بحث

رؤية الإسلام لأسباب هلاك الأمم

رؤية الإسلام لأسباب هلاك الأمم

بسم الله الرحمن الرحيم

     في زحمة الأحداث، وتسارع المتغيرات، وفي خضم تداعيات النوازل والمستجدات، وكثرة الأطروحات والتحليلات، يلحظ المتأمل غياباً أو تغييباً للرؤية الشرعية، والنظر في فقه السنن الكونية، هذه الاجتياحات، هذه الحروب، هذه الزلازل، هذه البراكين، هذه الأزمة العالمية النقدية، هذه الأحداث الكبرى التي زلزلت الأرض ألا تنتظمها قوانين؟ قال تعالى:  ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ قوانين، سنن، نواميس، تفسر بها كل هذه الأحداث:  ﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ حينما نسى الناس منهج خالقهم دبت بينهم العداوة والبغضاء، والأموال التي تنفق على الأسلحة تفوق حدّ الخيال، ولو أنها أنفقت على إعمار الأرض ما بقي إنسان جائع، ولا طفل مريض، ولا إنسان معذب.     هناك أمم تهلك ما هي أسباب هلاك الأمم في ضوء القرآن والسنة؟  

 

كثرة الفساد والخبث في الأرض:

     من أبرز أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد، وكثرة الخبث في الأرض، قال تعالى:  ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾  أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله    وخرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه، وكذبوا    رسله، فحق عليها القول، أي وجب عليها الوعيد، فدمرناها تدميراً، مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع، وأسند الفسق إلى قوم هم المترفون، فما تفسير ذلك؟ إما لأن غير المترفين تبعوا المترفين، جعلوهم قدوة لهم، رضوا بأعمالهم، أكبروا أفعالهم، أو أن بعضهم إن عصى الله، وبغى، وطغى، ولم ينكر عليه أحد هذه المعصية، وهذا الفسق والفجور، فكأن سكوت الناس عن فسق الكبراء ذنب يستحقون عليه العقاب، قال تعالى:  ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ وقال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((دخل عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))  في بعض الآثار: أن الله أرسل الملائكة ليهلك بلدة، قالوا: يا رب إن فيها صالحاً (فيها رجل صالح)، قال: به فابدؤوا، لِمَ يا رب؟ قال: لأن وجهه لم يكن يتمعر إذا رأى منكراً. أول أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد في الأرض، وكثرة الخبث، وأية أمة مهما قويت حينما يكثر فيها الخبث تستحق الهلاك، هؤلاء الذين وصلوا إلى الأندلس وفتحوها، ووصلوا إلى مشارف باريس كيف أهلكهم الله؟ حينما غرقوا في الخمور وفي القيان والغناء والجواري والغلمان، أخرجوا منها.   

 

عدم شكر النعم:

     سبب آخر من أسباب هلاك الأمم، عدم شكر النعم، نحن في هذا البلد الطيب نتمتع بالأمن، هذه نعمة يجب أن تشكروا الله عليها، نتمتع بالتواصل الأسري، هذه نعم لا يعرفها إلا من فقدها في بلاد أخرى. قال تعالى:  ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ الكفر كفر النعم، ورد في الأثر القدسي:  ((إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري، أهل مودتي، أهل شكري، أهل زيادتي أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها))  

 

ظهور النقص والتطفيف في الميزان ونقض العهود والمواثيق:

     من أسباب هلاك الأمم ظهور النقص، والتطفيف في الميزان، تحت هذه الكلمة يدخل كل أنواع الغش، بضاعة من مصدر معين أوهمت الشاري بأنها من مصدر معين، غش بالوزن، بالطول، بالمكيال، بالمواصفات، أنواع الغش لا تعد ولا تحصى، تطفيف الكيل والميزان، منع حق الله، وحق عباده، ونقض العهود والمواثيق، والإعراض عن أحكام الله تعالى، هذه الأسباب كلها مجتمعة في حديث واحد: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا،مرض الإيدز، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ من أجل كرة))  جعل الله بأسهم بينهم من أجل كرة، هذه أمة.   

 

التنافس في الدنيا:

     ومن أسباب هلاك الأمم: التنافس في الدنيا، قال النبي عليه الصلاة والسلام:  ((فَوَ اللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)) و قال عليه الصلاة والسلام:  ((اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ))  

 

التعامل بالربا وانتشار الزنا:

     هذا النظام العالمي المالي العملاق كيف انهار؟ بالربا والمتاجرة بالزنا، شراء الديون، وبيع الديون، والربا، والزنا، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾     يقول النبي عليه الصلاة والسلام:  ((مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))  

 

التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

     من أسباب هلاك الأمم: تقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقصير الأمراء في إزالة المنكرات.  ((مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ)) أي الأكثرية ملتزمة، والذين يجاهرون بالمنكرات قلة والأكثرية ساكتة، هذه مشكلة كبيرة،  ((كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟ قالوا: أوَ كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون؟ كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً)) الذي يكسب المال الحرام شاطر، والبنت غير المحتشمة سبور، والذي ينافق لكل الناس عنده ذكاء اجتماعي، فكل الموبقات والأعمال الخسيسة لها أسماء حديثة، والذي لا يهمه طاعة الله مرن، وهذا عنده موقف حضاري، هذه كلها كلمات تغطي بها النفوس الشاردة أعمال المنحرفين. الإمام الغزالي يقول: "  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو الذي بعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، لقد كان، فإن لله وإنا إليه راجعون ". هذا في عصر الإمام الغزالي فكيف في هذا العصر؟!   

مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم:

     قال تعالى:  ﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾  وقال الله عز وجل:  ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))  

 

الغلو في الدين:

     من أسباب هلاك الأمم: الغلو في الدين: يقول النبي عليه الصلاة والسلام:  ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ))  

     قال النبي عليه الصلاة والسلام:  ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ))  



المصدر: الخطبة : 1131 - ما هي أسباب هلاك الأمم ؟ - اهتمامات العرب .