بحث

التخيير والتسيير

التخيير والتسيير

بسم الله الرحمن الرحيم

هل الإنسان مخير أم مسير؟ :   

      هذه الآية -أيها الأخوة الكرام- يقول عنها علماء التفسير: هي أصل في أن الإنسان مخير، قال تعالى:  ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾  

      هذا الكلام كذب، قال تعالى:  ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾  

      الإنسان مخير فيما كلف، ولوجود الأمر والنهي في القرآن الكريم، معنى ذلك: أنك مخير لمجرد وجود الأمر والنهي في القرآن الكريم، معنى ذلك: أنك مخير، ولا يعقل أن تكون مسيراً، وأن يأمرك الله بأمر أو ينهاك عن شيء، الأمر ليس له معنى، والنهي ليس له معنى، ولكنك لست مخيراً في أمك وأبيك، هل اخترتهما؟ أبداً.   

      قال لي أحدهم: والدتي متعبة جداً، قلت له: طلقها، قال: كيف؟ قلت له: هذا قدرك، أنت مسير، أمك وأبوك وبلدتك وعصرك، وكونك ذكراً أو أنثى، وقدراتك العامة هذه ليس لك فيها اختيار، ولكن اعتقد اعتقاداً جازماً أنها لصالحك، يعبر عن هذا بقول الإمام الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان  

      ليس في إمكانك أبدع مما أعطاك فيما سيرك به، وحينما يأتي يوم القيامة، ويكشف الله لك حكمة ما ساقه إليك، لماذا عشت في السبعينيات، ولم تكن في العشرينات؟ لماذا كنت في الشرق الأوسط، ولم تكن في شيكاغو مثلاً؟ لماذا جئت من أم وأب مسلمين ولم تكن من أم وأب وثنيين فرضاً؟   

      حينما يكشف الله لك يوم القيامة الحكمة من هذه الأشياء التي قدرها لك, ينبغي أن تذوب كالشمعة شكراً لله, على أنه أعطاك أنسب شيء لصالح إيمانك، وسعادتك الأبدية، لذلك: إذا أجبر الله عباده على الطاعة سقط الثواب، ولو أجبرهم على المعصية سقط العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة:  

      إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.   
      أخطر موضوع في العقيدة: موضوع ما إذا كان الإنسان مخيراً أو مسيراً؛ مسير فيما تكلمت ، ومخير فيما كلفت به.   

      ولكن الآن بالضبط دققوا في هذا المثل: تركب مركبة، والقيادة بيدك، أنت حر في قيادتها، والإشارة حمراء، وأنت مخير أن تلتزم بالقانون، أو أن تخترق القانون، أنت حينما تلتزم بالقانون تبقى مخيراً، أما حينما تخترق القانون تفقد اختيارك، لست مخيراً في قبول المخالفة أو عدم قبولها، لو أن المخالفة سحب الإجازة، أو حجز السيارة، أو إيداعك في السجن، أنت حينما اخترت خرق القانون فقدت اختيارك.  

      الإنسان في الدنيا حينما يختار أن يعصي الله عز وجل ، الآن يسوق الله بلية وتأديباً وعقوبةً, ليس الإنسان مخيراً في قبولها أو رفضها، إذاً: أنت مخير في قضايا كبرى في حياتك هي لصالحك، ثم إنك مخير فيما كلفت، وبعد أن تكلف وتخير, إما أن تبقى مخيراً بطاعتك لله، وإما أن تفقد اختيارك حينما تختار أن تعصي الله، عندئذ:  

      إذا أراد ربك إنفاذ أمر, أخذ من كل ذي لب لبه.  

      مع الله عز وجل لا ينفع الذكاء أبداً:  

      ولا ينفع ذا الجد منك الجد.   

الإيمان والكفر .  

      قضية الاختيار والتسيير من أخطر قضايا العقيدة.  

      يقول أحدهم: قال تعالى:  ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾  

      لكن:  ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾  

      أين اختيار الإنسان؟ أقول له: لقد ربط الله مشيئتك بمشيئته ربط فضل لا ربط جبر، لولا أن الله خلقك مخيراً، وشاء لك أن تكون مخيراً، واخترت الخير، ونعمت بالجنة، لولا أن الله شاء لك أن تكون ذا مشيئة، واستعملت المشيئة لصالحك، وكانت سبب دخول الجنة لما كانت.  

      الله عز وجل ربط كونك مختاراً, بأن الله من كرمه شاء لك أن تكون مخيراً، ليس هذا الربط ربط جبر، بل هو ربط فضل، فرق دقيق جداً، مثلاً:   

      قال تعالى:  ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾  

      يعني يا عبادي، إذا زعمتم، إذا توهمتم: أنني أجبركم على المعاصي والآثام فأنتم واهمون، قال تعالى:  ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾  

      إذا توهمتم وزعمتم أنني أجبركم على المعاصي، لا، لو كنت مجبركم على شيء, لما أجبرتكم إلا على الهدى، ولكن الهدى الذي تجبرون عليه لا يسعدكم، لذلك:  ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾  

      لو أن الهدى الذي تجبرون عليه يسعدكم, لأجبرتكم على الهدى، هذا معنى ولو شئنا إجبار هويتكم، ولو شئنا إلغاء أمانتكم، إلغاء تكليفكم، إلغاء اختياركم، وأجبرناكم على شيء, لما أجبرناكم إلا على الهدى.  

      إذاً: عندما تصح عقيدتك يحسن ظنك بالله، وحينما يحسن ظنك تكون قد عبدت الله.  

      عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:  ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ))  

      ولكن حسن الظن بالله ثمن الجنة، وغير المؤمنين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، إساءة الظن بالله أحد أكبر المشكلات التي تعترض المؤمن في حياته.   



المصدر: أحاديث رمضان 1425 هـ - ومضات ولقطات إيمانية - الدرس (14-64) : التخيير والتسيير