إن صناعة الإنسان الكامل، وبناء الأسرة المتماسكة، وإقامة المجتمع الفاضل، هــي من أسمى أهداف بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام. فالإسلام عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب، أما الشيء البارز، والواضح، والصارخ في المؤمن أدبه، وهذا ما يشير إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) . إذاً هذا الأدب ما تحليله؟ وما طبيعته؟ الحقيقة الأدب له طريقان، طريق تعليمي وطريق إشراقي:
فأنت حينما تطلب العلم يقال لك: إذا دخلت فسلم، إذا أكلت فسمِّ، إذا عطس أخوك فشمته، هذه معلومات نتلقاها بالتعليم، آداب الطعام، طاشت يده في صفيحة الطعام فقال: ((كل بيمينك وكل مما يليك)) ، آداب الزيارة، آداب عيادة المريض، آداب السفر، آداب الزواج، آداب... إلخ. في كل نشاطات المؤمن معنا ملحقات متعلقة بالآداب، هناك تفاصيل كثيرة جداً عن موضوعات كثيرة جداً متعلقة بالآداب. لو أنك تتبعت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالآداب لوجدت كل أحاديث رسول الله هي توجيه لطيف لإنسان أخطأ أمامه، طبعاً لأنه مشرع. لو سكت عن شيء أصبح هذا الشيء صحيحاً، النبي وحده كلامه سنة، وفعله سنة، وإقراره سنة، شاب مشى أمام أبيه، أنت قد تنصحه، وقد لا تنصحه، لكن النبي قال: ((فلا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه، ولا تستسب له)). لو تتبعتم شمائل النبي أي الآداب التي تحلى بها، أو لو تتبعتم التوجيهات النبوية لصحابته الكرام من كل المجالات من زاوية الأدب لوجدت أن المؤمن هو الإنسان الأول في الأرض الكامل، في زواجه، في علاقته بأمه، بأولاده... هذه الآداب ربع الدين، والآداب الشيء الظاهر للمؤمن، صلاته بينه وبين ربه، صدقته بينه وبين ربه، أما الذي بينه وبين الناس هو الأدب يعني الصفة الصارخة في المؤمن أنه مؤدب، مؤدب بجلسته، مؤدب في بيته، مؤدب في ثيابه، مؤدب في كلامه، مؤدب عند غضبه، مؤدب عند رضاه، مؤدب في أفراحه، مؤدب في أتراحه، الآداب ربع هذا الدين. فلذلك كلما ارتقيت تكون أديباً أكثر، المؤمن ملك، ثيابه محشومة، كلامه محشوم، لا يتكلم بكلمة فاحشة، ولا بذيئة، لا يوجد عنده طرفة جنسية، لا يذكر العورة باسمها أبداً، بعض الآداب. فتاة ترتدي ثياباً شفافة، قال لها: يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم أي كلمة من أعضاء المرأة تثير الشهوة، إن هذه الثياب تصف حجم عظامك ، كلمة عظام لا تثير الشهوة أبداً، انظر إلى الأدب. القرآن علمنا الأدب، قال: ﴿ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ، قد يفهم الطفل لامس النساء وضع يده فوق يد زوجته، لها معنى آخر بالقرآن الكريم. ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً﴾، سيدنا يوسف قال: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ أمام إخوته، الذين وضعوه في غيابت الجب ليموت. ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ، ما ذكر الجب، أيهما أخطر السجن أم الجب؟ الجب، الجب مظنة موت، أما السجن فقدت حريتك فقط، لكن تأكل وتشرب وأنت آمن. الذي يبدو من المؤمن هو أدبه، أدبه مع الله، أدبه في بيوت الله، أدبه مع كتاب الله، أدبه في بيته، في ثيابه، ((لأنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه، خيرٌ من أن يتصدق بصاع)) من أعظم الأعمال تأديب الأولاد، هذا الأدب الكسبي، الأدب التعليمي، الأدب على أثر توجيه.
لكن هناك أدب من نوع آخر، أنت حينما تتصل بالله اتصالاً حقيقياً، حينما تقبل على الله إقبالاً حقيقياً، لابدّ من أن تشتق من الله مكارم الأخلاق، الأدب الأصيل الحقيقي الذي لا يتأثر لا برخاء، ولا بشدة، ولا بعداوة، ولا ببغضاء، ولا بفقر، ولا بغنى، يعني أغلب الظن إذا الإنسان ببحبوحة، ودخله جيد ما عنده مشكلة، تجده لطيفاً، ناعماً، أما حينما تهدد مصالحه، يغدو وحشاً، فهذا الأدب الكسبي أساسه التعلم، والمتعلم قد يطبق، وقد لا يطبق، الأدب الإشراقي أساسه الاتصال بالله، هذا هو الأدب الحقيقي، هذا لا يتأثر، ولا يتبدل، ولا يزيد ولا ينقص، لا يتأثر لا بالغنى، ولا بالفقر، ولا بالقوة، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ متمكن من هذه الأخلاق. الآداب التي أساسها الذوق تأتي من أين؟ من الصلاة، نحن أحياناً لا نقدر قيمة الصلاة، الله عز وجل قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ هل تستطيع أن تقبل أن إلهاً عظيماً أمرك أن تؤدي كل يوم خمس مرات الصلوات، من أجل أن تقف وأنت ساه أو لاه، تقرأ قراءة شكلية، وتركع وتسجد، وخيالك يسوح، ويبحث عن مشكلاته، هذا العمل هل تقبله عبادة لله عز وجل؟ الله عز وجل قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ هل تذكره في الصلاة؟ قال: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ هل تحس بالقرب من الله في الصلاة؟ قال كما ورد في بعض الآثار: ((ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها)) . فلذلك لما قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ قال بعض العلماء: ذكر الله لك وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له، إنه إن ذكرك منحك الكمال، منحك الحلم، منحك الحكمة، منحك الرضا، منحك العفاف. محاسن الأخلاق، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً. إذا ما كانت أخلاقك صارخة ما علامة إيمانك؟ هذه الأخلاق، المؤمن: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾ . إذاً الأخلاق الإشراقية الأصيلة التي ينبغي أن تتخلق بها هي أخلاق الصلاة، المتصل بالله اشتق من الله الكرم، الحلم. الله عز وجل قال: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ الله عز وجل أسماؤه حسنى، يعني كريم، يعني حليم، يعني عفو، يعني رؤوف، عليم، غني، قوي، فأنت حينما تشتق كمالاً منه وتعامل عباده بهذا الكمال تتقرب إليه. إذاً الله عز وجل لا يتقرب إليه إلا بكمال مشتق منه من خلال الصلاة، هذا الكمال تعامل به من حولك من الناس، يقبلك الله عز وجل، الكريم يحب الكريم، والحليم يحب الحليم، والوفي يحب الوفي. يعني الفرق بين إنسان أميّ، وإنسان معه دكتوراه، قلم بالجيبة يوضع هذا هو الفرق فقط؟ شيء مضحك، هذا درس خمس وثلاثين سنة، معه ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، ولسانس، ودبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ودكتوراه، دراسة 35 سنة، ودراسة ليلاً نهاراً، وتحقيق، وتأليف، ومتابعة، ومراجعة، وحفظ، وأداء امتحانات، حتى وضع إلى جانب اسمه: د. هذه الدال يقابلها قلم حبر بالجيبة؟ أحياناً إذا شخص ليس متعلماً يحب أن يضع كم قلم بجيبته، أحياناً يضع ستة أقلام، ويضع بمكتبه الكتاب بالعكس.
لكن هناك أخلاق رقم ثلاثة، هذه أخلاق لا علاقة لنا بها إطلاقاً، أخلاق الأذكياء، ذكي جداً فإذا تواضع ينتزع إعجاب الآخرين، وحقق مصالحه معهم، إذا وفى بوعده يستطيع أن يبيع أكثر، إذا أتقن عمله يربح أكثر، الأخلاق الناتجة عن ذكاء الإنسان، والتي تصب في مصالحه هي أخلاق الأذكياء، هذه ليست محل بحثنا إطلاقاً. أنتم تسمعون أحياناً أنه فعل هذا النائب كذا لينجح في الانتخابات، الكمال وحده من أجل الانتخابات، شنّ هذا العدوان من أجل الانتخابات، فالإنسان حينما لا يعرف الله يعبد ذاته، أي شيء يرفعه، يمنحه منصباً رفيعاً، يمنحه كرسياً في المجلس، فيبذل الغالي والرخيص، ويقيم ولائم، وعزائم، ويتواضع من أجل أن يصل إلى الكرسي في هذه النقابة، أو في هذا المجلس، حتى في مصالح كثيرة تحقق عن طريقها. فموضوع أن تكون صادقاً، أو أميناً، محققاً لبعض الكمالات البشرية من أجل أن تنتزع إعجاب الآخرين، وأن تحقق مصالحك معهم، هذا الأدب ليس متعلقاً ببحثنا أبداً، هذا أدب الأذكياء، أدب تجاري، والغرب برع به براعة مذهلة، تجد حقوق الحيوان، يبيدوا شعوب بأكملها، يراعي حق حيوان، حق كلب أحياناً، شعب بأكمله يباد، ويرعون حق كلب. أخلاق الأذكياء أخلاق المصالح، أخلاق الانتخابات، هذه أخلاق ساقطة عند الله لا تقدم ولا تؤخر، سلوك ذكي، هدفه تحقيق مصلحة.
الإنسان فيه نزعة فردية، ونزعة اجتماعية، النزعة الفردية يحب أن يؤكد ذاته، يعني الله عز وجل أمرك أن تستيقظ لتصلي صلاة الفجر، وجعل طبعك محباً للنوم، الطبع هو النوم، والاستيقاظ تكليف، هناك طبع وهناك تكليف، الطبع أن تأخذ المال والتكليف أن تنفقه، هذا التناقض بين الطبع والتكليف هو ثمن الجنة. ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ . الآن الطبع فردي، والتكليف تعاوني، الإنسان بين الفردية وبين الاجتماعية، عندك نزعة فردية ونزعة اجتماعية، تحب أن تنجح لوحدك، وكل من حولك يرسب تشعر بنشوة مثل الطاووس، لكن النزعة الراقية أن تفرح لنجاح كل من حولك، هذه نزعة أرقى. لذلك الإنسان حينما تتضارب حاجاته الاجتماعية مع حاجاته الفردية قد يؤثر مصالحه الشخصية، وهذه مشكلة العالم اليوم، العالم المتحضر الراقي سابقاً طبعاً، العالم الذي يؤمن بحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، ما تكلم كلمة حينما قتل أعداد كبيرة بغزة، ما تكلم كلمة، لأن مصالحه مع من قتل. فأحياناً تتضارب المصالح الشخصية مع المكانة الاجتماعية، انظر إلى عظمة هذا الدين، سما بالحاجة الاجتماعية إلى مستوى العبادة، فأنت كمؤمن حينما تكون صادقاً مع أخيك ترقى عند الله، حينما تزور أخاك ترقى عند الله، حينما تعود مريضاً ترقى عند الله، حينما تلبي حاجة أخيك ترقى عند الله، فكأن عظمة هذا الدين سما بالحاجة الاجتماعية من حاجة تلبى إلى عبادة تؤدى، هكذا المؤمن. فلذلك يصعب في حياة المؤمن أن يضحي بمكانته الاجتماعية لأن هذه المكانة ليست مكانة، هي عبادة، هناك فرق بين أن تكون مكانة يضحي بها الإنسان، إذا في مبلغ ضخم يحل كل مشكلاتك يضحي بسمعته من أجل مصالحه، أما المؤمن نشاطه الاجتماعي عبادات، فلذلك محصن من أن يؤثر المصلحة الشخصية على المكانة الاجتماعية. أذكر أخاً من إخوانا عمّر بناء، وتأخر تسجيل البناء بأسماء أصحابه لأسباب خارجة عن إرادته، فالذين اشتروا البيت من سنوات طويلة بثمن قليل جداً ارتفع سعره عشرين ضعفاً تقريباً، عرضوا عليه مبلغاً ليسجل لهم البيت، قال: لا والله، أنا بعتكم وقتها، وربحت عليكم، وقبضت الثمن، ليس لي عندكم شيء، هو بدافع من طاعته لله ما أخذ منهم شيئاً، أكبروه إكباراً. أنت لمجرد أن تطيع الله في علاقات الاجتماعية ترقى عند الله، وعند الناس هذا هو المنهج. فلذلك القنوات الاجتماعية عند المؤمن نظيفة وطاهرة، ومظهرك الصارخ هو الآداب.