السكينة هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، لقد وردت في القرآن الكريم في عدة آيات من أبرز هذه الآيات قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ لا سعادة بلا سكينة، ولا سكينة بلا إيمان. هذه السكينة لكل البشر، بشرط أن تدفع ثمنها، ما مِن نعمة تُحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة، المال نعمة إذا حجبت مع المال السكينة أصبح المال نقمة، وما من محنة تحفها السكينة إلا وتكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك مع السكينة فإذا هو مهاد وثير، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هو شوك القتاد. هذه السكينة لا تعز على طالب كائناً من كان في أي زمان ومكان، وفي أي حال ومآل، وجدها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام في النار، وجدها يوسفُ عليه الصلاة والسلام في الجُبِّ، كما وجدها في السجن، وجدها يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، وجدها موسى عليه الصلاة والسلام في اليم، وهو طفلٌ مجرد من كل قوة وحراسة، وجدها أصحاب الكهف في الكهف، حينما افتقدوها في الدور والقصور، ووجدها نبينا عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار، والأعداء يتعقبونه، ويَقُصُّون الآثار، ويجدها كل مؤمنٍ أوى إلي ربه يائساً ممن سواه، قاصداً بابه وحده من دون كل الأبواب.
سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة، ولكن كيف السبيل إليها إذا كانت شيئاً لا يثمره الذكاء، ولا العلم، ولا الصحة، ولا القوة، ولا المال والغنى، ولا الشهرة والجاه، ولا غير ذلك من نعم الحياة المادية؟ إن للسكينة مصدراً واحداً لا ثاني له؛ إنه الإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الصادق العميق الذي لا يكدره شك ولا يفسده نفاق، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، هذا ما يشهد به الواقع الماثل، وما يؤيده التاريخ الحافل، وما يلمسه كل إنسان بصير منصف في نفسه، وفيمَن حوله. لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً، وضيقاً، واضطراباً، وشعوراً بالتفاهة والضياع، هم المحرومون من نعمة الإيمان وبرد اليقين. أبى الله جل جلاله أن يسمح للدنيا أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة بل متناقصة.
هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان، ومن ثمار التوحيد التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، هي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض، ليثبتوا إذا اضطرب الناس، وليرضوا إذا سخط الناس، وليوقنوا إذا شكّ الناس، وليصبروا إذا جزع الناس، وليحلُموا إذا طاش الناس، لأنك مؤمن متصل بالله تتمتع بميزات لا يعلمها إلا الله، ميزات نفسية، واثق من رضاء الله، واثق من محبة الله لك، واثق من أن هذه الدنيا لو أنها تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء، واثق بأن الله وعدك بجنة عرضها السماوات والأرض: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
هذه السكينة نور من الله وروح منه، يسكن إليها الخائف، ويطمئن عندها القلِق، ويتسلى بها الحزين، ويستروح بها المتعب، ويقوى بها الضعيف، ويهتدي به الحيران، هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده، منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجاً لما ينتظرهم من نعيم، في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب من الله، ومع القرب السكينة، قال تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ عرفها لهم يوم كانوا في الدنيا، ينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان، والأمن والإيمان.
أسباب السكينة لدى المؤمن:
- أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه هدي إلى فطرته التي فطره الله عليها، هي فطرة متسقة، ومنسجمة، ومتجاوبة مع فطرة الوجود الكبير كله، فعاش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام لا في حرب وخصام، ومع من حوله في شفافية ومشاركة لا في وحشة وعداوة، تفاصيل المنهج الإلهي ينطبق على تفاصيل الفطرة، أنت حينما تصطلح مع الله تصطلح مع فطرتك،
- إنّ غير المؤمن يعيش في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة، وتتنازعه غاياتٌ شتى، هذه تميل به إلى اليمين، وتلك إلى الشمال، فهو في صراع دائم داخل نفسه، وهو في حيرة بين غرائزه الكثيرة أيها يرضي غريزة البقاء أم غريزة النوع؟ وهو حائر مرة أخرى بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه، وهو حائر مرة ثالثة أيّ فئات المجتمع يرضي؟ من دون سكينة، من دون منهج، من دون هدف، من دون وحي إلهي، من دون بيان نبوي، من دون يقينيات، من دون ثوابت، من دون مبادئ، من دون تصورات صحيحة الإنسان في حيرة، والآن البشر جميعاً في حيرة. استراح المؤمن من هذا كله، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص وإليها يسعى وهي رضوان الله تعالى، لا يبالي معها برضى الناس أو سخطهم، ما أعظم الفرق بين رجلين أحدهما عرف الغاية وعرف الطريق إليها، وآخر ضالٌّ يخبط في عماية ويمشي إلى غير غاية، لا يدري إلامَ المسير؟ ولا إلى أين المصير قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
- إنّ في أعماق الإنسان أصواتاً خفيةً تناديه، وأسئلةً تُلحُّ عليه، منتظرةً الجوابَ الذي يَذهبُ به القلق، وتطمئنُّ به النفسُ، ما العالم؟ ما حقيقة الدنيا؟ ما حقيقة الكون؟ ما حقيقة الإنسان؟ مِن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ هذه الأسئلة يجيب عنها الدين إجابات عميقة متناسقة متكاملة مرضية لا تحتاج بعدها إلى سؤال.
فالإنسان إذا استقام على أمر الله بعد أن عرفه انعقدت صلته مع الله عز وجل، من خلال هذه الصلة الصحيحة تأتي السكينة، السكينة أكبر عطاء إلهي، أنت إنسان آخر، إنسان متفائل، إنسان تشعر أنك على الطريق الصحيح، إنسان تعيش ما وعدك الله به في جنة عرضها السماوات والأرض، تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.