قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا...﴾ هذه مقولة المشركين: ﴿...لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ أين هذا الكلام؟ كله كذب:﴿...كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾.
في اللحظة التي تتوهم أن الله أجبرك على كل أفعالك، وأن الله لا رأي لك فيه إطلاقاً، وأنت مسير، ولست مخيراً، اعتقد أن الحياة لا معنى لها، والتكليف لا معنى له، وحمل الأمانة لا معنى له، والثواب والعقاب تعطلاً، والجنة والنار لا معنى لهما إطلاقاً، وألغي الدين كله، إذا صحت عقيدة المرء صح عمله، وإذا فسدت عقيدته فسد عمله.
ما لم تكن مخيراً فلست مسؤولاً، المسؤولية لا تتحقق إلا إذا كنت مخيراً، والتخيير يثمن عملك, يعطي عملك قيمة، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ وقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ الآيات لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.
الإنسان مخير فيما كلف، ولوجود الأمر والنهي في القرآن الكريم، ولا يعقل أن تكون مسيراً، وأن يأمرك الله بأمر أو ينهاك عن شيء، الأمر ليس له معنى، والنهي ليس له معنى، ولكنك لست مخيراً في أمك وأبيك، هل اخترتهما؟ أبداً، أمك وأبوك وبلدتك وعصرك، وكونك ذكراً أو أنثى، وقدراتك العامة هذه ليس لك فيها اختيار، ولكن اعتقد اعتقاداً جازماً أنها لصالحك، يعبر عن هذا بقول الإمام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان . ليس في إمكانك أبدع مما أعطاك فيما سيرك به، إذا أجبر الله عباده على الطاعة سقط الثواب، ولو أجبرهم على المعصية سقط العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة: إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.
ولكن الآن بالضبط دققوا في هذا المثل: تركب مركبة، والقيادة بيدك، أنت حر في قيادتها، والإشارة حمراء، وأنت مخير أن تلتزم بالقانون، أو أن تخترق القانون، أنت حينما تلتزم بالقانون تبقى مخيراً، أما حينما تخترق القانون تفقد اختيارك، لست مخيراً في قبول المخالفة أو عدم قبولها، لو أن المخالفة سحب الإجازة، أو حجز السيارة، أو إيداعك في السجن، أنت حينما اخترت خرق القانون فقدت اختيارك.
الإنسان في الدنيا حينما يختار أن يعصي الله عز وجل، الآن يسوق الله بلية وتأديباً وعقوبةً, ليس الإنسان مخيراً في قبولها أو رفضها، إذاً: أنت مخير في قضايا كبرى في حياتك هي لصالحك، ثم إنك مخير فيما كلفت، وبعد أن تكلف وتخير, إما أن تبقى مخيراً بطاعتك لله، وإما أن تفقد اختيارك حينما تختار أن تعصي الله.
يقول أحدهم: قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ لكن: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ، أين اختيار الإنسان؟ أقول له: لقد ربط الله مشيئتك بمشيئته ربط فضل لا ربط جبر، لولا أن الله خلقك مخيراً، وشاء لك أن تكون مخيراً، واخترت الخير، ونعمت بالجنة، لولا أن الله شاء لك أن تكون ذا مشيئة، واستعملت المشيئة لصالحك، وكانت سبب دخول الجنة لما كانت. قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ يعني يا عبادي، إذا زعمتم، إذا توهمتم: أنني أجبركم على المعاصي والآثام فأنتم واهمون، قال تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ إذا توهمتم وزعمتم أنني أجبركم على المعاصي، لا، لو كنت مجبركم على شيء, لما أجبرتكم إلا على الهدى، ولكن الهدى الذي تجبرون عليه لا يسعدكم، لذلك: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ لو أن الهدى الذي تجبرون عليه يسعدكم, لأجبرتكم على الهدى، هذا معنى ولو شئنا إجبار هويتكم، ولو شئنا إلغاء أمانتكم، إلغاء تكليفكم، إلغاء اختياركم، وأجبرناكم على شيء, لما أجبرناكم إلا على الهدى.