المال هو القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان :
قول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، الإنسان في بدايته سَلَكَ إلى تأمين حاجاته مبدأ المُقايضة، يعطي قمحاً ويأخذ لحماً، ولكن مبدأ المُقايضة لا يصلح، ولا يمكن أن يستمر عليه الإنسان، فلا بد من قيمةٍ مطلقةٍ وسيطةٍ بين حاجات الإنسان، كان المال هذه القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان.
مثلاً أنا أعالج مريضاً فأتقاضى مالاً، أعلِّم طالباً فأتقاضى أجراً، أريد أن أشتري ثوباً أدفع ثمناً، فهذا الشيء الذي يعبِّر عن جهدي وعن جهد الآخرين هذه القيمة المطلقة هي المال، سواءٌ أكان مالاً ذهبياً، أو فضياً، أم إيصالاً لتغطيةٍ مودعةٍ عند مُصْدِر هذا الإيصال؛ (العملة الورقية)،
إذاً هذا المال الذي بين أيدينا تعبيرٌ عن جهدٍ بشري، فمَن بذل جهداً كبيراً ينبغي أن يتقاضى مالاً كثيراً، ومَن بذل جهداً قليلاً ينبغي أن يتقاضى مالاً قليلاً، ومَن أراد أن يشتري حاجةً ثمينةً ينبغي أن يدفع مالاً كثيراً يعبُّر عن جهدٍ كبير بذله.
المال هو قيمة الجُهد البشري :
هذا الورق الذي هو بين أيدينا هو المال، قيمة الجُهد البشري، رمز الجهد البشري،
قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
حب المال رُكِّب في أصل جبلَّة الإنسان
فالمال كما قال بعضهم مادة الشهوات، لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون مال، لا تستطيع أن تشتري طعاماً تأكله من دون مال، لا تستطيع أن تسكن في بيتٍ مريح من دون مال، لا تستطيع أن تركب مركبةً تنقلك إلى أهدافك من دون مال، لا تستطيع أن تُهيمِن على الناس من دون مال، فالمال له دورٌ خطير في حياة الإنسان، بل إن الله جعله قِوام الحياة.
حالياً مثلاً: إنسان له دخل فيشتري منزلاً صغيراً، يخطب فتاة، يتزوج، يؤسس أسرة، يصير له كيان، من أين بدأ هذا الكيان؟ من دخلٍ ثابت، استطاع أن يخطب من خلاله امرأةً، وأن يشتري منزلاً، وأن ينفق على نفسه وعليها، لأن للمال دوراً خطيراً في حياة الإنسان فلا بد من تنظيم علاقته به.
طرق كسب المال
أيها الأخوة الكرام، كلامٌ دقيق، هناك طريقتان لكسب المال :
أولا: كسب المال بأن تلد الأعمال المال:
إذا وَلَدَت الأعمال المال فهذا الذي أراده الله عزَّ وجل، وهذا الذي شَرَّعه، وهذا الذي يجعل المال دولةً بين الناس جميعاً، ما الذي يجعل المال دُولةً بين الناس جميعاً، أي متداولاً بين الناس جميعاً؟ حينما تلد الأعمال المال.
أنت إن فتحت محلاً تجارياً، تحتاج إلى موظف يعينك على فتح المحل صباحاً ويبقى فيه طول الوقت، هذا الموظف لا بد له من مرتَّب، هذا المُرَتَّب يتقاضاه من هذه الشركة، أنت بحاجة إلى محاسب، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى دفاتر فواتير، بحاجة إلى صاحب مطبعة، دون أن تشعر توظف عشرات، بل مئات الجهات كوظيفة ليست ثابتة، حينما تستأجر مستودعاً تحتاج إلى مَن يقيم في المستودع، تحتاج إلى مَن يُنظِّم لك هذا المستودع، فالأعمال إذا ولدت المال، هذه الكتلة النقدية التي بأيدي صاحب هذا المشروع لا بد من أن تتوزَّع بين أُناسٍ كثيرين، وكل الشركات لها مصاريف، والمصاريف قد تصل إلى الثُلث أحياناً، أي ثلث رأس المال وزِّع بين الناس.
فالله عزَّ وجل حينما شرَّع لنا هذا الشرع العظيم أراد من هذا المال أن يكون متداولاً بين جميع الخَلْق، والوضع الاجتماعي الصحي، الوضع الطيِّب المريح، العدل، الوضع الرحيم الحكيم أن يكون المالُ متداولاً بين جميع الخلق، أما الوضع المَرَضيّ أن يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط،
قال تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ﴾
ثانيا: كسب المال بأن يلد المالُ المال:
عندها يصبح المال متداولاً بين الأغنياء فقط أي أنك وأنت قابع في البيت مرتاحاً لا تستأجر محلاً، ولا تتحمل مسؤولية، ولا تدفع ضريبة، ولا تستخدم أناساً، ولا تُشَغِّل ـ إن صح التعبير ـ أصحاب مِهَن وحِرَف، أنت حينما تضع هذا المال في مؤسسة ربوية وتتقاضى عليه أرباحاً، وأنت قابع في البيت مرتاحاً لا تقدم للأمة شيئاً، بل تأخذ مالاً فائدة لمالِك، فهذه العملية من شأنها أن تُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة، وأن تحرم منها الكثرة الكثيرة عندئذٍ يكون التفاوت الطبقي الذي هو وراء كل ثورات العالم، واحد يملك مليوناً، ومليون لا يملكون واحداً، إنسان يقيم عقد قِران في فندق يكلفه خمسة وثمانين مليون، وخمسة وثمانون ألف شاب لا يجدون ليرةً واحدة يتزوَّجون بها.
تجّمع المال بيد أيدٍ قليلة وراء كل فساد :
حينما تلد الأموال المال تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الأيدي الكثيرة، وهذا التفاوت الكبير بين شخصٍ وشخص وراء كل الفسادٍ الأخلاقي والفساد الاجتماعي، بل وراء العُنف، بل وراء ما يسمى الآن بالإرهاب، إنسان يائس لا يستطيع أن يملك شيئاً، يريد أن يأكل فيسلك سبيل العنف والقتل.
لهذا، المعصية أيها الأخوة تتعاظم كلما اتسعت رقعة مضارِّها، فالذي يشرب الخمرة مثلاً يؤذي نفسه، أما الذي يزني يؤذي نفسه ويؤذي امرأةً معه، أما الذي يرابي يؤذي مجتمعاً بأكمله، لأن المال قِوام الحياة، فإذا ملكته أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة صار هناك اختلال، خلل خطير في الحياة.
لذلك الإنسان جاء في الحياة الدنيا من أجل عملٍ صالح، يأخذ ويعطي، ينفع وينتفع.
المرابي أخذ ولم يعطِ، ما فعل شيئاً، لو كان يملك ألف مليون هو عالة على المجتمع، النجَّار قدَّم باباً، المدرس علَّم طالباً، الطبيب عالج مريضاً، المحامي أخذ حقاً ضائعاً، التاجر قدَّم سلعةً إلى مكانٍ مناسب وربح ربحاً مناسباً، المُزارع قدَّم محصولاً، ما من إنسان عمل عملاً إلا وقدم شيئاً، ولو أنه ربح. هنا نقطة دقيقة جداً، إنسان استصلح أرضاً وزرعها تفاحاً مثلاً، هو يقصد الربح، ولكن ماذا فعل؟ لقد قدم كمية تفاح كبيرة في موسم التفاح فساهم في خفض أسعاره، وساهم بإطعام هؤلاء الجياع. التاجر استورد بضاعةً وباعها، والقصد هو الربح، لكن ماذا فعل؟ جعل بضاعةً أساسيةً بين أيدي الناس بسعرٍ معقول، إذاً كل إنسان يعمل عرف أو لم يعرف، شعر أو لم يشعر يقدم خدمةً للمجتمع.
لذلك سيدنا عمر كان يقول: " إني أرى الرجل ليس له عمل فيسقط من عيني ".
قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْ اعْمَلُوا ﴾
فنحن في الحياة الدنيا ينبغي أن نعمل، من جهة أننا بهذا العمل تكتشف خصائصنا والكمالات التي أودعها الله فينا، أو تكتشف نقائصنا والانحرافات التي كسبناها بأيدينا، فالإنسان من دون عمل لا يكتشف.
على كلٍّ أيها الأخوة، هذه الآيات ـ آيات الربا ـ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
أي أن تلد الأعمال المال بالبيع والشراء، هذا أقرَّه الله، أما أن يلد المال المَال فهو الربا..
﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
يا أيها الأخوة الكرام، هذا كلام الرحمن، هذا كلام خالق الأكوان، ولو أنك بالمنطق السطحي، وبالقوانين المستنبطة من حركة الحياة توهَّمت أن الربا يرفع دخل الإنسان، لكنه في الحقيقة تدميرٌ لهذا المال، فالدول التي لا تتعامل بالربا ميزانها التجاري رابحٌ جداً، دولة من دول المسلمين في شرق آسيا كادت تصل إلى نمو مذهل، وصلت إلى ستين مليار فائض، طبعاً هناك مَن علَّق تعليقاً لطيفاً أن نموه بسبب بُعْد هذا الاقتصاد عن الأسلوب الربوي، وليس البعد بعداً كلياً لكنّه بعدٌ جيّد جداً، فكلما ابتعدنا عن نظام الربا نمت أموالنا، وصحت أجسامنا، ونمت العلاقات الاجتماعية بيننا سليمة.
أضرار الربا :
كل شيء موجود والمال قليل، المال بأيدٍ قليلة جداً، الغني الكبير يمكن أن يشتري كل شيء، ولا يعنيه شيء، أما الفقير فمعه مبلغٌ قليل، هذا كيف يكفيه طوال الشهر؟ هنا المشكلة، إذاً المعصية التي تقع على شخصٍ واحد ضررها محصورٌ بواحد، أما التي تقع على شخصين ضررها محصورٌ باثنين، أما المعصية التي تسبب إرباك مجتمعٍ بأكمله، تضعف القوة الشرائية للمال، وحينما يكون دخل الإنسان أقل من حاجاته بكثير تنشأ أمراض، تنشأ دور بغاء، لأن طرق الزواج مغلقة، تنشأ جرائم؛ سرقات، ونهب، واحتيال، فهذه الجرائم كسرقة المال والزنا تتفاقم في المجتمعات الفقيرة.
أولا: أول أضرار الربا أنه يرفع الأسعار :
كيف؟ الفكرة أن إنساناً معه مئة مليون، أراد أن يضعها في عملٍ تجاريٍ، أو صناعيٍ، أو زراعي، لكنه رأى أنّ هناك مؤسسات ربوية يمكن أن تعطيه أرباحاً جيدةً دون أن يعمل فيكسل، فمتى يغامر ويوظِّفها في مشروعٍ زراعيٍ، أو صناعيٍ، أو تجاري؟ إذا كان عائد الربح أربعين أو خمسين بالمئة فعندئذ يخوض غمار العمل في تلك المشاريع، لكن إذا كان هناك مؤسسات تعطي ربحاً من دون عمل فرأس المال لا يغامر بمنطق الحياة إلا إذا كان الربح كبيراً جداً، إذاً بوجود مؤسسة تعطي ربحاً بلا عمل فالأموال لا توظف في أعمال استراتيجية إلا بربح عالٍ، فتفشي الربا يرفع الأسعار، وهذه أول أضراره.
ثانيا: إذا ارتفعت الأسعار ضاقت شريحة المستهلكين :
أما الضرر الثاني فهو إذا ارتفعت الأسعار ضاقت الشريحة، فإذا ضاقت الشريحة قلَّ الربح عند الباعة، فترتفع الأسعار ثانيةً، إنسان يحتاج في اليوم لألف ليرة فرضاً، إذا كان سيربح باليوم مئة ليرة لا تكفيه، فلا بد من رفع أسعاره، فإذا ارتفعت ضاقت الشريحة، فصرنا في حلقةٍ مفرغةٍ، فكل شيءٍ موجود وأسعار هذه الأشياء فوق طاقة المستهلكين، قضية خطيرة جداً، إذاً الربا يسهم في رفع الأسعار عن طريق أن رأس المال لا يغامر إلا بربحٍ كبير جداً، ولأن وجود مَن يدفع لك ربحاً دون أن تعمل، هذا يحد من المغامرة في مشاريع اقتصادية إلا إذا صار مقدار الأرباح عالياً جداً لدى المشاريع الاقتصادية.
ثالثا: الربا يسهم في البطالة :
الضرر الثالث الربا يسهم في البطالة، لأن أي إنسان يريد أن يعمل مشروعاً يحتاج إلى طاقة بشرية، الآن المشكلة الأولى في العالم مشكلة البطالة، في بعض البلاد كل أربعة أشخاص واحد يعمل وثلاثة بلا عمل، فحينما يحلُّ كسب المال عن طريق المال نفسه محل كسب المال عن طريق الأعمال، ترتفع الأسعار وتفشو البطالة.
رابعا: الربا يسهم في ضعف الأمة :
حالياً هناك ما يسمى بحروب اقتصادية غير معلنة، منها حرب قطع الغيار، عندك مركبة شراء قطع التبديل التابعة لها ـ هذا اسمه عقد إذعان وليس عقد تراضٍ ـ مركبة ثمنها مليونان، احتجت إلى قطعة تبديلية لها وقال لك البائع: بخمسين ألفاً، فلو رفضت تتوقف هذه المركبة، فماذا يفعل معنا اقتصاديو العالم؟ يبيعونك شيئاً أساسياً، وأنت محتاجٌ لهم كل وقت لقطع الغيار، فحينما لا نكتفي بطعامنا، وشرابنا، وثيابنا، وحاجاتنا، وآلاتنا، نكون أفقر الشعوب، فكل إنسان يُثَمِّر ماله في البنوك ولا ينشئ بهذا المال المشاريع الاقتصادية، فهذا يسهم في إضعاف أمَّته ويسهم في تأخُّرها وتخلُّفها بل وانهيارها.
أحياناً تحتاج أمة إلى صناعة معينة، إلى أدوات معينة، قد تدفع ثمنها عشرة أضعاف ثمنها الحقيقي بعقد إذعان، ولو أن الأموال الموجودة في البلاد توجَّهت إلى التوظيف في أعمال أساسية لاستغنينا عن استيراد هذه البضائع، فأولاً يسهم الربا في رفع الأسعار، ورفع الأسعار يسهم في خلق مشكلات اجتماعية كبيرة جداً، والربا يسهم في البطالة، والبطالة لها مضاعفات خطيرة جداً، ثم إن الربا يسهم في ضعف الأمة، لأنه ليس في البلاد إنتاج، بل هناك استهلاك فقط من دون إنتاج.
خامسا: الربا يُعطل حركة المال :
لذلك فإن الربا يمسُّ أخطر ما في حياة الإنسان وهو تعطيل حركة المال، وهو قوام الحياة، لذلك ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
لذلك: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
الربا بالقوانين الحسابية هو الذي يُرْبِح، أنت أقرضت مئة ألف رجعت لك مئة وعشرين بالآلة الحاسبة المال نما، واسم الربا من النمو، ربا الشيء علا، فأنت في الأصل حينما توظِّف المال في مؤسسة ربوية فالمال يزداد، وحينما تُقْرِض قرضاً حسناً المال ينْقص، عاد المال مع فرق التضخُّم، فإذا أقرضت مئة ألف سوف تعود لك بعد عام خمسةٌ وثمانين ألفاً بحسب قيمتها الشرائية، إذاً بحسب الحسابات والآلات الحاسبة الربا يزداد، الربا يزيد المال، والصدقة الخالصة تنفقه، لكن آيات القرآن الكريم تكذبه و تُعكسه، فهل نصدق الآلة الحاسبة أم القرآن الكريم؟ والآن بدأت تظهر المشاكل للربا على المستوى العالمي.
قال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
فالله عزَّ وجل له قوانين واضحة، وله قوانين ليست واضحة، أنت ضع مئة فوق مئة صار المبلغ مئتين، مئة ثالثة صار المبلغ ثلاثمئة، مئة رابعة أربعمئة، قوانين واضحة، عملية جمع، أقرضت مئة ألف رجعت مئة وعشرين، أقرضت المئة و العشرين رجعت مئة وخمسين، أقرضت مئة وخمسين رجعت مئتين، خلال سنة صارت المئة مئتين، أما القوانين غير الواضحة؛ قوانين العناية الإلهية، أو قوانين التأديب الإلهي.
سادسا: الذي يأكل الربا يبني مجده على أنقاض الناس :
الآن إلى تفاصيل هذه الآيات . يقول الله جلَّ جلاله:﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾
(يأكلون) أي يكسبون، وفي هذا إشارة إلى أن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب حاجةٌ متميِّزة، بل هي حاجةٌ أولى، فإذا كسب المال الحرام فهذا من أجـل أن يأكل، وقد ذكر الله جـل جلاله أن الأنبياء: ﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ﴾
في هذا إشارةٌ دقيقة إلـى أن النبي بشر تقوم حياته على تناول الطعام، إذاً هو مفتقرٌ في وجوده وفي استمرار وجوده إلى تناول الطعام والشراب، ثم إنه مفتقرٌ مرةً ثانية إلى ثمن الطعام، ولا بد من أن يمشي في الأسواق كي يحصِّل ثمن الطعام، هذا هو البشر، مفتقرٌ مرتين مرةً إلى الطعام ثم إلى ثمنه، لا بد من أن يأكل ويشرب، ولا بد من أن يعمل، ونحن مقهورون بالعمل؛ نعمل من أجل أن نأكل، ثم نعمل من أجل أن نتزوج، ثم نعمل من أجل أن نؤكِّد ذاتنا. فهذا الذي يأكل الربا بنى مجده على أنقاض الناس، وبنى غناه على فقرهم، وبنى عِزَّه على ذلهم، ويوم القيامة يوم العدل، يوم الحق، يوم الدينونة، يوم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون، فحينئذٍ تكشف الحقائق: ﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
سابعا: الذين يأكلون الربا يأكلون ما ليس لهم بحقٍ أن يأكلوه :
الناس في الدنيا نيام إذا ماتوا انتبهوا، حينما تزاح عنه الشهوات، وقد قال الله عزَّ وجل: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾
لا شـهوة طعامٍ، ولا شهوة جنسٍ، ولا شهوة علوٍ في الأرض، واجه الحقيقة، كُشِف عنه الغطاء فإذا هو قد أشقى الناس من أجل أن يغتني، هو أكل ولا عليه أن يجوعوا، ونمت أمواله واغتنى ولا يضره أن يكونوا بؤساء فقراء.
والإنسان كما ذكرت لكم سابقاً أيها الأخوة يمر بمرحلة همه أن يكسب المال، ثم تكون مرحلة أخرى يصبح همه فيها جمع المال وتكديسه، لذلك قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
فهؤلاء الذين يأكلون الربا يأكلون ما ليس لهم بحقٍ أن يأكلوه، أي إذا أقرضوا اشترطوا عند إقراضهم أن يعود المبلغ زائداً، رابياً، فيه زيادة لعِلَّة الزمن، أو هناك ربـا التفاضل، أي يبيعُ جنساً واحداً بكـميةٍ مضاعفة، يبيع مداً بمدَّين، من جنسٍ واحد هذا فيه ظلم شديد،
النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((الذهب والفضَّة، والقمح والشعير، والتمر والزبيب يداً بيد وسواءً بسواء)).
الفرق بين أن تضع مالك مع إنسانٍ يستثمره لك وبين أن تضعه في مصرف :
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ ﴾
يوم القيامة إلى ربهم. ﴿ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ﴾
يتخبَّطه، أي يضربه الشيطان، وهذا الذي يسميه الناس مسَّ الشيطان، الوقوع بالساعة، الصَرَع، فمن شدة اضطرابه، ومن شدة شعوره بالذنب، ومن شدة العار الذي تَلَبَّسَّه، من شدة خوفه من الحساب يقوم يوم القيامة. ﴿ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾
علَّة هذا الاضطراب الشديد، وهذا الهلع وهذا الخوف أنهم قالوا: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾
هناك آلاف مؤلَّفة حالياً يقولون: ما الفرق بين أن تضع مالك مع إنسانٍ يستثمره لك ويعطيك في آخر العام ربحاً، وبين أن تضعه في مصرف يعطيك فائدةً؟ بونٌ شاسع، أنت حينما تضع المال في مصرف تأخذ ربحاً ثابتاً، أما حينما تضع المال مـع أخٍ يستثمره تأخذ ربحاً حقيقياً فإذا ربح أعطاك، وإن لم يربح لم يعطك شيئاً، وإذا خسر فعليك نصيب من الخسارة، فالبيع والشراء فيهما تعاون، أما في الربا فهناك إنسان مستغِل وإنسان مستغَل، لذلك قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾
حينما يخصص للزمن ثمن دخلنا في موضوع الربا :
فالله عزَّ وجل قال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾
أي أن الربا الذي ترونه محرماً هو كالبيع تماماً، هكذا ادّعوا. ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
البيع فيه عوض، أي أن هذه الكأس بعشر ليرات، تعطيه الكأس ويعطيك الثمن، عقد معاوضة، أما الزيادة في الربا فليس لها عِوَض إلا الزمن، أنت تبيع كتاباً بمئة ليرة، فإذا كان مجلداً بمئة وخمسين، الخمسون في الكتاب، فإذا كان مُذهّباً بمئتين، الخمسون الثانية في الكتاب، فإذا كان قد كتب علـيه اسمك زاد خمسين ثالثة، الثالثة فـي الكتاب، فإذا أعطيته لسنةٍ بمئة ليرة زائدة، المئة الأخيرة لا يقابلها شيءٌ فـي الكتاب، ليس لها عوَض، عوضـها الزمن، أي صار للزمن ثمن، حينما يخصص للزمن ثمن دخلنا في موضوع الربا.
أصل الربا أنك تقرض قرضاً لإنسان، فإذا حلّ الموعد تقول: إما أن تؤدي وإما أن تُربي، هذا أصل الربا، ربا القروض، ثم جاء ربا البيوع.
الفرق بين النقد والمال :
قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
أصل حِلِّ البيع هو المعاوضة، وأصل زيادة الثمن في البيع مقابل الجُهد، أي أنت مقيم في بيتك وإلى جانبك بائع جاء بالبضاعة من مكانٍ بعيد، وحملها، واعتنى بها، ونظَّفها، عرضها عليك، مقابل هـذا الجهد أعطيته الزيادة في البيع، لأن الزيادة فـي البيع مشروعة مقابل جهد البائع، أما في القرض فغير مشروعة. ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
هناك نقطة دقيقة جداً: المال كلّ ما يُنْتَفع منه مباشرةً، فالبيت مالٌ لأنه يسكن، والمركبة مالٌ لأنها تُرْكب، والطعام مالٌ لأنه يُؤكَل، والشراب مالٌ لأنه يشرب، أما النقد لا ينتفع به مباشرةً، فحينما تتاجر بالنقد وقعت في الحرام، طبعاً إذا كان النقد من عملة إلى عملة فله موضوع آخر، وله شروط دقيقة جداً، أما أن تجعل المال يلد المال هذا كسبٌ غير مشروع.
الفرق بين البيع والربا :
قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾
أي قصدهم إنما الربا مثل البيع، هناك بونٌ شاسع، الزيادة في الربا لا يقابلها عوض، أما الزيادة في البيع يقابلها عوض وهو الجهد، إنسان اشترى بـضاعة، وتحمَّل قرار المغامرة بالربح والخسارة، وحملها وصنفها وعرضها، هذا جهد كبير، وقدم لك هذه الخدمة حتى صارت إلى جانب بيتك، فالتفاضل في البيع تفاضل يقابله جهد، أما التفاضل في الربا فلا يقابله جهد، التفاضل في البيع توزَّع فيه الأموال على عددٍ كبيرِ من الناس، أما التفاضل في الربا ليس كذلك. قال: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
يقول الله عزَّ وجل: إن هؤلاء الذين آمنوا إذا عملوا شيئاً يجهلونه، ثم عرفوا الحقيقة تابوا: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
أي الإنسان قد لا يعلم، فإذا علم يجب أن ينتهي.
الفرق بين الربا والصدقة :
قال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
من معاني (يمحق الله الربا) أن هذا المال الذي جمعته بالحرام يتلفه الله؛ بمصادرةٍ، بحريقٍ، بمشكلةٍ، بمرضٍ عُضال تنفقه، أعلم رجلاً له دخلٌ حرام، علةٌ في قلبه كلَّفته بضع مئات من الألوف، فالله عزَّ وجل يمحق المال الحرام بطرق كثيرة، إما أن يتلف المال نفسه، أو أن ينفق على صحة الإنسان، أو أن يدفَع جزاء خطأ غير مقصود، أو أن يشقى الإنسان به، أو أن يسرق منه، أو أن يكون هذا المال نكداً عليه، تألَّب عليه أولاده وتطاولوا عليه طمعاً بهذا المال، أي يصبح هذا المال الحرام مصدر شقاءٍ لهذا الإنسان، هذا معنى (يمحق الله الربا) وليس المحق سريعاً بل قد يأتي متأخراً.. ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
أما الصدقة فيضاعفها الله أيضاً، وثوابها قد يأتي عاجلاً أو آجلاً حسب مشيئة الله. ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾
الصدقة تزيد المال، وتملأ نفس المتصدق بالسكينة، والإقبال، والطمأنينة، والقوة، والانشراح، ولها أثر نفسي، وأثر مادي، بعد حين يعوّض الله عزَّ وجل على المتصدق أضعافاً مضاعفة. ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
أي كفار بهذا المنهج العظيم أثيمٌ لمخالفته، منهجٌ عظيم كفر به، ومنهجٌ عظيم أَثِم بمخالفته.
حق من يستغفر لذنبه إن كان صادقاً ونادماً أن يسترد رأسماله فقط :
يقول الله عزَّ وجل هنا: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾
له رأسماله.. ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾
فيما مضى؛ يغفر له إن كان صادقاً ونادماً، وقد لا يغفر له لحكمةٍ يريدها الله عزَّ وجل، أما حقه أن يسترد رأسماله فقط.. ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ ﴾
إلى أكل الربا.. ﴿ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
أي أن هذه المعصية سبب خلودٍ في النار. ثم يقول الله عزَّ وجل: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾
العقاب والجزاء لا يأتي عقب العمل:
هذه الآية دقيقة جداً. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
العجيب أن المسألة في الرياضيات بالعكس، إذا أقرضت قرضاً ربوياً مئة ألفٍ مثلاً عاد مئة وعشرين، فالربا اسمه ربا من الزيادة، أما إذا أقرضت قرضاً حسناً عاد مئة، فبالآلات الحاسبة الربا ينمِّي المال، والصدقة لا تنميه بل تنقصه، فالآية تنص على عكس حساب الرياضيات. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
ماذا نستنبط من هذا؟ نستنبط أن هناك قوانين مستنبطة من حركة الحياة، وهناك منظومةٌ من القوانين الأخرى لا يعلمها إلا قلةٌ قليلة ممن أوتوا العلم، مثلاً: الإنسان قد يرابي وقد يربح ملايين مملينة من الربا ثم تأتيه مصيبةٌ بقانونٍ آخر تمحق كل ماله، وهذا الشيء يقع، هناك من يحترق ماله، هناك من يدمَّر، هناك من يفقد أعز ما يملك، هناك من تصادر أمواله، فهناك قوانين مستنبطة من حركة الحياة، وهناك قوانين استثنائية بيد الله عزَّ وجل، فأنت حينما تخاف الله وتقرض قرضاً حسناً، ويقل مالك، تكافأ برزقٍ لا تدري من أين جاءك.. " أبى الله إلا أن يجعل رزق عبده المؤمن من حيث لا يحتسب ".
بينما الذي يرابي أيضاً بقانون استثنائي يدمِّره الله عزَّ وجل، ومن عظمة الله عزَّ وجل أنه يتلف مال الإنسان بأبسط الأسباب، ويغنيه أيضاً بأبسط الأسباب. ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
لا بد مـن أن تشعر أن العقاب لا يأتي عقب الذنب أبداً، وأن الجزاء الحسن لا يأتي عقب الصدقة بسبب أن الله لو فعل هذا لألغي الاختيار، فمثلاً مرابٍ تعامل بالربا فأتلفَ ماله بعد ساعة فلا أحد يفعل ذلك لا حباً بالله ولا طاعةً له ولكن خوفاً على المال، والمتصدق يدفع الصدقة فيأتيه عشرة أضعافها، فيبادر أهل الكفر والإلحاد ويدفعون الصدقات، إذاً لو جاء العقاب والثواب عقب العمل لألغي الاختيار، ولكن حكمة الله أنك تفعل ما تشاء، وإلى أمدٍ طويل دون أن تصاب بشيء، وتأخذ أبعادك، فأنت مخيَّر، فالمَحْقُ هنا قد لا يكون سريعاً.
الحرص على طاعة الله في كسب أموالنا وفي إنفاقها :
هم في تطمين الله عزَّ وجل، هم في حفظه ورعايته، هم في أمان الله، هم في اطمئنان من عند الله، هم في توفيق الله، ألا يتمنى كل واحد منا أن تنطبق عليه هذه الآية؟! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
ثم يقول الله عزَّ وجل وهو يوجِّه عباده المؤمنين، يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
أي احرصوا على طاعة الله في كسب أموالكم، وفي إنفاقها، فالسياق سياق مالي. ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
أي اتقوا سخط الله بكسب أموالكم، فإذا كان هناك رباً سابق. ﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
أي لك أن تأخذ مالك فقط، وهناك مَن يقول: حينما تتوب توبةً نصوحاً لك أن تأخذ مالك ولك أن تأخذ هذا الذي زاد عليه وتدفعه إلى الفقراء دون أن يدخل عليك منه شيء.
الآية التالية تحمل إنذاراً قاسياً مرعباً :
قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾
هنا الآية تحمل إنذاراً قاسياً مرعباً. ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
مَن نحن حتى نتعرَّض لحرب الله عزَّ وجل؟ أحياناً خطأ بسيط في الأجهزة تصبح حياة الإنسان جحيماً، فالخلايا في أي مكان بالجسم قد تنمو نمواً غير طبيعي، وانتهى الأمر نحن تحت ألطاف الله عزَّ وجل، فالذي يجرؤ ويأكل المال الحرام قد يمحق الله حياته، يمحق صحته، يمحق سعادته، يمحق أمنه، يمحق طمأنينته. ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾
أي أن هذا الذي أقرضته المال بفائدة إذا كان ذو عسرة فانتظره حتى يتيسَّر أمره، لا تقل له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فهذا سلوك أهل الجاهلية ولا يليق بالمؤمنين.
من يطلب النجاة من الله عزَّ وجل ييسر الله له مخرجاً من حيث لا يحتسب :
أولاً: الحقيقة أن هذا هو الشرع كما شرحناه، أما أين سأضع مالي؟ هذا موضوع ثانٍ، كل شيء له ميزان، هذا هو الحق، وهذا هو الشرع، وهذا هو المنهج، لكن قد ينشأ في زمن معين مشكلات لا تعد ولا تحصى، والمراباة لا تحل أية مشكلة، أنا أضرب مثلاً دائماً: لو أن إنساناً أصابته جراحٌ عميقة على خده الأيمن، فذهب إلى طبيب تجميل، فقال له: قضيةٌ سهلةٌ جداً أنزع لك قطعةً من خدك الأيسر وأضعها على خدِّك الأيمن، فالمريض لم يستفد شيئاً، حلَّ مشكلةً بمشكلة، فهناك أشخاص كثيرون عندهم مشكلة مالية، فهذه المشكلة لا تحل بالربا، هذه مشكلة لها حل آخر، وما من إنسان يطلب النجاة من الله عزَّ وجل إلا والله جل جلاله ييسر له طريقاً مستقيماً ومخرجاً من حيث يحتسب أو لا يحتسب.
ذات مرة سمعت عن فلاح، يعيش حياته كلها في خدمة الأثرياء، وُزِّعت عليه أرض، ففرح بها فرحاً لا حدود له، وذهب إلى شيخه ليخبره، فقال له: يا بني هذه أرضٌ مغتصبة، ولا يجوز أن تتملكها، ولو أنها مُلِّكت لك، وهذا هو الـشرع، فكل هذا الفرح عاد حزناً وانقباضاً، ذهب هذا الإنسان الطيِّب إلى الإنسان الثري الإقطاعي يحاول معه أن يبيعه هذه الأرض التي ملكها بحكم القانون، قال له: أتبيعني إيَّاها فهذه الأرض ليست لي وهي لك، وقد أُخذت منك عنوةً، وأعطيتُ إياها، قال له: والله لقد أُخذ من مالي أربعمئة دنم، ولم يأتِ واحد ليسألني أكان هذا المال الذي أخذه حلالاً أم حراماً؟ فهي لك هديةٌ يا بني، فبحرصه على الحلال، وورعه، وسؤال شيخه ألقى الله في قلب هذا الغني أن يقدِّمها له هديةً ليزرعها وهو مرتاحٌ وهو في طاعة الله عزَّ وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه )).
والله مستحيلٌ وألف ألف مستحيل أن تدع المال الحرام خوفاً من الله ثم لا تأخذ شيئاً مقابله، بل يغنيك الله عزَّ وجل وهذه سنته مع عباده.