيع أن تركب مركبةً تنقلك إلى أهدافك من دون مال، لا تستطيع أن تُهيمِن على الناس من دون مال، فالمال له دورٌ خطير في حياة الإنسان، بل إن الله جعله قِوام الحياة.  

      طرق كسب المال:   

     إما أن تَلِد الأعمال المال، إذا وَلَدَت الأعمال المال هذا الذي أراده الله عزَّ وجل، وهذا الذي شَرَّعه، وهذا الذي يجعل المال دُولةً بين الناس جميعاً، أنت إن فتحت محلاً تجارياً، تحتاج إلى موظف يُعينك على فتح المحل صباحاً ويبقى فيه طوال الوقت، هذا الموظف لابد له من مرتَّب، هذا المُرَتَّب يتقاضاه من هذه الشركة، أنت بحاجة إلى محاسب، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى دفاتر فواتير، بحاجة إلى صاحب مطبعة، دون أن تشعر تُوَظّف عشرات بل مئات الجهات كوظيفة ليست ثابتة، أما حينما تشتري حاجة للمحل، حينما تستأجر مستودعاً تحتاج إلى مَن يُقيم في المستودع، تحتاج إلى مَن يُنظِّم لك هذا المستودع، فالأعمال إذا وَلَدت المال، هذه الكتلة النقدية التي بأيدي صاحب هذا المشروع لابد من أن تتوزَّع بين أُناسٍ كثيرين، وكل الشركات المصاريف قد تصل إلى الثلث أحياناً، أي ثلث رأس المال وزِّع بين الناس. فالله عزَّ وجل حينما شرَّع لنا هذا الشرع العظيم أراد من هذا المال أن يكون متداولاً بين جميع الخَلْق، الوضع الصحي، الوضع الرحيم الحكيم أن يكون المالُ مُتَداولاً بين جميع الخلق، أما الوضع المَرَضيّ أن يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط، قال تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.       

      وإما أن يَلِد المالُ المال(الربا):متى يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط؟ حينما يلدُ المال المال، أي أنت وأنتَ في البيت مرتاحاً لا تستأجر محلاً، ولا تتحمل مسؤولية، ولا تدفع ضريبة، ولا تستخدم أناساً، ولا تُشَغِّل -إن صح التعبير-أصحاب مِهَن وحِرَف، أنت حينما تضع هذا المال في مؤسسة ربوية وتتقاضى عليه أرباحاً، وأنت في البيت مرتاحاً لا تقدم للأمة شيئاً، بل تأخذ مالاً من مالِك.   

      الفرق بين البيع والربا :

      هناك بونٌ شاسع، الزيادة في الربا لا يُقابلها عِوض، أما الزيادة في البيع يقابلها عوض، العِوض الجهد، إنسان اشترى بـضاعة، وتحمَّل قرار المغامرة، وحملها وصنفها وعرضها، هذا جهد كبير، وقدّم لك هذه الخدمة حتى صارت إلى جانب بيتك، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي قصدهم إنما الربا مثل البيع، فالتفاضل في البيع تفاضل يقابله جهد، أما التفاضل في الربا فلا يقابله جهد، التفاضل في البيع تُوَزَّع فيه الأموال إلى عددٍ كبيرِ من الناس، أما التفاضل في الربا ليس كذلك،الربا فهناك إنسان مُستغِل وإنسان مُستغَل. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ البيع فيه عِوَض، أي هذا الكأس بعشر ليرات، تعطيه الكأس ويعطيك الثمن، عقد مُعاوضة، أما الزيادة في الربا ليس لها عِوَض إلا الزمن، أي صار للزمن ثمن، حينما يُخَصص للزمن ثمن دخلنا في موضوع الربا. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ أصل حِلِّ البيع هو المعاوضة، وأصل زيادة الثمن في البيع مقابل الجُهد، أي أنت تسكن في البيت إلى جانبك بائع جاء بالبضاعة من مكانٍ بعيد، وحملها، واعتنى بها، ونظَّفها، وعرضها عليك، مقابل هـذا الجهد أعطيته الزيادة في البيع، لأن الزيادة فـي البيع مشروعة مقابل جُهد البائع، أما في القرض فغير مشروعة، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هناك نقطة دقيقة جداً: المال ما يُنْتَفع منه مباشرةً، فالبيت مالٌ لأنه يسكن، والمركبة مالٌ لأنها تُرْكب، والطعام مالٌ لأنه يُؤكَل، والشراب مالٌ لأنه يُشرب، أما النقد لا يُنتفع به مباشرةً، فحينما تُتاجر بالنقد وقعت في الحرام، طبعاً إذا كان النقد من عملة إلى عملة له موضوع آخر، وله شروط دقيقة جداً، أما أن تجعل المال يَلِد المال هذا كسبٌ غير مشروع ،  فهذه العملية من شأنها أن تُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة، وأن تُحرَم منها الكثرة الكثيرة، عندئذٍ يكون التفاوت الطبقي الذي هو وراء ثورات العالم. لهذا المعصية تتعاظم كلما اتسعت رقعة مضارِّها، فالذي يشرب الخمرة مثلاً يؤذي نفسه، أما الذي يزني يؤذي نفسه ويؤذي امرأةً معه، أما الذي يُرابي يؤذي مجتمعاً بأكمله، لأن المال قِوام الحياة، فإذا ملكته أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة صار هناك اختلال، صار خلل خطير في الحياة. المرابي أخذ ولم يعطِ، ما فعل شيئاً، لو معه ألف مليون هو عالة على المجتمع، النجَّار قدَّم باباً، المُدرّس علَّم طالباً، الطبيب عالج مريضاً، المحامي أخذ حقاً، التاجر قدَّم سلعةً إلى مكانٍ مناسب ورَبِح ربحاً مناسباً، المُزارع قدَّم محصولاً. ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ نحن في الحياة الدنيا ينبغي أن نعمل، من جهة أننا بهذا العمل تُكشف خصائصنا والكمالات التي أودعها الله فينا، أو تُكشف نقائصنا والانحرافات التي كسبناها بأيدينا، فالإنسان من دون عمل لا يُكشف. الإنسان يُكتشف من خلال عمله؛ يصدق أو يكذب، يستقيم أو ينحرف، يكون واضحاً أو غامضاً، يغشُّ الناس أو ينصحهم من خلال عمله، إذاً الحياة الدنيا ابتلاء، أي إظهار ما تنطوي عليه النفس.  وأيضا من الأضرار الناتجة عندما يلد المال المال (الربا) رفع الأسعار و تضيق شريحة المستهلكين ويسهم في البطالة ويُعطل حركة المال. 

      عقوبة المرابي:  

     لأن الربا يمسُّ أخطر ما في حياة الإنسان وهو المال، وهو قوام الحياة، لذلك ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ ، من معاني  ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾   أن هذا المال الذي جمعته بالحرام يُتلفه الله؛ بمصادرةٍ، بحريقٍ، بمشكلةٍ، بمرضٍ عُضال تنفقه، فالله عزَّ وجل يمحق المال الحرام بطرق كثيرة، إما أن يُتلَف المال نفسه، أو أن يُنفق على صحة الإنسان، أو أن يُدفَع جزاء خطأ غير مقصود، أو أن يشقى الإنسان به، أو أن يُسرق منه، أو أن يكون هذا المال نَكَداً عليه، تألَّب عليه أولاده وتطاولوا عليه طمعاً بهذا المال، أي يصبح هذا المال الحرام مصدر شقاءٍ لهذا الإنسان، هذا معنى ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ وليس المحق سريعاً قد يأتي متأخراً، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أما الصدقة تُربي المال، وتملأ نفس المتصدق بالسكينة، والإقبال، والطمأنينة، والقوة، والانشراح، يوجد أثر نفسي، ويوجد أثر مادي، بعد حين يعوّض الله عزَّ وجل على المتصدق أضعافاً مضاعفة.   



المصدر: الدرس : 89 - سورة البقرة - تفسير الآيتين 275 - 276 الربا وأضراره