لقد رُكِّب الإنسان من عقل وشهوة وقد جاء الإسلام وهو دين الفطرة ليقيم توازناً دقيقاً عن طريق المنهج الرباني الذي رُسم للإنسان من خلال آيات القرآن، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبما أن الإنسان مُنح حرية الاختيار، هناك دائرة التكليف، والابتلاء، ونفسه هي الأمانة التي حملها، وقد أعطي حرية الاختيار ليثمن عمله، فيكون هذا العمل الذي اختاره سبباً لدخوله روضات الجنات، أو قد يكون هذا الاختيار الخاطئ سبباً للتردي في حفر النيران، وبما أن الإنسان خُلق ضعيفاً، ليفتقر إلى الله في ضعفه، فيسعد بافتقاره، ومن لوازم ضعفه أنه ينسى ويسهو، ويغفل ويغفو، ويضعف ويُغلب، فقد يعصي ربه، وقد يخرج عن المنهج الذي رُسم له، لهذا شرع الله للإنسان التوبة. وفي تشريع التوبة وقبولها صيانة لحركة الهداية في الأرض، إن التوبة مخرج النجاة للإنسان حينما تُحيط به خطيئاته، وهي صمام الأمان حينما تضغط عليه سيئاته، وهي تصحيح المسار حينما تُضلّه أهواؤه، وإنها حبل الله المتين الذي ينقذ الإنسان حينما تُغرقه زلاته. من أكبر نعم الله علينا أنه فتح لنا باب التوبة: ((وإذا رجع العبد العاصي إلى الله، نادى مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله)) . تصوروا لو لم تُشرع التوبة لهلك الناس، ولعمّ الفساد في الأرض، لأن الإنسان إذا طُرد من رحمة الله، لمجرد معصية واحدة، فلن يرجع إلى منهج ربه لانعدام الأمل في القَبول، ولِمَ يرجع وقد طُرد من رحمته؟ عندئذ سيعربد في الأرض انحلالاً، وانحرافاً، وطغياناً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أرحم بعبده من الأم بولدها)) حقيقة التوبة الرجوع إلى الله عز وجل، ولا يصح الرجوع إلى الله إلا بمعرفة الله، بمعرفته موجوداً وواحداً وكاملاً، هو الذي خلق، هو الذي يربي، هو الذي يسير، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى. و من معاني التوبة:
- معرفة الله أحد أكبر أسباب الرجوع إليه، ومعرفة أنه كان فارًّاً من ربه، لكنه أسيراً في قبضة عدوه الشيطان، وأنه ما وقع في مخالب عدوه إلا بسبب جهله بربه، وجرأته عليه، فلا بد من أن يعرف كيف جهل؟ ومتى جهل؟ وكيف وقع أسيراً؟ ومتى وقع؟ التوبة في معناها الأول الرجوع إلى الله عز وجل.
- والتوبة هي التخلص من العدو، والرجوع إلى الكريم الرحمن الرحيم، والسير على صراطه المستقيم.
- التوبة خلعُ ثياب المعصية، وارتداء ثياب الطاعة.
- التوبة ترك المحظورات وفعل المأمورات، والتزام فعل ما يحب الله، وترك ما يكره، وقد علّق الله سبحانه وتعالى الفلاح كله، الفلاح هو النجاح في الدنيا والآخرة معاً على فعل المأمور، وترك المحظور، فقال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فكل تائب مفلح، وكل تارك الأمر ظالم لنفسه أشد الظلم، وفاعل المحظور ظالم لنفسه أشد الظلم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
التوبة علم وحال وعمل:
- علم: لأن أول مرحلة في حلِّ أية مشكلة أن تعلم أن هناك مشكلة، وإن أول مرحلة في التوبة من الذنب أن تعلم أن الذي تقترفه هو ذنب، إذا تفقهت في الدين عرفت طاعتك من ذنوبك، بل عرفت ذنوبك من طاعتك، فلا بد من علم كي تعرف أن هذه الصفقة محرمة في دين الله، وأن هذه البضاعة محرمة، وأن هذا اللقاء محرم، وأن حضور هذه الحفلة محرم، كيف تعرف أنك مخالف للشريعة؟ ينبغي أن تعرف الشريعة، فلذلك طلب العلم شرط أساسي للتوبة. هذا الذي لم يبذل جهداً، ولم يُخصص وقتاً لمعرفة الله، ومعرفة أسمائه، أسماء ذاته، وصفاته، وأفعاله، كذلك لا يعرف مصادر المعرفة، ولا منهج المعرفة، كيف يتوب المرء من سوء الظن بالأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله من خيرة خلقه، وطهرهم، وزكاهم، وعصمهم، وجعلهم أسوة حسنة، وقدوة صالحة، ومثلاً أعلى لخلقه؟ لا بد من أن تطلب العلم لتعرف ما إذا كنت مذنباً أو غير مذنب، ما من مشكلة يعاني منها المجتمع البشري إلا بسبب الخروج عن منهج الله، الذي ارتضاه الله لعباده، وما من خروج عن هذا المنهج إلا بسبب الجهل، والجهل هو أعدى أعداء الإنسان، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به. التوبة علم، العلم بالله، والعلم بأمره، والعلم بأخطار الذنوب، وما يفوِّت على المرء من خير كثير، وما يجلب له من ضُر كبير، إن العلم بخطورة الذنب، وما يترتب عليها من آثار وبيلة تبدأ في الدنيا، وتمتد إن لم يتب إلى الآخرة.
- حال: إن هذا العلم يُولِّد حالة نفسية مؤلمة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الندم، فقال: ((الندم توبة)) حالة الندم يولدها العلم، والعلم يولد الإرادة، والإرادة تنتهي بالعمل.
- عمل: والفعل المتعلق بالمستقبل، فهو العزم الصادق الأكيد على ألا يعود إلى مقارفة الذنب، كما يكره الإنسان أن يُلقى في النار. أما الفعل المتعلق بالماضي فهو الاستغفار، إذا كان الذنب بين العبد وربه، والإصلاح إذا كان الذنب متعلقاً بحق آدمي، فإن حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة، لابد للتائب من أن يخرج من هذا التعلق إما بأداء الحق إلى صاحبه، أو إلى ورثته، أو بالتصدُّق عنه، أو باستحلاله منه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن تؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه)) لذلك، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
التوبة حقيقة الدين، والدين كله داخل في التوبة، لهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ولذلك يفرح الله الفرح العظيم بتوبة عبده المؤمن، فقد ورد في الحديث الشريف: ((إنّ الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد)) وهذه التشبيهات الثلاث من أبلغ التشبيهات. أراد الله أن يبين لنا كم يفرح الله فرحاً عظيماً إذا عدنا إليه، إذا رجع العبد العاصي إلى الله، نادى منادٍ في السماوات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله. عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم)) قال أحد العلماء: "من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه" .
إن كل جهل مهما عظمت نتائجه قد يُغتفر، إلا أن يجهل الإنسان سرّ وجوده، وغاية حياته، ورسالة نوعه، وحقيقة مهمته، وأكبر عارٍ على هذا المخلوق الأول المكرم، الذي آتاه الله العقل، ومنحه الإرادة، أن يعيش جاهلاً وغافلاً، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، لا يدري شيئاً عن حقيقة وجوده، ولا عن طبيعة عمله في الحياة، فيضل الطريق وينحرف عنه بسبب جهله، وغفلته، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع أن يفعله عدوه به. أو بسبب إغراء عابث، أو شهوة جامحة، فيهبط عن مستواه الإنساني، وتسقط قيمته النوعية، ويصل إلى الدرك الذي يعوقه عن النهوض بتبعات الحق والخير، عندئذ يبتعد عن التطهُّر والتسامي، ويندفع إلى تحقيق ذاته، وإشباع غرائزه، وإيثار مصالحه، فيبني مجده على أنقاض الآخرين، وغناه على إفقارهم، ويبني سعادته على شقائهم، ويظل كذلك في غفلته، ممعناً في طغيانه، حتى يوافيه الموت بغتة، فيواجه مصيره المجهول دون تنبه له، ولا استعداد، فيدفع ثمن غفلته، وجهله، وانحرافه، شقاءً أبدياً، يندم حين لا ينفع الندم، ويرجو الخلاص، ولات حين مناص، أما الإنسان العاقل فيبادر، ويسأل نفسه هذا السؤال، لماذا خُلقت؟ وما مهمتي في هذا الوجود؟ وما رسالتي في هذه الحياة؟ والقرآن الكريم يجيبه عن هذه الأسئلة قائلاً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.