الواحد منا يأتي إلى الدنيا وهو لا يعلم شيئاً، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ ويخرج منها بعد عمر مديد وهو لا يعلم إلا القليل، ويجهل الكثير الكثير، وهو بين القدوم النضر المتفتح، والأفول الذابل الواهي، هذا شأن البشر جميعاً، ويبذل الكثير من الجهد، ويلاقي الكثير من العناء في سبيل امتلاك رؤية صحيحة، لأن العمل سببه رؤية، فإن كانت الرؤية صحيحة كان العمل صواباً، وإذا كان صواباً سعدت بعملك في الدنيا والآخرة. وإذا كانت الرؤية غير صحيحة جاء العمل غير صحيح، فشقي الإنسان في الدنيا والآخرة. أين البطولة إذاً؟ أن تملك رؤية صحيحة، الرؤية تسبق العمل، إما أن تملك رؤية صحيحة تنقلب إلى عمل صحيح، فتسلم وتسعد به في الدنيا والآخرة، أو ألا تملك رؤية صحيحة فيأتي العمل منحرفاً، فيه عدوان، أو فيه إثم، ويشقى فيه الإنسان في الدنيا والآخرة. لذلك سيدنا حذيفة رضي الله عنه قال مرة: ((كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ أقع فيه)) .
الرؤية نوعان رؤيةٌ بصريَّة، ورؤيةٌ قلبيَّة، رؤية البصر أن ينطبع في شبكيَّة الإنسان خيالٌ، تقول: هذا جبل، وهذه شجرة، رؤية البصر يستوي فيها كلُّ البشر، بل وأضيف إلى ذلك أن غير البشر يستوون في رؤية البصر، البهائم إذا رأت حفرةً ابتعدت عنها، وإذا رأت ثمرةً أكلتها، فرؤية البصر لا قيمة لها إطلاقاً، لأنها قدرٌ مشتركٌ بين البشر وغير البشر؛ لكن الذي يتميَّز به الإنسان هو رؤية القلب، رؤية القلب أشار إليها القرآن الكريم فقال : ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ رؤية القلب حينما تستقيم على أمر الله، أو حينما تتعرَّف إلى الله وتستقيم على أمره، يقذف الله في قلبك نوراً ترى به الخير خيراً، والشرَّ شراً .
هذا الذي أقدم على سرقة الأموال هو أعمى، لو رأى مصيره لما أقدم على هذه السرقة، وهذا الذي أقدم على الزنا هو أعمى، لو رأى مصير الزنى، وبشاعة هذا العمل، والخيانة التي لا تحتمل، والعقاب الأرضي السريع، وغضب الله عزَّ وجل عليه لما فعله، إذاً يجب أن نعلم علم اليقين أنه ما من إنسانٍ على وجه الأرض يُقْدِمُ على اتباع شهوةٍ محرَّمةٍ إلا وهو أعمى، لا نقول: أعمى العينين؛ بل نقول: أعمى القلب، والدليل أن الله سبحانه وتعالى وصف المعرضين بأنهم في عمى، قال : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ﴾ أي كذلك كنت أعمى في الدنيا . إذاً ما البطولة؟ أن تتفتَّح بصيرتنا، وأن تصحَّ رؤيتنا، وأن نرى الحقَّ حقاً والباطل باطلاً، أن نرى ما وراء الأشياء، وأن نرى مؤدَّى الأشياء، أن نرى عاقبة الأشياء .
متى يكون الإنسان بصيراً؟ إذا جاءت رؤيته مطابقةً للشرع، فلماذا يكذب الإنسان؟ لأنه يرى في الكذب نجاةً، لو رأى أن الكذب سوف يجعله في الحضيض لما كذب، ولماذا ينافق الإنسان؟ لأنه يرى في النفاق فوزاً، أما لو رأى أن المنافق صغيرٌ عند الله، صغيرٌ عند الناس لمَا نافق، إذاً: يجب أن نعلم علم اليقين أن كل انحرافاتنا أساسها ضعفٌ في رؤيتنا، وأن ضعف الرؤية أساسه بعدٌ عن الله عزَّ وجل، لأن : ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من معاني هذه الآية: إنك إذا أقبلت عليه نوَّرَ قلبك، فتجد أن المؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، لذلك انضباطه أساسه رؤية . مثل تقريبي: الطبيب الذي يرى بأمِّ عينيه في المخبر فعل الجراثيم، والأمراض الوبيلة التي تسببها الجراثيم، والإنتانات المعويَّة، والتقرُّحات الجلديّة، والمتاعب التي لا حدود لها بسبب تلوُّث الأطعمة بالجراثيم، الطبيب إذا رأى أحداً يأكل فاكهةً ليست نظيفةً، له رؤية لا تراها أنت، هو يرى مؤدَّى هذا الطعام، وما يسببه من آلام، ومن أمراض، ومن متاعب، فالعلم نورٌ، أنت إذا تعلَّمت العلم فمما يلازم هذا العلم النور.
أي إنسان أقدم على معصية لو أنه استحضر عظمة الله، لو أنه استحضر أنه سيوقف يوم القيامة ليُسأل لمَ عصيت؟ لم أكلت أموال الناس بالباطل؟ لم غششتهم؟ لم احتلت عليهم؟ لم أفسدتهم؟ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. الإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله، ما من إنسان يستحضر يوم القيامة في كل حركاته وسكناته إلا استقام على أمر الله، والويل لمن لا يستحضر هذه العظمة يوم القيامة، لمن لا يستحضر عظمة يوم القيامة في الدنيا، المجرم لماذا يرتكب الجريمة؟ لأنه يغلب على ظنه أنه سيسلم من العقاب، وأنه سيتمتع بهذا المال، ولو أنه استحضر الإعدام لما أقدم على هذه الجريمة، سارق، لماذا يقدم على السرقة؟ لأنه يغفل عن العقاب، يستحضر الجانب الذي يتوهمه صحيحاً، أنه سيستمتع بهذا المال، ولو استحضر أنه يلقى القبض عليه ويودع في السجن لما سرق، لذلك ضعف رؤية، وأخطر شيء في حياة الإنسان رؤيته، ماذا ترى أنت؟ ألم يدعو اللهم أرنا الحق حقاً، لماذا دعا بهذا الدعاء؟ لأن من الناس من يرى الحق باطلاً، ومن الناس من يرى الباطل حقاً، من الناس من يرى كسب المال الحرام غنيمة، وإيقاع الأذى بالناس غنيمة، والاحتيال على الناس مغنم كبير، ما من خطأ يقع من الإنسان إلا لخطأ في رؤيته، لو رأى الحق حقاً فاتبعه، ورأى الباطل باطلاً فاجتنبه لما شقي لا في الدنيا ولا في الآخرة، قضية الرؤيا، مرة أقول: لا تحب أحداً أحب نفسك. إن كنت مفرطاً في حب ذاتك فلا بد أن تستقيم على أمر الله، لأن الخير كله في طاعة الله، ولأن الشر كله في معصية الله، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، وأن تعصيه وتربح، صحح رؤيتك، الناس يعيشون لحظتهم ولا يعيشون مستقبلهم، يريد مالاً وفيراً، بيتاً كبيراً، زوجةً رائعةً، مركبة فارهة، يعيش لحظته، فإذا جاء يوم الحساب نـدم أشد الندم . ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي*فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ كل بطولتك أن ترى مستقبلك قبل أن تصل إليه، أن ترى العقاب قبل أن تناله، أن ترى الثواب قبل أن تأخذه، أن تعيش المستقبل. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ وقال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ كلما ازداد علمك بالله صحت رؤيتك وصحّ عملك فسعدت في الدنيا والآخرة .
في أمور الدنيا الناس يحرصون على دنياهم، يستشيرون، يسألون، يدققون، يمحّصون، يوازنون، يقابلون من أجل سلامة المال، من أجل نموِّه، من أجل صحة الجسد، لو أنهم طَّبقوا أساليبهم التي يتبعونها في دنياهم على أخراهم لفازوا بالدنيا والآخرة، فهؤلاء المتقون هم الذين أقبلوا على الله -عز وجل-، وقذف الله في قلبهم النور، فرأوا الخير خيراً والشر شراً، استنارت قلوبهم، سيدنا يوسف حينما عرضت امرأة العزيز نفسها عليه، وكانت ذات منصبٍ وجمالٍ، وكانت سيدة مُطاعَة في قصرها، وكان عبداً عندها، وكان شاباً، وكان غريباً، وغير متزوج، وفي بيتها، وتلقّى منها أمراً، وليس من صالحها أن تنشر الخبر، وسيدها ضعيف الشخصية، عشر عوامل تضافرت جمعياً كي يستجيب لها، ومع ذلك: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ ماذا رأى؟.
تأكدوا أن أحداً منكم لا يفعل شيئاً، ولا يدع شيئاً، إلا بناء على رؤية رآها، هذه الرؤية إما أن تكون صحيحة، وهذا هو الهدى، وإما أن تكون باطلة، وهذا هو الضلال، الذي يُعرَض عليه مالٌ حرامٌ فيأبى أن يأخذه، هذا رأى أن الأمر كله بيد الله، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه إذا أخذ مالاً حراماً يوشك الله أن يتلفه مع ماله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه وأن الله إذا أعطى أدهش، وهو المعطي لا يسأل، وهو الكريم لا يبخل، وهو الحليم لا يعجل، كل هذا الرُّؤى اجتمعت في نفس هذا الإنسان حينما عُرِض عليه مال حرام، فقال: لا، ورب الكعبة، كلمة "لا" وراءها رؤية، لماذا يبالغ الطبيب في غسل يديه قبل الطعام؟ لأنه رأى بعينه من خلال الميكروسكوب الجراثيم، ورأى المرضى، هذا مريض بالعدوى، وهذا مريض بالجرثوم الفلاني، إن رؤية الطبيب لحقائق الأمور تجعله يبالغ في تنظيف يديه. نحن جميعاً وبنو البشر جميعاً، وكل ولد آدم منذ أن خُلقنا على سطح الأرض، وحتى يوم القيامة مفطورون على جِبلَّةٍ واحدة، نحب الخير لأنفسنا، نحب السلامة، نحب النماء، هذه الفطرة، كيف يفعل الإنسان شيئاً يدمره؟ يفعل هذا الشيء الذي سيدمره لأنه لا يملك رؤية صحيحة، يرى الدنيا كل شيء، ويرى أن المال كل شيء، ويرى أن الحياة لذيذة، وأن الموت بعيد، وأنه لا شيء بعد الموت، هذه الرؤية تحمل صاحبها على اقتراف الآثام، وأكل الأموال، والطغيان، هل تصدقون أن أكبر عدوٍ لكم هو الجهل، أكبر عدوٍ للإنسان أن يجهل حقيقة الأشياء، مَن مِنّا إذا شاع أن هذا الشيء مُلوَّث، ويسبب أمراضاً خبيثة، من منا يأكله؟ لا أحد، بدافعٍ من فطرتنا، لا يأكله مهما كان جائعاً، بدافع من الفطرة، مَن مِنّا على مشارف مرض خطير يخالف نصيحة الطبيب؟ لا أحد، هذه الرؤية الصحيحة. ما من مشكلة، ما من مصيبة على وجه الأرض إلا وراءها معصية، وما من معصية إلا وراءها عمل، وجهل، وانقطاع عن الله -سبحانه وتعالى-.